بمناسبة قراءات
الأحد الثاني من كيهك


موقف العذراء
القديسة مريم
من بشارة الملاك


للأب متى المسكين

فوجئت العذراء الصبية بنت الأربعة عشر ربيعًا – بحسب التقليد – بمنظر الملاك الفائق المجد وهو يطمئنها قبل أن يبادرها بالبشارة: «سَلاَمٌ لَكِ أَيـَّتُهَا المُنْعَمُ عَلَيْهَا! الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ» (لو 1: 28). كان الحدث فائقًا على تصوُّرها وعلى بساطة اتضاعها. ولكن بنطق الملاك بالسلام حلَّ السلام في قلبها المضطرب، وبالنطق بالنعمة حلَّت النعمة ونالت العذراء السعادة الداخلية. ولمَّا تفكَّرت ما عسى أن يكون هذا السلام وهذه التحية السخيَّة، عاد الملاك ليطمئنها أيضًا: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لو 1: 30-33).

لم يعطها الملاك شيئًا من عنده، بل أعلمها فقط بما قد صار لها وفيها. فمع نطق البشارة كانت النعمة تعمل عملها للحال وفي التوِّ! ولمَّا ابتدأت تخاف بدَّد الملاك خوفها: ”لا تخافي“، ومع النطق كان الفعل. كان كلام الملاك بعد أن دبَّ السلام في قلب العذراء وسندتها النعمة، كنغمات ترنيمة عذبة في صباح مُشرق. ولكنها انتبهت بعقلها لتتساءَل: أأحبل وألد وأنا لا أعرف رجلًا؟!

لقد سبقت العذراء وخطبت نفسها لله قبل أن يخطبها يوسف، فكيف تحبل وقد تقدَّس الجسد؟ والجسد إذا تقدَّس اشتعل نارًا بشبه العُلَّيقة. فالعذراء هنا لا تشكُّ في بُشْرَى الملاك، ولكنها تدافع عن عفتها التي نذرتها لله وحده! فإن كان الله قد أعدَّها لنفسه، فقد أعدَّت هي نفسها لله أيضًا، فمن أين تأتيها ثمرة البطن والبطن تقدَّست لله. فإن تساءَلت: كيف يكون لي هذا؟ فهي تستدرج الملاك ببساطتها ليبوح بالسر!

وهنا أعاد الملاك حساباته وراجع كلمات البشارة لتنطق بالسر: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لو 1: 35). فالأمر قُضِيَ وانتهى «الرَّبُّ مَعَكِ»! هنا فهمت العذراء وأحسَّت معًا، في قول الملاك يسري الفعل أيضًا. فقول الله فعل!! وحينئذ قالت العذراء كلمتها فكان لها كما أراد الله: «لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ = fiat(1)» (لو 1: 38) أي ليصنع الله ما يشاء؛ حيث حلول الروح هنا هو أول حلول عُرِفَ عنه أنه لإلقاء بذرة الحياة الإلهية في رحم امرأة!

وللحال كشف الملاك الغطاء عمَّا تمَّ: فالمولود منها ”قدوس الله هو“، «فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لو 1: 35). هنا «قدوس الله» ليس لقبًا هو بل كيان إلهي: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو 10: 30). فإن كان الابن قد خرج من الحضن الأبوي فقد خرج ولا يزال الحضن يحتويه: «الاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18)، «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ» (يو 3: 13). فإن كان مجيء الابن إلى التجسُّد حمل معه سر الاتحاد بالآب؛ فعودته للآب، ونحن فيه متَّحدين، يعطينا ذات الاتحاد: «أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ.» (يو 14: 20)

لأنه بمجرَّد أن اتَّحد بجسدنا حصلنا على المقابل الحتمي إذ صرنا به متحدين، فالذي أكمله من الاتحاد بالإخلاء والاتضاع، نكمِّله نحن بالإيمان بذات الاتضاع. فالذي صنعه هو بجبروت تنازله وإخلائه من المجد الذي له ليتحد ببشريتنا، طرحه لنا مجَّانًا ليكون حقـًّا لكل بشر – كل مَنْ يؤمن – إذ لا يستطيع أن يمنع بشرًا يطلب ما له في الله: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا» (يو 6: 37). لقد آمنت العذراء بهذا «فَقَالَتْ: هُوذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو 1: 38)، فكان.

عظيمة هي العذراء بنت إبراهيم؛ فكما آمن إبراهيم «فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ (إيمانه) لَهُ بِرًّا...» (تك 15: 6)؛ هكذا آمنت العذراء بنفس الإيمان فحلَّ في أحشائها ذلك الذي به ستتبارك كل أُمم الأرض وتتبرَّر. لقد أكملت العذراء إيمان إبراهيم فأُكمِلَ الوعد! وكأن بهذا الحوار الذي تمَّ بين العذراء والملاك، أُكمِلَتْ قصة إبراهيم وتمَّ الوعد.

وتراءى للملاك أن يعطيها علامة ملموسة لتعلم صحة الأمر ردًّا على ”كيف يكون لي هذا“؛ إذ فاتحها عن حال نسيبتها أليصابات، كيف وهي عاقر الآن هي حُبلى في شيخوختها، وهوذا الآن لها ستة أشهر في حملها! فإن كان هذا قد صار ممكنًا عند الله، فليس شيء غير ممكن لدى الله. وكأن الملاك قد أوعز إليها بزيارة نسيبتها لترى وتؤمن وتصدِّق وعد الله. فآمنت مريم المملوءة نعمة بيقين الإيمان بغير الممكن ليكون! «فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ.» (لو 1: 45)(2)

إذن، فالبشرية قد حَصُلَ في عمقها انفتاحٌ على الله. فلولا أن البشرية أفرزت عذراءَ مثل هذه، ما تنازل الله ليجد في أرضنا كيانًا يرتاح فيه. فها هي البشرية تحمل ابن الله لمَّا حملت به العذراء. فإن لزم لزومًا شديدًا أن تتقدس العذراء ليحل فيها مولود السماء، إلَّا أنه لما ولدته تقدَّست به البشرية كلها. فإن كانت العذراء استضافته تسعة أشهر، فقد استوطنت فيه البشرية أبد الدهر. فهو ابننا بحسب النبوة: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ...» (إش 9: 6).

وما عادت السماء وما عاد أبوه يستردُّه منَّا إلَّا ونحن فيه. فكما انفتح بالسر الإلهي بطن العذراء وحلَّ فيها، فقد انشق جسده بسر الموت على الصليب وحللنا فيه. وكما أخذ جسدنا مولودًا، أخذنا جسده قائمًا من بين الأموات. وكما ”ظهر الله في الجسد“، ظهر الإنسان وتراءى أمام الله في ذات الجسد.

هذا حَدَثٌ مهيب، سماوي هو، تترامى أصداؤه إلى السماء وسماء السموات ويردِّده الأبد. فهو يملك علينا ولا يكون لملكه نهاية، ونحن نملك معه ونرث فيه إلى كل ميراث الله! ولولا أن أسماعنا أصابها التلف لسمعنا أكثر من هذا، ولسوف نسمع! (3)

__________________________________

(1) ”Fiat“ كلمة مختصرة يقولها الملوك وتعني: ”ليكن“ أو ”يُعمل به“، ويقولها الطبيب على التذكرة الطبية لينفِّذها الصيدلي وهي تُستخدم لوصف كلمة الله الخالقة: ”ليكن Fiat نور“.

(2) من كتاب: المسيح، حياته وأعماله صفحة 32 – 34.

(3) من كتاب: الإنجيل بحسب القديس لوقا صفحة 102.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis