بحث تاريخي



أهم الأديرة القبطية بنقادة
- 1 -

الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي

أستاذ الآثار والفنون القبطية

ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس

بداية ظهور حركة الرهبنة القبطية:

أدَّى دخـول المسيحية مصـر، في منتصف القرن الأول الميلادي، إلى بداية عصور اضطهاد ديني طويلة عانَى منها المسيحيون الأوائل بشدَّة، مِمَّا دفعهم إلى الهروب إلى أطراف البلاد النائية وإلى الصحاري المصريـة، لمُمارسة شعائـرهم الدينية بعيداً عـن بطش الأباطرة الرومان الذين كانوا يحكمون بلادهم في هذا التوقيت. فكان هذا إيذاناً ببدء ظهور حياة الديريـة أو حركة الرهبنة القبطية بأنواعها المختلفة. وبذلك تكون مصر هي أول مَن أَهدى نظام الرهبنة إلى العالم أجمع.

وبعد أن أصبحت المسيحية الديانـة الرسمية لمصر، في النصف الثاني مـن القـرن الرابـع الميلادي، في أثناء حُكْم الإمبراطـور الروماني ثيئودوسيوس Theodosius، قـام المصريـون المسيحيون بتحويـل كثير مـن المعابد المصرية القديمة إلى كنائس وأماكن للعبادة، ثم بدأ التوسُّع في إنشاء الأديـرة والكنائس القبطية في سـائر الأقطـار المصريـة بشكـلٍ ملحوظ على مـر العصور المختلفة. وتُعتَبَر أديـرة البحر الأحمر ووادي النطرون وسوهاج وأسـوان، مـن أهـم المواقع الأثريـة المسيحية في مصر التي يزداد توافُـد الأقباط والسائحين والأثـريين والدارسين عليها يوماً بعد يوم من كلِّ بلاد العالم.

مؤسَّسة القديس مرقس

لدراسة التاريخ القبطي:

وفي 6-11 فبرايـر 2008م، عقـدت مؤسَّسة القديـس مـرقس لـدراسـة التـاريـخ القبطـي Saint Mark Foundation for Coptic History المؤتمر الدولي الرابع للمسيحية والرهبنة القبطية في نقادة بقنا، بهدف تسليط الأضواء على أديـرة نقادة وقوص لِمَا لها مـن أهمية كبيرة مـن النواحي الحضارية والتاريخية والأثرية والفنية.

وشارَك في هـذا المؤتمر الهام نُخبة مُتميِّزة من العلماء والباحثين والدارسين المُتخصِّصين في مجال الدراسات القبطية مـن مختلف دول العالم وجامعاتها (اللوحة رقم 1).

وصاحَبَ هذا المؤتمر بعض الزيـارات الميدانية الأثريـة، بالإضافـة إلى كثير من الجـولات الحُرَّة والاحتفالات الشعبية التي عُـرِضَت بها ألوان مـن الفنون الشعبية المختلفة بمحافظة قنا (اللوحة رقم 2).

اللوحة (1)

الأستاذ الدكتور/ ستيفن إميل Stephen Emmel أستاذ القبطيات بجامعة مونستر بألمانيا خلال حفل افتتاح المؤتمر الدولي للرهبنة القبطية في محافظة قنا

اللوحة (2)

بعض العروض الشعبية التي تضمَّنتها الاحتفالات ال‍مُصاحبة للمؤتمر الدولي للرهبنة القبطية في محافظة قنا

وتحـرص ”مؤسَّسة القديس مـرقس لدراسة التاريخ القبطي“، على عَقْـد مثل هـذا المؤتمر الدولي في أواخر شهر يناير أو بداية شهر فبراير كل عامين في موقع من المواقع الأثرية المسيحية المختلفـة والمُنتشـرة في مختلف المحافظـات المصرية، للتعريف بها وإعادة إحياء ما بها مـن تـراث ثقافي قبطي عـالمي. وقـد عُقِدَ المؤتمر الدولي الخامـس للرهبنـة القبطية في محافظة المنيا سنة 2010م، ثم بعد ذك في أسوان عـام 2012م، ثم في ديـر مـار مينا العجائبي غرب مدينة الإسكندريـة سنة 2015م. كما عُقِدَ هـذا المؤتمـر الدولي الهام عامَي 2017م و2019م في ديـر القديس أنبا بيشوي بوادي النطرون.

وتُعتَبَر أديرة نقادة مـن أهم الأديرة الأثرية القبطية التي وَرَدَ ذِكْرهـا في المصادر التاريخية وبعض المخطوطـات القبطية، وفـي كثير مـن كتابات الرحَّالة الذين وفدوا إلى مصر بداية مـن القرن السادس عشر الميلادي. ومـن أهم هـذه الأديـرة الأثريـة: ديـر الصليب المُقـدَّسThe Holy Cross Monastery، وديـر مار جرجس المعـروف بـديـر المجـمـع Saint George Monastery، وديـر مار بقطر بـن رومانوس Saint Victor son of Romanus Monastery، وديـر رئيس الملائكة ميخائيـل بقامـولا (حالياً قريـة الشـيخ عـامـر) Monastery of the Archangel Michael؛ إضافة إلى ديـره بقرية المنشية بنقادة، وديـر القديس أندراوس المعروف بديـر ”أبـو الليف“ أو ديـر ”أبـو ليفا“ Saint Andreas Monastery، ودير القديس بيسنتاؤوس (بيسـنتي) Saint Pisenthius. ويرجـع بنـاء أديـرة الصليب المقدَّس والشهيد مار جرجس أو ديـر المجمع ومار بقطر بـن رومانوس ورئيس الملائكة ميخائيـل بقامـولا إلى الفترة مـا بين القرنين الرابع والسابع الميلاديَّين. أمَّـا الأديـرة الأخـرى، فقـد شُيِّدت فيما بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلاديَّين.

دير الصليب المقدَّس:

ويقـع ديـر الصليب المقـدَّس على الضفة الغربية لنهر النيل بزمام حاجـر دنفيق بمركـز نقادة على الطريق الرئيسي قفط – الأقصر. وقد شُيِّد هـذا الديـر أواخر القرن الخامس الميلادي تقريباً، وظلَّ عامـراً بالرهبان حتى الفتح العربي لمصـر بقيادة عمرو بـن العاص سنة 21هـ/ 641-642م. وكـان بالديـر كنيسـة الصليب المقدَّس وإلى الشمال منها كنيسة القديسة مـريم العذراء وكنيسة القديس يوحنا المعمدان. وأشـار كثير مـن الرحَّالة الأوروبيين إلى هـذا الديـر لاسيما ”فانسليب“ Vansleb سنة 1667م و”كلود سيكارد“ C. Sicard في القـرن الثامـن عشـر الميلادي. كما حرص بعض الباحثين على وصف أجـزاء الديـر المختلفة وصفاً تفصيلياً ورَسْـم المساقط الأفقية لمبانيه القديمة التي تساقطت تماماً سنة 1917م. وفي عـام 1918م، بُنِيَت كنيسـة جديدة بالديـر، عُرِفَت باسم كنيسة القديس شنودة رئيس المتوحِّديـن وأحـد أهـم مؤسِّسي حركة الرهبنة القبطية في سوهاج في القـرن الخامس الميلادي، بالإضافـة إلى تشييد مباني أخـرى حديثة مُحاطة بسور خارجي، وقد وصفها ”أوتو ميناردوس“ Otto F. Meinardus بدقَّة.

دير الشهيد مار جرجس:

كما شُيِّد ديـر الشهيد مار جرجس أو ديـر المجمع على ربـوة عالية في غـرب قوص إلى الجنوب من ديـر الصليب، وإلى الشمال من دير مـار بقطر بـن رومانوس على الضفة الغربية أيضاً للنيل بزمـام بحري بقامـولا غـرب نقادة وفي مواجهة قريـة صوص (اللوحـة رقم 3). ومِن ثمَّ فهو يبعد عن مركز نقادة بحوالي 10 كم تقريباً. ويُعتَبَر ديـر المجمع الذي بُنِيَ في نهاية القرن الرابع الميلادي أو في بداية القرن الخامس الميلادي، مـن أكبر الأديـرة القبطية بالمنطقة وتُحيط به كثير من المقابر القديمة. وأشار يوحنا ابـن سعيد بـن يحيى بـن مينا بـن قُلزومي Yuhanna ibn Sa'id، وأيضـاً أبـو صـالـح الأرمنـي Abu Salih the Armenian الـذي عاش في بداية القرن الثالث عشر الميلادي؛ إلى هذا الدير باسم ديـر الأنبا بيسنتاؤوس (بيسنتي) أسقف قفط في بدايـة القـرن السابـع عشـر الميلادي، كما سيلي ذِكْره لاحقاً.

اللوحة (3)

كنيسة القديس يوحنا بدير الشهيد مار جرجس

أو دير المجمع بنقادة

ويُعتَقَـد أنَّ الأمـر قـد اختلط على هذيـن المؤرِّخين، حيث إننا بصدد ديريـن يختلفان عن بعضهما البعض. ويرجع سبب تسمية الدير باسم دير المجمع إلى كونه كـان يحتوي على مؤونة الأديرة الأخرى بالمنطقة في يومٍ ما. وربما كان قيام رهبانـه بالإشراف على الأديـرة المُجاورة له هـو سبب أصل هـذه التسمية. ويرى بعض الباحثين أمثال ”وينلوك“ و”كرام“ Winlock and W. E. Crum أنَّ اسم المجمـع يُعتَـبَر مُرادفـاً للكلمة العربية ”الشركـة“ أي حياة الشركـة أو الرهبنة الجماعية التي أسَّسهـا القديـس باخـوم Saint Pachomius في القرن الرابـع الميلادي. وبهذا الدير مجموعة كبيرة من قلايات الرهبان، بالإضافة إلى خمس كنائس للشهيد مار جرجس ومار يوحنا والقديسة مريم العذراء؛ أمَّا الكنيستان المُتبقيتـان، فهمـا مُكرَّستان لـرئيس الملائكـة ميخائيل. وعُثِرَ في كنيسة مار جرجس البازيليكية التخطيط على بقايا رسومات جداريـة في شرقية الهيكل. وقـد ظلَّ ديـر المجمع عامراً بالرهبان حتى نهاية العصر الفاطمي تقريباً.

دير القديس بيسنتاؤوس:

وعلى بُعْد حوالي 10 كم جنوب غـرب نقادة بحاجر صوص وبَعْـد مسافـة 200 متر تقريباً جنوب شرق دير المجمع، يوجـد ديـر القديس بيسنتاؤوس (بيسنتـي) أسـقف قـفط (548-631م)، الذي عاش ومات ودُفِنَ في هـذا المكان بنـاءً على وصيتـه. وفي سنة 1904م، أُلحقت بالدير كنيسة جديـدة يُعتَقَد أنَّ بها رفات القديس بيسنتاؤوس حتى الآن تحت المذبح الأوسط.

وذَكَرَ ”كرام“ هـذا الديـر سنة 1926م باسم ديـر القصـص Monastery of Tsenti؛ كمـا ذَكَـره كذلك ”عبد المسيح المسعـودي البراموسي“ سنـة 1936م، وأكَّـد أنـه مُشيَّـد على بُعْد 400 متر جنوب ديـر مـار جرجس أو ديـر المجمـع وفقـاً للخرائط الأثريـة المنشورة عـامَي 1943م و1956م، غـير أنَّ ”أوتـو ميناردوس“ لم يُشِـر إلى هـذا الدير في مؤلَّفاته.

دير مار بقطر بن رومانوس:

كما بُنِيَ ديـر مار بقطر بـن رومانوس في غرب النيل أيضاً إلى الشمال الغربي مـن قرية قامـولا، وعلى بُعد حوالي 12 كم جنوب نقادة وإلى الجنوب من دير المجمع بما يقرب من 2 كم تقريباً. وهـو يتبع إيبارشية نقادة وقوص. ويُعتَقَد أنَّ أحـد رهبان هـذا الديـر ويُدعى أثناسيوس Athanasius كان أسقف قوص في القرن الرابع الميلادي. وتُحيط القلايات الأثريـة بالديـر على مستويين من كلِّ ناحية (اللوحة رقم 4). وبالدير كنيسة واحدة أثرية ما زالت بها بعض الرسومات الجدارية والنقوش القبطية الهامة.

اللوحة (4)

إحدى قلالي الرهبان الأثرية بدير مار بقطر بن رومانوس

وفي شمال هذه الكنيسة، اكتُشِفَ رواق يؤرَّخ من العصر المملوكي، وكانت تُغطِّيه قباب ضحلة ذات مثلثات كرويـة مـن نوعٍ نادر في مصر، سقطت كلها ولم يتبـقَّ منها شيء. وفي جنـوب غرب هـذا الديـر، عُثِرَ على مدفنين مهجورين يرجع تاريخهما إلى العصر العثماني. وقـد أشار ”أبو صالح الأرمني“ إلى هـذا الدير الذي ذَكَره أيضاً كلٌّ من ”فرنسوا“ Francois و”فانسليب“ في القرن السابع عشر الميلادي؛ بالإضافة إلى ”كلود سيكارد“ سنة 1718م، والذي أكَّد أن بـه كنيسة واحـدة فقط. وفي عام 1948م، أُضيفت كنيسة جديدة إلى الجنوب من بقايا كنيسة الدير القديمة.

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis