مع آباء الكنيسة
( 1 )


القديس أثناسيوس الرسولي
”الوسيط والمُصالح بين المتخالفين“



[كان أثناسيوس الكبير في جميع الظروف هو الوسيط والمصالح بين المتخالفين، متشبِّهًا بذاك الذي «عمل الصلح بدمه» بين المتناقضات]

القديس غريغوريوس النزينزي، عظة 21 على أثناسيوس

لم يكن القديس أثناسيوس هو فقط الإنسان الراسخ في الإيمان، الذي لا تُزعزعه العواصف الخارجية، لكنه جمع في نفسه في آن واحد صفات إنسانية راقية قلما اجتمعت مع الصفات الأولى. هكذا يصفه القديس غريغوريوس النزينزي، الذي كان معاصرًا له وقد عرفه عن قرب، فمعروف أن غريغوريوس النزينزي مع صديقه باسيليوس (الكبير) بعد أن استكملا في شبابهما دراسة الفلسفة وعلوم البلاغة في مدارس أثينا أتيا إلى الإسكندرية ليتلقيا المزيد من المعرفة في مدرسة الإسكندرية، وهناك تقابلا بكل تأكيد مع رئيس أساقفة الإسكندرية أثناسيوس وعرفاه عن قرب. وهكذا يصفه القديس غريغوريوس:

[مع أنه كان من الصعب أن يجاريه أحد في الفضيلة، لكنه كان من السهل جدًّا الاقتراب إليه. فقد كان وديعًا، هادئًا، متعاطفًا مع الآخرين συμπαθῆς(1)، حلوًا في كلامه، وأكثر حلاوةً في معاملاته، ملائكيًّا في هيئته، وأكثر من ملائكي في أفكاره. كان يُراجِع في هدوء، ويمتدح للتقويم](2)

ويستمر ق. غريغوريوس النزينزي في عظته عن ق. أثناسيوس إلى أن يُلخِّص صفات هذه الشخصية العجيبة في محورَين أساسيَّين:

[وبالاختصار، لقد جمع في نفسه صفات حجرَين متميِّزَين: فقد كان كالأدمنت (الألماظ) إزاء الذين يوجِّهون له الضربات، وأما البعيدون عنه فكان لهم كحجر المغناطيس الذي يجتذب الفولاذ ويتآلف مع أقسى المعادن بقوة جذب طبيعية تفوق الإدراك](3).

وأكبر دليل على صدق هذا الوصف هو ما حدث لأثناسيوس في نفيه الأول وفي نفيه الثاني.

ففي نفيه الأول نفاه الإمبراطور إلى مدينة تريف على حدود فرنسا الشمالية، مع توصيات مشدَّدة لأسقف المدينة ماكسيميانوس أن يضعه تحت المراقبة الشديدة ويمنعه من نشر أفكاره ”المنحرفة“. والذي حدث أن ماكسيميانوس نفسه انغلب أمام استقامة أثناسيوس وصحة إيمانه وحبه الشديد للمسيح، وقدراته على التواصل الروحي مع الآخرين وكافة صفاته الأخرى التي تجعله محبوبًا لكل إنسان روحي يعرفه عن قرب. وصار ماكسيميانوس من أقرب أصدقاء أثناسيوس ومن أكثر المدافعين عنه وعن الإيمان النيقاوي في الغرب. وزاده تكريمًا بأن دعاه ليترأس قداس عيد القيامة في كاتدرائية تريف!

كذلك أيضًا حدث في نفيه الثاني أنه أُرسل إلى روما مع توصيات مشددة ليوليوس بابا روما بأن يضعه تحت الرقابة ويحد من نشاطه ولا يدعه يتصل بالآخرين. والذي حدث في هذه المرة أيضًا أن يوليوس نفسه انغلب أمام صحة إيمان أثناسيوس ومحبته وقدرته على التواصل الروحي مع الآخرين، حتى صار يوليوس من أعز أصدقائه ومن أكثر المدافعين عنه وعن مقررات مجمع نيقية. والرسالة التي أرسلها البابا يوليوس إلى شعب الإسكندرية ليُهنئهم على عودة البابا أثناسيوس إليهم(4) تُبيِّن مقدار التقدير الرفيع الذي كان يكنُّه البابا يوليوس لأثناسيوس حتى كاد يعتبر نفسه متتلمذًا عليه! وهكذا تحقق في هذه المرة أيضًا صحة وصف غريغوريوس لأثناسيوس بأنه كان كحجر المغناطيس الذي ”يجتذب إليه الفولاذ ويتآلف مع أقسى المعادن بقوة جذب تفوق الإدراك“.

لقد كانت السنين الطويلة التي قضاها أثناسيوس في الغرب (سنتان في نفيه الأول وسبع سنين في نفيه الثاني) فرصةً لا تُقدَّر ليتواصل روحيًّا مع كنائس الغرب ويتعرَّف على قادتها ويُسلِّمهم بعضًا من سمات كنيسة الإسكندرية، مثل مبادئ الرهبنة القبطية، فلا ننسى أنه كتب سيرة أنطونيوس بناءً على إلحاح أصدقائه من رهبان الغرب(5). وفي اشتراكه في الليتورجية في كنائسهم لا بد أنه سلَّم لهم بعضًا من مميزات ليتورجية الإسكندرية، مثل طقس السهر الليلي الذي كان اعتاد أن يمارسه في كنيسته بالإسكندرية استعدادً للقداس في الصباح(6). ويُعتبر هذا التواصل الروحي الذي عاشه القديس أثناسيوس مع كنائس الغرب في نفيه الأول والثاني هو، بحسب تعبير الأب متى المسكين «حتى اليوم الخيط الذهبي الإلهي الذي لا يزال يلح على ضمائرنا بحتمية العودة إلى ألفة المحبة في وحدانية الإيمان والكلمة والكأس الواحد!»(7).

يقول عنه ق. غريغوريوس – في الموضع الذي اخترناه ليكون عنوانًا لهذا المقال – إنه «كان في كل الظروف هو الوسيط والمصالح بين المتخالفين». وسنعرض الآن ثلاثة من المواقف في حياة القديس أثناسيوس تشهد على صدق هذا التقرير:

‌أ. موقفه من الخلاف اللفظي الحادث بين الغربيين والشرقيين بسبب الالتباس بين كلمتَي ὑπόστασις اليونانية و substantia اللاتينية.

‌ب. موقفه المتسامح مع الجناح المعتدل لأنصاف الأريوسيين الذي أدَّى لضمهم للإيمان النيقاوي.

‌ج. سعيه في مصالحة الفريقَين المتشاجرَين في كنيسة أنطاكية.

وسنكتفي في العدد الحالي بعرض الموقف الأول على أن نعرض الموقفين الثاني والثالث في الأعداد القادمة إن شاء الله.

وسيظهر جليًّا في كلٍّ من هذه المواقف مقدار رجاحة عقل القديس أثناسيوس وإفرازه الروحي الذي جعله يستطيع أن يُميِّز بسهولة بين الهرطقة وبين مجرد الاختلاف في التعبير عن الإيمان الصحيح الواحد. فلم يكن القديس أثناسيوس أسيرًا للألفاظ، بل كان دائمًا بحسِّه الروحي يستشعر الحقيقة المكنيَّة وراء اللفظ.

أولًا – موقف القديس أثناسيوس من الخلاف الناشئ من اللبس بين كلمتَي ὑπόστασις وsubstantia:

قام في أيام القديس أثناسيوس سوء تفاهم واسع المدى بين اللاهوتيين غير المتعمِّقين من كنائس الشرق والغرب، وكلاهما متمسك بالإيمان النيقاوي. وكان أصل سوء التفاهم كلمتان متشابهتان في التركيب اللغوي ولكنهما مختلفتان في المعنى. الكلمة الأولى يونانية ὑπόστασις تتكوَّن من ὑπό- أي ”تحت“ و στασις بمعنى القوام أو الكيان، والكلمة الثانية لاتينية substantia وتتكوَّن هي أيضًا من sub أي ”تحت“ و stantia بمعنى القوام أو الكيان. غير أن هذا التشابه في التركيب اللغوي مضلل لأن كلاً من الكلمتَين لها معناها المختلف عن الأخرى في لغتها الخاصة. فكلمة ὑπόστασις اليونانية تُستخدم عادةً بمعنى الأقنوم، بينما كلمة substantia تُستخدم عند اللاتين بمعنى الجوهر، فهي ترادف في اليونانية كلمة οὐσία وليس كلمة ὑπόστασις على الرغم من تشابهها في التركيب اللغوي مع هذه الأخيرة(8).

وقد استغلَّ عدو الخير هذا اللبس اللغوي ليُقيم كل فريق على الآخر، مع أن كليهما متمسك بالإيمان النيقاوي ومناهض للأريوسية.

والقديس غريغوريوس النزينزي في مدحه لأثناسيوس يشرح لنا أولاً تفاصيل هذا الخلاف القائم على مجرَّد كلمات (أو كما يقول مجرَّد ”أصوات“) مختلفة، حتى يمتدح رجاحة أثناسيوس في موقفه الحكيم من هذا الخلاف. وهذا ما يقوله:

[نحن نقول بتقوى عن الله إنه واحد في الجوهر (οὐσία) ومثلَّث في الأقانيم (ὑπόστασις). فالاصطلاح الأول يُعبِّر عن وحدة طبيعة اللاهوت، والاصطلاح الثاني عن تثليث أقانيمه. والغربيون يقصدون ما نقصده تمامًا غير أن لغتهم الشحيحة في المصطلحات اللاهوتية لا تمكِّنهم من التفريق بين كلمة ὑπόστασις وكلمة οὐσία ولذلك استبدلوا القول بثلاثة ὑποστάσεις بالقول بثلاثة prosopa لئلا يُدخلوا ثلاثة جواهر في الله. فماذا نتج عن ذلك؟ شيء قد يكون مضحكًا للغاية لو لم يكن بالحري داعيًا للبكاء إلى أبعد حدٍّ! فهذا الفرق الضئيل في الأصوات اعتُبر أنه اختلاف في الإيمان! ثم قام البعض باتهام القائلين بثلاثة prosopa (9) بأنهم انجرفوا في هرطقة سابليوس! وفي المقابل اتهم الآخرون القائلين بثلاثة ὑποστάσεις بأنهم وقعوا في الأريوسية(10)! وكل من الاتهامين وليد من روح المشاجرة. ثم ماذا تبع ذلك؟ أصبح كل حادث صغير محزن تُضخِّمه محبة الخصام حتى تثير أطراف الأرض بعضها ضد بعض](11).

لم يكن أحد في الشرق أكفأ من القديس أثناسيوس في تفهُّم سبب هذا الالتباس وفي معالجته. ذلك لأن التسع سنين التي قضاها في الغرب (335-337م في نفيه الأول ثم 339-346م في نفيه الثاني) أضافت إلى رجاحة ذهنه اللاهوتي معرفة خبايا اللغة اللاتينية وما بها من معانٍ للمصطلحات اللاهوتية تختلف عن معانيها المتداولة في الشرق.

فماذا فعل القديس أثناسيوس لمعالجة هذا الالتباس؟ إنه ببساطة استعمل في كتاباته الكلمة الشائكة ὑπόστασις في بعض المواضع بالمعنى الذي يفهمه الغرب، أي بمعنى الجوهر، قائلًا إن اللاهوت له ὑπόστασις واحد أي جوهر واحد، واستعملها في سياق آخر بالمعنى المتداول عند الشرقيين أي بمعنى الأقنوم، قائلاً إنه يوجد ثلاثة ὑποστάσεις أي أقانيم في الله. فإذا بحثنا في فهرس كتابات القديس أثناسيوس(12) عن كلمة ὑπόστασις نجد أمثلة عديدة لكل من الاستعمالين، كلٌّ منهما في السياق المناسب له، وعلى سبيل المثال لاستعماله لكلمة هيبوستاسيس ὑπόστασις كمرادفة لمعنى الجوهر oÙs…a يقول:

[إن الله يقول بفم إرميا: «ولو وقفوا في حضرتي Øpost£seiوسمعوا كلامي لكانوا يردُّون شعبي عن أعمالهم الشريرة» (إر 23: 22). هنا الهيبوستاسيس هي الجوهر oÙs…a ولا تعني شيئًا غير الكيان نفسه](13).

