فيض الحب

”مَنْ يترحَّم على إنسان، يصير باب الرب مفتوحًا لطلباته في كل ساعة“ (الشيخ الروحاني)

 

«وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقُولُ لَهُمُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (مت 25: 31 – 40).

المسيحية والعطاء وجهان لعُملة واحدة، كلاهما حاضر بحضور الآخر في أعماقه. 

وبصفة عامة فإن حياة العطاء مطوَّبة حسب قول الكتاب: «مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنْ الأَخْذِ» (أع 20: 35).

في البداية دعنا نرى معنى فيض الحب:

  1. الإنسان بحاجة إلى أن يعطي:

إذ يحقِّق هذا وجوده وكيانه ويُشعره بقيمته وآدميته، وهذا الشعور هو إحدى مكونات الشخصية الناجحة، حتى أن علماء النفس كثيرًا ما يذكرون أن العطاء مصحوب براحة قلبية.

لذلك عندما يُعطي أب ابنه الصغير مالًا لكي ما يضعه الصغير في صندوق العطاء، فإنه يزرع هذه الفضيلة فيه منذ الصغر، بل وينمِّي شخصيته. وكذلك الأب الذي يساعد أولاده لكي ما يقدِّموا هدية لوالدتهم أو صديق لهم في أي مناسبة فإنه ينمِّي داخلهم هذه الفكرة ويشبع هذه الحاجة.

  1. الله ليس محتاجًا على الإطلاق لما نُعطيه:

مهما كان ومهما ارتفعت قيمته المادية أو المعنوية، والسبب أن الله هو مصدر كل عطية … فهو الخالق والواجد لهذا العالم، ويعقوب الرسول يُذكِّرنا:

«كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلَا ظِلُّ دَوَرَانٍ» (يع 1: 17).

فكلما يحبك المسيح أظهر محبتك له بفيض ووفرة.

  1. العطاء وسيلة للتعبير عن مشاعرك نحو الله:

تأمل معي في قصة السامرية حين قابلها رب المجد وقال لها: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» (يو 4: 7)، فهو له المجد لم يكن محتاجًا للماء، لأن من عنده تجري كل الأنهار، وإنما كان في حاجة أن يعرف حقيقة مشاعرها الداخلية نحوه.

وفضيلة العطاء أو الصدقة تُشكِّل إحدى ركائز الحياة الروحية (صوم + صلاة + صدقة)، والمعروف أن كلمة ”صدقة“ وكلمة ”صِدِّيق“ من أصل لغوي واحد، فكأن الصِدِّيق هو الذي يصنع الصدقة.

وعندما قال سليمان الحكيم: «اذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ» (جا 12: 1)، إنما كان يتحدَّث بلغة العطاء، لأنه معروف أن حياة الإنسان تنقسم إلى مراحل متتابعة: (الطفولة – النضج/الرجولة – الشيخوخة) … المرحلتان الأولى والثالثة هما مرحلتان أخذ، أمَّا المرحلة الثانية وتحوي في داخلها مرحلة الشباب إنما هي مرحلة عطاء بالدرجة الأولى …

وأنت يا صديقي تستطيع أن تعطي في فترة شبابك ورجولتك أكثر من أي مرحلة أخرى.

لك أن تسألني الآن ماذا أعطي؟ هل مالًا … أم وقتًا … أم ماذا …؟

إني أجيبك: إن ما تستطيع أن تقدِّمه لا يمكن حصره، إنما تستطيع أن تتخيَّل معي سلمًا عليه خمس درجات في ترتيب تصاعدي تمثل درجات العطاء.

بل ويمكن أن تمزج بين هذه الدرجات الخمس، فالصلاة هي عطاء وقت وقلب وتسبيح … وفي خدمة الآخرين يكمُن عطاء المال والوقت والجهد والحب، وهكذا …

وهنا لا يمكننا أن ننسى أن قمة العطاء الذي بلا حدود هو في تجسُّد ربنا يسوع فهو الذي أعطانا دمه الثمين على عود الصليب، وها هو كل يوم يقدِّم نفسه ذبيحة لأجلنا من خلال القداس الإلهي.

وإليك هذه القصة:

بالرغم من الطقس البارد والثلج المتساقط، كان يجلس هذا الصبي، خارج منزله الحقير، ولم يرتدِ في رجليه سوى حذاءً رقيقًا، لا يصلح حتى لأيام الصيف. لقد كان يحاول بأقصى جُهده ليفكِّر عمَّا يقدر أن يقدِّمه لأُمه بمناسبة عيد الميلاد، لكن من غير نتيجة، فقد حاول كثيرًا. حتى لو استطاع أن يفكر في شيء ما، فليس بحوزته شيء من المال، فمنذ وفاة والده، وهم يعيشون في حالة فقر دائم، فكانت والدته تعمل بأقصى جهدها لأجل أولادها الخمسة. فلم يكن لها إلَّا دخلٌ ضئيلٌ، لكن تلك الأم بالرغم من فقرها، كانت تحب أولادها محبة بلا نهاية.

كان هذا الصبي حزينًا للغاية، فلقد استطاع إخوته الثلاثة، إعداد هدية لأمه، أمَّا هو وأخيه الصغير، فلم يستطيعا شراء أي شيء، واليوم هو آخر يوم قبل عيد الميلاد. مسح هذا الصبي دموعه، ثم أخذ يسير باتجاه المدينة، ليلقي نظرة أخيرة على الأماكن المزيَّنة والمحلات المليئة بالهدايا والألعاب. كان ينظر من خلال الواجهات، إلى كل ما في الداخل، وعيناه تبرقان، كان كل شيء جميلًا للغاية، لكن لم يكن بمتناوله عمل أي شيء.

بَدَت الشمس تعلن عن مغيبها، فهَمَّ هذا الصبي بالعودة إلى المنزل، وهو يسير حزينًا مُنكَّس الرأس … وفجأة إذ به يرى شيئًا يلمع على الأرض، اندفع هذا الصبي مسرعًا، وإذ به يلتقط 10 قروش من على الأرض … ملأ الفرح قلبه، وإذ به يشعر وكأنه ملك كنزًا عظيمًا، ولم يعد يبالي بالبرد، إذ كان في حوزته عشرة قروش …

دخل أحد المحلات، علَّه يستطيع شراء شيء ما، لكن يا لخيبة الأمل، فقد أعلمه البائع، بأنه لن يستطيع شراء أي شيء بـ 10 قروش، دخل هذا الصبي محلًا آخر لبيع الورود، كان هناك العديد من الزبائن، فانتظر دوره … بعد بضع دقائق، سأله البائع عمَّا يريد … قدَّم هذا الصبي إلى البائع الـ 10 قروش التي في حوزته، ثم سأل إن كان بإمكانه شراء وردة واحدة لأمه بمناسبة عيد الميلاد. نظر صاحب المحل إلى هذا الولد الصغير مليًّا، ثم أجابه: انتظرني قليلًا … سأرى عمَّا باستطاعتي عمله … دخل البائع إلى الغرفة الداخلية، ثم بعد قليل عاد وهو يحمل في يديه اثنتي عشرة وردة حمراء، لم يَرَ هذا الصبي نظيرها في الجمال من قبل، ثم أخذ صاحب المحل، يضع بجانبها الزينة وغيرها، ثم وضعها بكل عناية في علبة بيضاء، وقدَّمها إلى ذلك الصبي، وقال: 10 قروش من فضلك أيها الشاب. هل يُعقَل ما يسمع؟ لقد قال له البائع السابق … لن تستطيع شراء أي شيء بـ 10 قروش … فهل يُعقَل ما يسمعه؟ … شعر البائع بتردد الولد فقال له: أنت تريد أن تشتري ورود بـ 10 قروش، أليس كذلك؟ فإليك هذه الورود بـ 10 قروش، فهل تريدها … بكل سرور أجاب الولد، معطيًّا كل ما لديه للبائع … فتح البائع الباب للصبي، ثم ودَّعه قائلًا: عيد ميلاد سعيد يا ابني …

عاد البائع إلى منزله، وأخبر زوجته بالأمر العجيب الذي حصل معه في ذلك اليوم، فقال لها: في هذا اليوم وبينما أُحضِّر الورود … جاءني صوت يقول:

اختر 12 وردة حمراء من أفضل الورود التي لديك، وضعها جانبًا … لهدية خاصة … لم أدرِ معنى هذا الصوت، لكني شعرت بأنه ينبغي عليَّ أن أطيعه، وقبل أن أغلق المحل، جاءني صبي صغير تبدو عليه علامات الفقر والعوز، راغبًا أن يشتري لأمه وردة واحدة، ومقدِّمًا لي كل ما يملك 10 قروش … وأنا إذ نظرت إليه، ذكَّرتُ نفسي، كيف عندما كنت في سنه، كيف لم أملك أي شيء لأُقدِّم لأمي في عيد الميلاد، وذات مرة صنع معي إنسانٌ لم أعرفه من قبل معروفًا … لم أنسه إلى هذا اليوم … امتلأت عينا الرجل وزوجته بالدموع، ونظرا إلى بعض، وشكرا الله.

ومن هذه القصة نرى كيف يكون العطاء:

1 – بالمحبة:

أترى كيف كان حب هذا الولد لأمه … لا بد أن تكون المحبة هي الدافع الأول وراء صِدق المشاعر التي نُقدِّم بها عبادتنا وعطايانا لله وللآخرين، وكما قال سفر النشيد: «إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ، تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا» (نش 8: 7).

فأنت لا تقدِّم مدفوعًا بشعور الواجب أو الخجل أو الاضطرار، ولا حبًّا في الكرامة والتقدير، أو طلبًا للإعلان أو المديح … إنما من قلب فيَّاض بالمحبة.

2 – بسخاء:

طلب الولد الصغير وردة واحدة قيمتها عشرة قروش، فأعطاه البائع اثنتي عشرة وردة من أجمل ما يكون … هذا هو العطاء الحقيقي بدون حساب للماديات، لأن الله ينظر ويعرف والكتاب يقول: «الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ» (رو 12: 8). لأننا بذلك نتمثَّل بـ «اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلَا يُعَيِّرُ» (يع 1: 5). والعطاء هذا كالزرع «مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ» (2كو 9: 6). ولذلك نسميه فيض الحب.

3 – بفرح وسرور:

أترى كيف كان الولد الصغير والبائع سعيدَين بعطائهما … يقول الكتاب المقدَّس: «الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ» (2كو 9: 7). والوصية تقول: «مَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ» (مت 5: 41). (والمقصود بالميل الثاني أنك ذهبت راضيًا حرًّا).

كلما أعطيت، كلما نِلت فرحًا وسرورًا وسلامًا.

ولكن عندما تُعطي احرص أن يكون:

(1) أفضل ما عندك:

إن العطاء هو مشاعر قبل أي شيء ومشاعرنا نُعبِّر عنها بأفضل ما عندنا. إن هابيل الصدِّيق قدَّم أفضل ما عنده من الذبائح، بينما أخوه قايين اختار تقدمة من ثمار الأرض دون أن يدقِّق فيها (تك 4: 4 – 5) إن هذا المبدأ ينطبق في حياتنا العملية بأمثلة كثيرة منها:

ª اختيار الوقت الأفضل المناسب للصلاة كالصباح الباكر … أفضل وقت.

ª اختيار الذهن النشط المناسب لقراءة الكتاب المقدَّس … أفضل تركيز.

ª تقديم النقود في حالة جيدة، وليس القديم أو المُستهلَك … أفضل صورة.

ª تقديم التسابيح والألحان بأفضل ما عندنا من أنغام وأصوات … أفضل نغم.

(2) أن تكون في الخفاء:

وليس هناك أبلغ من قول الكتاب: «لَا ‏تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ» (مت 6: 3)، ويعتبر هذا مبدأ مشترك في كل أركان العبادة … أمَّا إن كان العطاء طلبًا للدعاية أو لنوال مركز أو لمدح الذات، فإنه يفقد قيمته بل ويصير دينونة.

(3) أن تكون ذا نفع لمَنْ تُعطَى له:

فليست العبرة أن تعطي وحسب، إنما حسب احتياج الآخرين لهذا العطاء.

لا تنسَ هذه الوصية كما توضِّحها الآيات التالية:

ª «لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ» (1أي 29: 14).

ª «مَنْ يَرْحَمُ الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ» (أم 19: 17).

ª «هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ … وَجَرِّبُونِي» (ملا 3: 10).

ª «أَعْطُوا تُعْطَوْا» (لو 6: 38).

ª «لِيُعْطِكَ (الرب) حَسَبَ قَلْبِكَ» (مز 20: 4).

ª تدريب: اقرأ بتأمل المزمور 41.

البابا تواضروس الثاني

نُشر حديثًا

تبرع لمساندة أنشطة الدير ونشكر أي مساهمة منكم مهما كانت صغيرة.

ويمكنكم التبرع لمشروع إخوة الرب وهو مشروع لمعونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل) أسسه الأب متى المسكين ويعوله دير القديس أنبا مقار.

Donate to support the Monastery’s activities or for the “Archangel Michael Coptic Care” program which helps orphans and needy people in Egypt.
FOR US CITIZENS
“Archangel Michael Coptic Care” has been registered in the USA to serve and help the poor of Egypt in a significant way. Our Tax ID # is: 43-1957120. Your contribution is all TAX DEDUCTIBLE. You will receive a yearly report of your contribution for your tax record. Please write the check to: Archangel Michael Coptic Care. Mail your check to: P.O. Box # 1574, Centreville, VA 20122, USA or donate with credit card or Paypal.