من التراث الكنسي


مفهوم الشركة الكنسية
KOINONIA
(3)
الأب أنتوني م. كونيارس



الجسد الإلهي ينشط بالرُّوح القُدُس:

كما أنَّ جسدنا يتكوَّن من ملايين الخلايا, وكله يحيا بنفس واحدة، وتتحكَّم فيه رأس واحدة، ويرأسه عقلٌ واحد، كذلك كلنا الذين قد اندمجنا في جسد السيِّد المسيح من خلال المعموديَّة، وسرِّ الميرون والإفخارستيا نكون خلايا في جسد المسيح الواحد. نحن واحد لأننا نحيا بروح واحد، الذي هو الرُّوح القدس, ويرأسنا رأس واحد لا يتجزَّأ يسوع المسيح الذي هو رأس الجسد.

يقول القدِّيس أوغسطينوس:

[كما أنَّ الرُّوح للجسد، هكذا الرُّوح القدس للكنيسة].

إذ قد تخلَّلتنا النِّعمة والمجد، فإننا نصبح حسب الكتاب المقدَّس:

1- شعب الله.

2- جسد المسيح.

3- هياكل للرُّوح القدس.

كلمة كنيسة لا يُقصَد بها على الإطلاق في أي موضعٍ من الكتاب المقدَّس البناء. لو قُلنا لأحد المسيحيِّين الأوائل: ”يا لها من كنيسة جميلة“ وأنت تشير إلى المبنى, فلن يفهم ماذا تقول. الكنيسة لا يُقصَد بها مبنى بل جسد المسيح, شعب الله.

كيف سيفعل الله ذلك بدونك؟

لذلك نحن نسأل، هل هناك خطأ ما في مكان ما يجب تصحيحه؟ كيف سيفعل الله ذلك بدونك؟ هل يوجد خوفٌ ما يجب أن يُخفَّف في قلب مضطرب؟ كيف سيخفِّف الله هذا الخوف بدونك؟ هل هناك شخص يحتاج إلى الإرشاد إلى طريق أعلى؟ كيف سيقوده الله إلى هناك بدونك؟ هل هناك بيت مزَّقته الكراهية يحتاج إلى حُبِّ المسيح؟ كيف سيجلب المسيح هذا الحُب إلَّا من خلالك؟ نقرأ نحو نهاية العهد الجديد: «وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ من عُيُونِهِمْ» (رؤ 21: 4), هذا ما سيفعله، ولكنه يحتاج أن يستخدم كلماتك وتعاطفك واللمسة الحانية ليدك لتفعل هذا. المسيح يحتاجك. يحتاجني! هو يحتاج كلًّا منَّا. اليوم نحن المسيحيِّين نصنع الجسد الوحيد الذي يمكن للمسيح أن يعمل من خلاله, ليصنع حبَّه وسلامه الحقيقيَّين للعالم. كَتَبَ C.S. Lewis يقول:

”يبدو أنَّ الله لا يفعل شيئًا من نفسه, بينما يمكن أن يفوِّضه إلى مخلوقاته“.

تُرِكَ شاب صغير مسيحي مؤمن من غير طعام أو حذاء بعد مصيبة ألمَّت به، فقال له شخص غير مؤمن: ”لو كان الله يحبُّك, أما كان يُرسل إليك الطعام والحذاء؟“ أجابه الولد: ”الله قال لشخص ما أن يفعل ذلك، لكنَّه يبدو أنَّه نسيَ“! كم عدد المرَّات التي ننسى فيها؟

فالكنيسة إذن عليها علامات سيِّدها - الإله الذي اتَّخذ له جسدًا: «الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا» (يو 1: 14). فمِن جهة، الكنيسة كائن إلهي، يرجع أصلها إلى الله، يسكنها الرُّوح القدس، ويحكمها المسيح، الرئيس الوحيد؛ ومن جهة أُخرى, فهي بشريَّة تمامًا, متجسِّدة في آلاف التجمُّعات، اللِّجان، القوائم الماليَّة، تعهُّدات الأسهم, والمجتمعات الكنسيَّة؛ جميع الآليات اللازمة للنشاط البشري. هكذا، مثل المسيح، فإنَّ الكنيسة جسد إلهي تحكمه الشَّركة koinonia, أي أنها إلهيَّة وبشريَّة معًا.

ثلاث مظاهر لجسد المسيح:

بدلًا من تعريف الكنيسة باصطلاح شكلي رسمي، فالإنجيل يستخدم تنوُّعًا عظيمًا من التشبيهات والصُّوَر الشعريَّة ليصفها. الكنيسة هي المبنى الذي يكون فيه المسيح هو الأساس, كما أنَّ الكنيسة عروس لعريسها المسيح.

القدِّيس يوحنا ذهبي الفم يصف جسد المسيح كالآتي:

[هو (المسيح) يجمعنا إلى الوحدة عن طريق العديد من الصُّوَر ... هو الرَّأس، نحن الجسد؛ هو الأساس، نحن البناء؛ هو الكرمة، نحن الأغصان؛ هو العريس، نحن العروس؛ هو الرَّاعي، نحن الخراف؛ هو الطريق، نحن الذين نمشي فيه؛ ومرَّة أُخرى، نحن الهيكل، هو السَّاكن enoikos؛ هو الابن الوحيد، نحن الإخوة؛ هو الوارث، نحن الوارثون معه؛ هو الحياة، نحن الأحياء؛ هو القيامة، نحن القائمون؛ هو النُّور، نحن المضيئون. كلُّ هذه الأشياء تشير إلى الوحدة؛ ولا تسمح بفاصل زمني فارغ، ولا حتى الأصغر].

الكنيسة أيضًا هي الجسد الذي رأسه المسيح: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا» (1كو 12: 27). نستطيع أن نقرأ هذه الآية بثلاث طُرُق مختلفة.

أولًا: نستطيع التركيز على المسيح: ”أنتم جسد المسيح“, وبكلمات أُخرى، الكنيسة ليست المجتمع الذي صنعناه نحن, ولكن يرجع وجودها إلى حياة وموت وقيامة مُؤسِّسها وليس لأيِّ تصميم بشري. لا يمكن أن تكون الكنيسة صادقة في طبيعتها إذا كانت تعكس فقط آراء أولئك الذين هم أعضاء فيها أو هم قادتها الرسميِّين. إنها حقًّا تكون الكنيسة عندما تمثِّل السيِّد المسيح وتتكلَّم بِـِ ”فِكر المسيح“, وهي تفشل أن تكون الكنيسة لو أنها تُعلن فقط ما يحب النَّاس أن يسمعوا: ”أنتم جسد المسيح“.

أنتم جسد المسيح

ثانيًا: نستطيع التَّركيز على كلمة "أنتم": ”أنتم جسد المسيح“, لم تعتمد الكنيسة في شهادتها للمسيح على القدِّيس بولس، ليس على قائدٍ واحدٍ، بل على الكورنثيِّين المسيحيين كجسد. ولكن من هم مسيحيُّو كورنثوس؟ كانوا مسيحيِّين عاديِّين جدًّا مع الكثير من أوجه القصور والفشل الذي يتناول القدِّيس بولس جزءًا كبيرًا منه في رسائله الاثنين ليوبِّخهم على خطاياهم, ومع ذلك يصرُّ على أنهم هم الذين يمثِّلون المسيح الممجَّد في مدينة يفتخرون فيها بالإباحيَّة الجنسيَّة. في وسط مثل هذه المدينة الخاطئة، كان من خلال هذه المجموعة الصغيرة من أناس متناقضين, عرفت المدينة ماذا يعني المسيح لحياتها: ”أنتم جسد المسيح“.

جميعنا طاقم

يُخبرنا ليزلي نيوبيجين Leslie Newbigin أنَّه في الهند تمَّ تدريب المعمَّدين الجُدُد ليوصِّلوا إيمانهم حالًا بعد المعموديَّة لغير المسيحيِّين, فبعد أن يعتمدوا يُرسَلون إلى القرى المحيطة ليوصِّلوا لجيرانهم الذين يعبدون الأوثان ما أخذوه في التَّعليم المسيحي ويقدِّموهم للمعموديَّة. قال مارشال مكلوهان Marshal Mcluhan ذات مرَّة: ”لا يوجد رُكَّاب في سفينة الفضاء, جميعنا طاقم قيادة“. هذه حقيقة خاصَّة عن الكنيسة كجسد المسيح. المجد الفائق للمسيحي أنه/أنها جزء من جسد المسيح على الأرض. فليس فقط الكاهن الذي رُسِم عليه أن يقوم بعمل الكرازة ونشر الأخبار السَّارة عن يسوع. بل يتمُّ تخصيص كلَّ شخص عادي في الأرثوذكسيَّة في كهنوت المؤمنين من خلال تقديس سرِّ الميرون. عمل مجلس الإيبارشيَّة ليس مجرَّد مناقشة المسائل العَلمانيَّة ”التجاريَّة“ للإيبارشيَّة، ولكن أن يُدعِّم مع الأسقف والكاهن كل المهام الروحيَّة لرسالة الكنيسة كجسد المسيح: ”أنتم جسد المسيح“.

نحن عادة نسمع الناس يقولون: ”الكنيسة يجب أن تفعل شيئًا ما بخصوص هذا“, وننسى أننا نحن الكنيسة.

الجسد ليس وحدات منفردة:

ثالثًا: يمكننا التَّركيز على كلمة جسد: ”أنتم جسد المسيح“, ليس فقط على أنها مجموعة من وحدات منفردة منعزلة، كلُّ فرد يقف كمتوحِّد، بل جسد تبدو فيه كل الأعضاء منسوجة ومتماسكة معًا في رباط مشترك للمسيح.

إلى أي مدى يتم التعبير عن هذا التأكيد على الجسد, تجده في القدَّاس الأرثوذكسي والأيقونات! حوائط الكنيسة مغطَّاة بالقدِّيسين لتجعلنا نشعر أننا عندما نأتي إلى الكنيسة لنصلِّي, فنحن نأتي كأعضاء في عائلة الله، جسد؛ عائلة قائمة في السَّماء وعائلة قائمة على الأرض في الإيبارشيَّة المحليَّة. الجميع يصلِّي ويعمل معًا كجسد واحد لربِّنا. نحن لا نصلِّي بمفردنا؛ نحن نصلِّي معًا، كعائلة، كجسد ربّنا. لا تكون العصمة في أيِّ عضو واحدٍ بمفرده (مثل الأسقف أو البطريرك) بل في الجسد كله، الكنيسة، حيث الرُّوح القدس يرشد إلى كل الحق. تتمُّ اتخاذ قرارات المجمع المسكوني بواسطة الأساقفة, لكن المتعارف عليه ألَّا تكون معصومة من الخطأ فقط إلَّا بعد أن تصدِّق عليه كل الكنيسة، رجال الدِّين والشَّعب. الكنيسة الأرثوذكسيَّة هرميَّة لكنَّها أيضًا مجمعيَّة, ليست فقط هرميَّة. هي تتكوَّن من أشخاص عاديِّين عَلمانيِّين, الإكليروس, والأساقفة. هي ليست فقط أناسًا عاديِّين وليست فقط آباء كهنة، وليست فقط أساقفة، لكنَّها جميعها تشكِّل جسدًا واحدًا, يوجِّهه ويحرِّكه ويُنعشه ويُحييه الرُّوح القدس.

مبدأ الجماعيَّة The Sobornost Principle

اقتبس أليكسيس خومياكوف Alexis Khomiakov بموافقة الاجتماع الخاص بالبطاركة الشرقيِّين (1848) ما ذكروه أنَّ العصمة في عقيدة الكنيسة الأرثوذكسيَّة لا تكون في يد البابا فقط, بل: ”في مسكونيَّة الكنيسة المرتبطة ببعضها البعض من خلال الحبِّ المتبادَل. مِثل هذه العصمة: لا يُعهَد بها إلى رعاية تسلسل هرمي واحد, ولكن إلى جميع أبناء الكنيسة، الذين هم جسد المسيح“.

وجهة نظر خومياكوف في الكنيسة أنها كمجتمع عضوي من الحب, كان لها تأثير عميق على التطوُّر اللاحق على التعليم الكنسي للأرثوذكس الرُّوس, وشكَّلت معنى مصطَلَح الجماعية the sobornost, والذي أصبح مفهومًا مركزيًّا في لاهوت التَّعليم في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية sobornost هو مصطلح يُمكن ترجمته إلى: ”جماعيَّة أو تكاتف“, وهو مصطلح يعبِّر عن التَّركيز والتأكيد الأرثوذكسي الشَّرقي على المجمعيَّة مقابل التَّعليم الكاثوليكي الرُّوماني للعصمة البابوية, والميل البروتستانتي نحو الفرديَّة.

لخَّص الأب توماس هوبكوThomas Hopko هذا بوضوح عندما كتب:

”والأمر الأكثر أهميَّة لنا لنراه اليوم، ولنفهمه بوضوح أنَّ كنيسة الله والمسيح هي الملء الكلِّي للمؤمنين, وليس فقط رجال الدين المرسومين. شعب الله وجسد المسيح وهيكل الرُّوح القُدُس, لاهوتيًّا, وروحيًّا, وقانونيًّا يُشير دائمًا إلى الكنيسة ككل, وليس على الإطلاق إلى عدد المُؤمنين القليلين المعمَّدين والذين تمَّت سيامتهم كأساقفة أو كهنة أو شمامسة لخدمة جسد المؤمنين المعمَّدين كلَّهم“.

الفرديَّة وجسد المسيح:

عدوٌّ آخر لوحدة جسد المسيح هو الفرديَّة. يصف الأب كريستوس يانارسChristos Yannaras إلى أيِّ مدى تدمِّر الفرديَّة الشَّركة التي يجب أن تكون موجودة في جسد المسيح, فيقول:

”الإيبارشيَّة تحتوي على آلاف الناس، وعادة عشرات الآلاف, ولا يوجد شركة أو شعور شخصي بأن تكون جسدًا. الناس لا تتجمع في الكنائس لتشكِّل جسد الكنيسة، لتُظهِر ولتُدرِك الحياة الحقيقيَّة لشركة الأشخاص؛ هُم يأتون ليرضوا احتياج عقيدتهم الفرديَّة ويُصَلُّوا كأفراد ... ربَّما لفرديَّة مثل التي تكون في الملاعب الرياضيَّة أو السينما“.

الفرديَّة هي شيءٌ ما, يمنع الكنيسة أن تكون جسد المسيح. الدكتور نيكولاس أفاناسيف Nicholas Afanasiev، العالِم المميَّز في الطُّقوس الأرثوذكسيَّة، يعلِّق على الفرديَّة التي رآها منتشرة عندما كان الناس يأتون ليتناولوا جسد المسيح ودمه، السِّر الذي يحوِّلنا جميعًا إلى جسد المسيح الواحد:

”فكلُّ واحد يظل ذرَّة منفصلة بالنسبة لكل الآخرين الذين لا نعرفهم. عادة نحن لا نعرف الذين نتقرَّب معهم في الكأس. نحن ندخل مبنى الكنيسة لأنفسنا فقط, وليس لكي "نجتمع معًا ككنيسة" “.

مثل هذه الفردية تفصل المرء عن الجسد, ونحن نعلَم أنَّ الخليَّة الفرديَّة لا تستطيع أن تعيش بمفردها خارج الجسد بل تموت. يقول العلاَّمة ترتليان Tertullian:

”المسيحي الذي يعيش بمفرده هو غير مسيحي“.

لا يوجد مثل هذا الشيء أن يوجد مسيحي منعزل.

الحياة ليست مشهد رَجُل واحد, فنحن أعضاء الجسد, ومن خلال الخطيَّة نفصل أنفسنا عن الجسد، عن الشخص الذي هو مصدر كياننا, ولكن المسيح يدعونا باستمرار لإعادة الاتصال, لإعادة اتصالنا به وبجسده من خلال التَّوبة.

غرضنا كأعضاء جسد المسيح أن نكون خُدَّام الله وخُدَّام بعضنا البعض, وخُدَّام ”لأحد الإخوة الأصاغر“, لمجد الله الآب، والابن, والرُّوح القدس.

قال أوليفييه كليمان Olivier Clement:

”إنَّ أعظم انشقاق هو الفصل بين سرِّ القربان على المذبح وسرِّ الأخ/الأخت. نفس المسيح الذي يقابلني على المذبح في سرِّ الإفخارستيا يقابلني كل يوم في سرِّ: "أحد الإخوة الأصاغر" (مت 25)“.

الانشقاق، الانفصال، يتسبَّب من عدم معرفتنا وتجاهلنا ليسوع عندما يأتي إلينا متنكِّرًا كلاجئ أو سجين «بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (مت 25: 4).

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis