أواخر الآيام
وحياة الدهر الآتي
- 6 -


الدينونة العامة للبشر
”وسيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات“
(قانون الإيمان)
- 3 -

كيف تتم عملية الدينونة؟
عملية الدينونة: من حيث الوقوف أمام دينونة عادلة، إلى فحص وامتحان، إلى قضاء الله والمجازاة. كل هذه الإجراءات تظهر في سَرْد الإنجيل للدينونة الأخيرة.

العامل السابق للدينونة: الضمير:

الضمير هو الديَّان الباطني المُسْبَق للإنسان. فكل الكائنات الموشَّحة بالعقل، أي بنو البشر، هم ”ناموس“ أي ”شريعة“ لأنفسهم: «لأنه الأُمم الذين ليس عندهم الناموس (الشريعة)... هم ناموسٌ لأنفسهم، الذين يُظْهِرون عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم (بمعنى ”ضمائرهم“)، شاهداً أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مُشتكية أو مُحتجَّة، في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر (ضمائر) الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح» (رو 2: 14-16).

فما يحدث في ضمير الإنسان قبل مجيء يوم الدينونة، سوف يحدث بصورة كاملة شاملة في الدينونة الشاملة: «لأنه لابد أننا جميعاً نُظْهَر أمام كرسي المسيح، لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيراً كان أم شرّاً» (2كو 5: 10).

مقياس الدينونة:

بحسب عمل كل واحد وهو في الجسد:

إن المقياس الذي على أساسه ستجري الدينونة هو مشيئة الله المقدَّسة، حيث سيتم ذلك بعدل ”بحسب أعمالهم“: «ودِينَ الأمواتُ مِمَّا هو مكتوبٌ في الأسفار (أي الكُتُب المقدسة) بحسب أعمالهم» (رؤ 20: 12)

وتتفاوت المسئوليات من واحد لآخر: فالبعض يحمل مسئولية أعظم من غيره لكونه نال مواهب أعظم كالقادة والرؤساء والرعاة والذين رأوا رؤى ومعجزات. والبعض الآخر تكون مسئولياتهم أقل، كما قال المسيح للذين صنع في مدنهم معظم معجزاته وآياته: «ويلٌ لكِ يا كورزين! ويلٌ لكِ يا بيت صيدا! لأنه لو صُنِعَت في صور وصيداء القوات (الآيات والمعجزات) المصنوعة فيكما، لتابتا قديماً في المُسُوح والرماد» (مت 11: 21). وهكذا سينعكس مقياس النور والحق والمعرفة التي تمتَّع بها الكثيرون، أو كانت مُتاحة أمامهم ولم يقبلوها، سوف يظهر أثره يوم الدينونة النهائية.

+ كما أنَّ الذين كان وما زال عندهم ناموس موسى ونبوَّات الأنبياء، التي شهدت لهم للمسيح، سوف يُدانون بمقياس غير ما سيُدان به الذين لم يكن لديهم هذا الامتياز حسب قول المسيح في مَثَل الوكيل الأمين الحكيم والعبد الكسلان (لو 12: 41-48): «وأما ذلك العبد الذي يَعْلَم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته، فيُضرب (يُعاقَب) كثيراً. ولكن الذي لا يَعْلَم... يُضرب (يُعاقَب) قليلاً».

+ والذين لم يسمعوا الإنجيل، فسوف يُدانون بحسب شريعة طبيعتهم وضمائرهم المرتشدة بعقولهم، وبالشريعة الطبيعية المكتوبة في قلوبهم (رو 2: 15،14)، كل شعب على حِدة.

+ وأمَّا الذين سمعوا الإنجيل، فسوف يُدانون ”بحسب الإنجيل“. والدينونة النهائية ستُسلِّط الضوء على ما إذا كان الشخص قد استجاب أو لم يسْتَجِبْ لعطايـا الله المجانية التي وهبها له في شخص المسيح بالمعمودية والأسرار المقدسة.

+ وهل استجاب أو لم يَسْتَجِبْ المؤمن، بصدق القلب، لنعمة الله التي أرسلها الله في المسيح لمعونة البشر: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بَذَلَ ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه لم يُرسِل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليَخْلُص به العالم» (يو 3: 17،16).

+ «الذي يؤمن به لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دِينَ، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد» (يو 3: 18).

+ وهكذا يكون برُّ الله الذي يَهَبُ الإنسانَ الخلاص يوم الدينونة، هو البرُّ الذي يناله بإيمانه بالمسيح يسوع (في 3: 9).

الدينونة ستكون ”بحسب أعمال كل واحد،

إن كان خيراً أو شرّاً“:

لكن الإيمان بالمسيح لا يعني أن أعمال الإنسان ليس لها مكان في عملية الدينونة، بل بالعكس تماماً. فالقديس بولس يؤكِّد على أنَّ الكل سوف يُدان بحسب أعمال ”كل واحد“. فالأعمال هي نتاج الإيمان بالمسيح، فهي تظهر في المحبة: «في المسيح يسوع... الإيمان العامـل بالمحبة» (غل 5: 6). فليس هناك إيمان ”غير عامل“ بالمحبة.

+ وليمتحن كل مؤمن بالمسيح نفسه: هل إيماني عامل بالمحبة؟ هل يُظهِر إيماني صِدْقه بأعمال الرحمة على كل محتاج إلى محبتي؟ هل يُظهِر إيماني صِدْقه بمحبة الأعداء والمغفرة لهم؟ هل إيماني بالمسيح يظهر في خدمتي للمسيح شخصياً في أشخاص المحتاجين كما هو ظاهر في المَثَل الذي قاله المسيح في (مت 25: 31-46) عن الجياع والعِطاش والغرباء بلا مأوى والعرايا والمحبوسين وكل مَن هو محتاج إلى محبتي؟ وليتنبَّه كل مؤمن بالمسيح أنَّ هذا المَثَل كان يقوله المسيح في معرض وصفه لكيفية حدوث الدينونة النهائية لكل إنسان التي ستتحدَّد نتيجتها على أساس خدمة المسيح في أشخاص هذه النفوس المحتاجة إلى محبة المؤمنين بالمسيح. فالأمر خطير وحاسم!

+ وقد أكَّد المسيح على العلاقة بين نتيجة الدينونة وبين أعمال الرحمة الموجَّهة لمَن اعتبرهم المسيح كمَن هو الذي تُوجَّه إليه هذه الأعمال، وذلك في مَثَل ”الغَني ولعازر“ الوارد في إنجيل لوقا 16: 19-31. ولعلَّ كلام المسيح في نفس الأصحاح 16 عدد 9: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلم، حتى إذا فنيتُم يقبلونكم في المظال الأبدية»، يُشير إلى العلاقة بين الرحمة نحو المحتاجين وبين الرحمة لصانعي الرحمة يوم الدينونة. وأمَّا ”مال الظُّلم“، فهو أموال هذا العالم. أمَّا ”الأصدقاء“، فهُم الذين عمل معهم الإنسان الرحمة وهو في هذا العالم، فبالرحمة التي صُنِعَت مع هؤلاء تصير الرحمة خير شفيع لصانعي الرحمة وهم واقفون أمام الله في الدينونة الأبدية. ويظهر هذا أيضاً في أحاديث أخرى للمسيح عن الرحمة: «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» (مت 5: 7). وقد أفصح عن نفس هذا المبدأ القديس يعقوب الرسول: «الحُكْم (الدينونة) هو بلا رحمة لمَن لم يعمل رحمة، والرحمة تفتخر على الحُكْم (الدينونة)» (يع 12: 13).

+ الإيمان هو الينبوع الفيَّاض بالمحبة، والأعمال هي التعبير الصريح عن المحبة: ويوضِّح ذلك القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، عن: «عمل إيمانكم، وتعب محبتكم، وصبر رجائكم» (1تس 1: 3).

ما يزرعه الإنسان في هذا الدهر،

إيَّاه يحصد في الدهر الآتي:

فما يزرعه الإنسان هنا لكي يُرضي شهواته، فمِن نفس هذه الشهوات سوف يحصد الدمار والهلاك. وأمَّا ما يزرعه الإنسان ليُرضي الروح القدس الذي فيه، فمِن الروح نفسه سوف يحصد الحياة الأبدية: «لا تضِلُّوا! الله لا يُشمَخ عليه. فإنَّ الذي يزرعه الإنسان إيَّاه يحصد أيضاً. لأنَّ مَن يزرع لجسده فمِن الجسد يحصد فساداً، ومَن يزرع للروح فمِن الروح يحصد حياة أبدية» (غل 6: 8،7).

+ فكل إنسان هو صانع أبديته بحصاده ثمار اختياراته في هذا الدهر. شخصية الإنسان هي التي تصوغ نوع المصير. فحرية الإنسان التي ترشدها المشيئة الإلهية لا تغصبها هذه المشيئة الإلهية ضد حريتها. فكل الكائنات العاقلة يمنحها الله النعمة اللازمة لخلاصها إنْ كان الإنسان يتشارك معها بحريته. ومن هنا يكون مسار الإنسان في هذا الدهر هو الذي يُحدِّد مصيره الأبدي الذي يتبلْور بحسب اختيار الإنسان، وليس بالقهر. لكن لا ننكر هنا وجود بعض الحتميات الجينية (الخِلْقية) أو الاجتماعية أو البيولوجية أو الحضارية التي قد تفرض - في بعض الظروف - على الإنسان سلوكاً مُخالفاً لمشيئة الله. لكن تظل حرية استجابة مثل هذا الإنسان أو عدم استجابته لهذه الحتميات هي الفيصل في عملية الدينونة.

الدينونة هي حَدَثٌ قادم، وليس مجرد رمز:

إنَّ تصوير الدينونة على نمط المحاكم الأرضية، هو محاولة تصويرية لتصوير حَدَث قادم خارج عن أحداث هذا الدهر الحاضر، حيث لا يمكن تصوير الدينونة بأدوات لغاتنا البشرية تصويراً واقعياً. فـ ”صوت البوق“، ”وتغيُّرنا في لحظة في طرفة عين“، و”الديَّان (القاضي)“، و”تمييز الخراف عن الجداء (جمع ”جَدْي“ أي ذَكَر الماعز)“، و”أورشليم الجديدة“؛ كل هذه الصُّوَر هي كلمات تصويرية لأذهاننا المحدودة في مدى تصوُّراتها، وهي تُوجِّه أبصارنا إلى حَدَث الدينونة الذي لابد آتٍ، بالرغم من محدودية هذه التصويرات.

+ لذلك فبالرغم من هذه اللغة الرمزية التي يستخدمها الإنجيل ليُشير بها إلى حَدَث الدينونة الأخيرة، فإنه من الخطأ الفادح أن ننظر إلى ”الدينونة النهائية“ كأنها ليست حَدَثاً حقيقياً آتياً، أو أن يختزلها أحد في مجرَّد تعليم تصويري، كما يُحذِّر من ذلك القديس إيرينيئوس أسقف ليون(1).

+ كما أنه ليس من الحكمة أن ننظر إلى الدينونة الأخيرة على أنها عملية حاضرة مستمرة تاريخياً، وليست حَدَثاً سيحدث بالتحديد مُنهياً على التاريخ والزمن.

+ إن الدينونة الأخيرة هي حَدَثٌ، الله وحده هو الذي سيقوم به. إنه عمل لا يمكن اختزاله في مجرد دينونتنا نحن لأنفسنا، كما لا يمكن تفسيره سيكولوجياً، أو توجيهه سياسياً، ولا هي عملية ستتم ذاتياً في التاريخ.

+ كما لا يصحُّ أن تؤخذ صورة قاعة المحكمة البشرية بطريقة حرفية صارمة، ولا تؤخذ بصورة تفسيرية روحية. فأنْ يُقال إن الأسفار (أي الكُتُب) تُفتَح، فلا يعني أنها من ورق وحبر، ولكن المسيح نفسه قيل عنه إنه سِفْر أو كتاب الحياة، أو سفر حياة الخروف، الذي يستتر فيه المؤمنون، وأسماؤهم مكتوبة فيه (رؤ 5: 1-9؛ 13: 8)، وهم الذين سيملكون مع المسيح في ملكوته الأبدي.

الدينونة هي تكميل عمل الخِلْقة ثم الخلاص:

فأنْ تحدث الدينونة، فإنَّ الرب سيقود خاصَّته أي أهل بيته إلى المجد، حيث سيملكون معه إلى الأبد. ومع الدينونة الأخيرة، سيكتمل تدبير الخلاص، ويأتي إلى أوج وغاية مقصد الله من تدبير الفداء.

+ وفي الدينونة سيكتمل عمل الروح القدس في تقديس الإنسان ما بدأه الله في خِلْقة الإنسان، حينما نفخ فيه نسمة الحياة أي الروح القدس (تك 2: 7). كما سيكتمل عمل الروح القدس ما بدأه الله يوم معمودية كل إنسان، وما بدأه الله مع الكنيسة يوم الخمسين؛ كل هذا سيبلغ إلى قمة وغاية اكتماله، أي إلى استعلان ملكوت الله بقوة، بقول المسيح لخاصته في اليوم الأخير: «تعالوا يا مُبارَكي أبي، رِثُوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 25: 34).

+ أمَّا سلطان إبليس فسوف يُقيَّد إلى الأبد: «وإبليس الذي كان يُضِلُّهم طُرِحَ في بحيرة النار والكبريت، حيث الوحش والنبيُّ الكذَّاب. وسيُعذَّبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين» (رؤ 20: 10).

+ ثلاثة أحداث مصيرية في تاريخ البشرية تفوق كل أفهامنا: الخِلْقة الأولى، الفداء، الخِلْقة الجديدة. وأمَّا كل بداية ونهاية لكل حَدَثٍ من هذه الأحداث، فهي سرٌّ يتَّصل بسرِّ الله الثالوث نفسه.

+ والآن، كيف يُعِدُّ الإنسان نفسه لأحداث الدينونة الأخيرة؟ في كل مرة نتناول من سرِّ الإفخارستيا، ونذكر موت المسيح وقيامته وإلى مجيئه الثاني، مؤمنين بكلمات موعد المسيح بأنه سيُقيمنا، كل واحد، في اليوم الأخير؛ بهذا يُعِدُّ الإنسان نفسه ليوم الدينونة العتيد.

(يتبع)

(1) Ad Her., V 35; ANF, Vol. I, p. 565.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis