نفسٌ كلها نور كلها وجه كلها عين

بعدما رأى حزقيالُ النَّبيُّ الطُّوباويّ المنظرَ والرُّؤيا الإلهيَّة المجيدة، قَصَّها وكَتَبَها منظرًا مُفعَمًا أسرارًا لا يُنطَق بها. فقد رأى في البقعة مركبة([1]) شاروبيم، وهي أربعة أحياء روحانيَّة لكلٍّ منها أربعة أوجه: أحدها وجهُ أسد، وآخر وجهُ نَسر، وآخر وجهُ ثور، وآخر وجهُ إنسان، ولكلِّ وجهٍ أجنحةٌ وكأنَّه ليس هناك ظَهْرٌ أو قفًا، ولـمَّا كانت ظُهورُها مملوءةً عيونًا وكذلك بطونها ملآنة عيونًا، لم يكن فيها موضعٌ ليس مملوءًا عيونًا([2]). وكانت هناك بَكَراتٌ لكلِّ وجه، بَكَرةٌ في بَكَرة، وكان هناك روحٌ في البكرات. ورأى مثلَ شبه إنسانٍ جالسًا فوقهم كمثل شبه إنسانٍ تحت قدميه مثل صَنعة العقيق الأزرق. وكانت مركبة الشَّاروبيم والأحياء تَحمل السَّيِّدَ الجالس فوقها، وأينما يريد المسير كانت تذهب بحسب ناحية وجهها، ورأى تحت الشَّاروبيم مثلَ يَدِ إنسانٍ تسند وتحمل.

2 – وهذا الَّذي رآه النَّبيُّ كان في جوهره حقًّا ويقينًا، وإنَّما كان يشير إلى شيءٍ آخرَ ويرمز إلى أمرٍ سرِّيٍّ وإلهيٍّ، إلى السِّرِّ المكتوم بالحقيقة منذ الدُّهور ومنذ الأجيال([3])، والَّذي أُظهر في الأزمنة الأخيرة بظهور المسيح([4]). فقد كان النَّبيُّ يرى سرَّ النَّفس المزمعة أن تَقْبَلَ ربَّها وتغدُوَ عرشَ مجدٍ له. ذلك أنَّ النَّفس الَّتي حُسِبَتْ أهلًا لشَرِكَة روح نور الرَّبّ واستُنيرت ببهاء مجده غَير الموصوف، والَّتي أعدَّها هو لتصير له عرشًا ومنـزلًا، تلك النَّفس تصبح كلُّها نورًا وكلُّها وجهًا وكلُّها عينًا، ولا يكون فيها أيُّ جزءٍ ليس مملوءًا من أعين النُّور الروحانيَّة هذه، أي لا يوجد فيها أيُّ جزء مظلم، بل لقد أضحَت بكلِّيتها نورًا وروحًا، مملوءةً عيونًا بالتَّمام، وليس فيها أيُّ جزء من وراء أو من خلف، فإنَّها تبلغ أن تصير بكُلِّيَّتِها وجهًا، يقودها ويجلس عليها البهاءُ الفائق الوصف الَّذي لمجد نور المسيح.

وكما أنَّ الشَّمس كلَّها متماثلة، ليس فيها جزءٌ من خلف أو جزءٌ ناقص، لكنَّها كلَّها مُجَلَّلَةٌ تمامًا بالنُّور، بل إنَّها بكلِّيتها نور، وبذا تصير كلًّا متماثلًا؛ وكما أنَّ النَّار أيضًا، أعني النُّور المتولِّد منها، يكون كلُّه متماثلًا، ولا يكون فيه أوَّلُ وآخِرُ أو أكبرُ وأصغرُ؛ هكذا النَّفسُ أيضًا الَّتي استُنيرت إلى التَّمام بالبهاء الفائق الوصف الَّذي لمجد نور وجه([5]) المسيح([6])، والَّتي اشتركَت بالكلِّيَّة مع الرُّوح القدس، وحُسِبَتْ أهلًا لأن تصير منـزلًا لله وعرشًا له، فإنَّها تصبح كلُّها عينًا وكلُّها نورًا وكلُّها وجهًا وكلُّها مجدًا وكلُّها روحًا. وهكذا يُعِدُّها المسيح ويسندها ويقودها ويرفعها ويحملها، وبهذا يُهيِّئُها ويزيِّنها بجمالٍ روحانيّ. ولأنَّه يقول: «كَانَتْ يَدُ إِنْسَانٍ تَحْتَ الشَّارُوبِيم» (حز 1: 8، 10: 8، 21)، فإنَّ ذاك الَّذي فيها (أي المسيح) هو الَّذي يحملها ويرشدها في الطَّريق.

عن “عظات أنبا مقار الكبير”
إعداد وترجمة عن اليونانية للراهب يونان المقاري


(([1]  هذه اللَّفظة ρμα = مَركبة لم تَرِدْ في سياق هذه الرُّؤيا (حز 1؛ حز 10)، لكنَّها وردَت في حز  43: 3س، حين كان النَّبيّ يسترجع هذه الرُّؤيا ويصفها بـ”رؤيا المركبة ἡ ὅρασις τοῦ ἅρματος“. ويجدر الذِّكر أنَّ رؤيا حز 1 كانت في السَّنة الخامسة من السَّبي، ورؤيا حز 10 كانت في السَّنة السَّادسة من السَّبي، أمَّا رؤيا حز 43 فكانت في السَّنة الخامسة والعشرين من السَّبي.

([2]) لا غَرْوَ أن تكون أولى عظات أنبا مقار عن ”الشَّاروبيم“، نظرًا للعلاقة القويَّة الخاصَّة جدًّا الَّتي كانت له مع هذه الطُّغمة السَّماويَّة الَّتي أرسلها له الرَّبُّ لتكون رفيقًا ومرشدًا له طوال أيَّام حياته حتَّى يوم نياحته. فنحن نقرأ في سيرته عدَّة مواضع توضِّح لنا هذه العلاقة العجيبة له مع الشَّاروبيم:

1 – أوَّل ظهور للشَّاروبيم للأنبا مقار كان قبل رهبنته وهو بعد جمَّالٌ، وقد سافر إلى وادي النَّطرون مع الأجراء ليحمل نطرونًا إلى مصر، وكان الكلُّ نيامًا وهو أيضًا، وإذا به يَرى في منامه إنسانًا نورانيًّا مُتَّشحًا بأسطوانة كالبرق السَّاطع، وهذه الأسطوانة مكلَّلة بالجواهر (عيون الشَّاروبيم)، وأخبره الشَّاروبيم أنَّ الله سيعطيه هذا الجبل ميراثًا له ولأولاده، يتفرَّغون فيه للصَّلاة، ويخرج منه رؤوسٌ ومقدَّمون. وأوصاه أن يتذكَّر هذا الكلام جيِّدًا ووعده بتكرار ظهوره له مستقبَلًا (الرَّهبنة القبطيَّة في عصر ق. أنبا مقار –  الأب متَّى المسكين – الطَّبعة الثَّالثة ص 62).

2 – بعد تجربة أنبا مقار الشَّديدة، الَّتي اتُّهمَ فيها بالخطيئة، وبعد ظهور براءته، وعِلْمِه بأنَّ أهل القرية مزمعون أن يأتوا إليه ويعتذروا له ويكرموه، وقف يصلِّي طالبًا الإرشاد أمام مذبح الكنيسة، وإذا به يشاهد عن يمينه كاروبًا ناريًّا له ستَّة أجنحة وكلُّه مملوءٌ عيونًا، فشدَّده وقوَّاه وعزَّاه. ثم ظهر له ثانيةً وهو يصلِّي في اللَّيل وقاده إلى الجبل المقدَّس وأوصاه بالسُّكنى هناك، ثم في آخر كلامه خاطبه قائلًا: ”أمَّا أنا فسأكون كلَّ وقت معك كأمر الله“ (المرجع السَّابق ص 67).

3 – يذكر كتاب ”فضائل أنبا مقار“ فقرة 1، افتقادًا عجيبًا من الشَّاروبيم للأنبا مقار، إذ ظهر له ووضع يده على قلبه، كما لو كان يزن قلبه، وقال: وزنتُ قلبك، وسوف يُطلَق اسمك، اسم قلبك، على هذا الجبل ( ميزان القلوب ϣⲓϩⲏⲧ). ولما قال الشَّاروبيم هذا، صَلَبَ أنبا مقار، وقال له: قد صلبتُ نفسك مع المسيح، فاصلِبْ أنت نفسك معه في زينة الفضائل ورائحتها العطرة.

Amélineau, Histoire des Monastères de la Basse-Égypte – p.118))

  4 – ذُكر في نهاية زيارته الأُولى للأنبا أنطونيوس أنَّه قام ورجع إلى جبله، وجلس في قلايته صامتًا … وكان الكاروبيم يفتقده دائمًا (المخطوطة العربيَّة س 18 – مكتبة دير أنبا مقار).

5 – وحتَّى عند نياحته ظهر له الكاروبيم الَّذي كان معه منذ الابتداء ومعه جمع كثير من الرُّوحانيِّين، وقال له: أسرع وتعالَ، فإنَّ هؤلاء كلَّهم ينتظرونك (المرجع السَّابق).

([3]) انظر: كو 1: 26.

([4]) انظر: 1بط 1: 20.

([5]) كلمة πρσωπον يمكن ترجمتها وجه (مت 17: 2؛ لو 9: 29؛ 2كو 4: 6)، أو شخص (2كو 1: 11).

([6]) انظر: 2كو 4: 6.

نُشر حديثًا

تبرع لمساندة أنشطة الدير ونشكر أي مساهمة منكم مهما كانت صغيرة.

ويمكنكم التبرع لمشروع إخوة الرب وهو مشروع لمعونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل) أسسه الأب متى المسكين ويعوله دير القديس أنبا مقار.

Donate to support the Monastery’s activities or for the “Archangel Michael Coptic Care” program which helps orphans and needy people in Egypt.
FOR US CITIZENS
“Archangel Michael Coptic Care” has been registered in the USA to serve and help the poor of Egypt in a significant way. Our Tax ID # is: 43-1957120. Your contribution is all TAX DEDUCTIBLE. You will receive a yearly report of your contribution for your tax record. Please write the check to: Archangel Michael Coptic Care. Mail your check to: P.O. Box # 1574, Centreville, VA 20122, USA or donate with credit card or Paypal.