وقد كرَّر مرَّات عديدة عبارته الشهيرة: [إن الابن هو من نفس جوهر ὑπόστασις الآب].

ولكن هذا لا يمنعه في سياق آخر من أن يستعمل نفسه الكلمة بمعنى الأقانيم:

[الشاروبيم يقدِّمون تسابيحهم قائلين ثلاث مرات «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ» (إش 6: 3) دليلًا على وجود ثلاثة أقانيم ὑποστάσεις كاملة ثم بقولهم: «رب الصباؤوت» يعترفون بالجوهر οὐσία الواحد](14).

وبهذا الاستعمال المزدوج للكلمة أبكم القديس أثناسيوس المماحكين الذين يتهمون بعضهم بعضًا بجهالة بسبب اختلاف معنى هذه الكلمة، مبيِّنًا أنه هو نفسه يُجيز استعمالها بحسب السياق بكل من المعنيين، ومعطيًا في نفس الوقت درسًا للأجيال اللاحقة في أنه لا ينبغي أن نقف عند مظهر اللفظ بل أن نتفهَّم بحسب السياق الحقيقة التي يُشير إليها اللفظ.

وفي الرسالة التي وجهها سنة 362م للفريقَين المتشاجرَين في كنيسة أنطاكية، أكمل القديس أثناسيوس توضيح بجلاء هذا اللبس الحاصل من كلمة ὑπόστασις وسمح لكل من الفريقَين المتشاجرَين أن يستعمل هذه الكلمة بالمعنى الذي يقصده دون أن يتهم الفريق الآخر بالهرطقة. وهذا ما سنراه في الجزء الثالث من هذا المقال.

(يتبع)

__________________________________

(1) συμπαθῆς أي حرفيًّا ”كان يشارك الآخرين في مشاعرهم“، كانت له مشاركة وجدانية مع الآخرين.

(2) القديس غريغوريوس النزينزي، عظة 21: 9.

(3) المرجع السابق 21: 31.

(4) لقد نشر الأب متى المسكين هذه الرسالة في مجلة مرقس ديسمبر 1975 تحت عنوان ”هل تعود هذه الأيام ثانيةً؟“ ثم ضُمَّت إلى كتابه ”في الوحدة المسيحية“.

(5) سيرة أنطونيوس، المقدمة.

(6) يخبرنا القديس أثناسيوس نفسه عن اشتراكه مع كل شعبه في كاتدرائية الإسكندرية في طقس السهر الليلي استعدادًا لإقامة القداس في الصباح في ثلاثة من كتبه: تاريخ الأريوسيين 81؛ الدفاع إلى قسطنطيوس 25؛ الدفاع عن هروبه 24.

(7) الأب متى المسكين، القديس أثناسيوس الرسولي، الطبعة الخامسة 2017، ص 103.

(8) وليس أدل على ذلك من أن اللاتين لـمَّا ترجموا قانون الإيمان، ترجموا كلمة ὁμοούσιονإلى consubstantialem حيث جاء مقطع substantia مقابلاً لمقطع ουσι(α) أي جوهر.

(9) كلمة prosopon تعني أصلاً قناعًا يلبسه الشخص على المسرح ويمكن أن يُغيِّره. ثم تطوَّر معناها إلى أن صارت تعني شخصًا. فإذا أُخذت بمعناها القديم قد يُفهم منها أن الأقانيم prosopa هي مجرد قناعات يلبسها الله ويُغيِّرها، وهذا هو مضمون هرطقة سابليوس.

(10) إذا أُخذت كلمة ὑπόστασις بمعنى الجوهر (كما كان يفهمها اللاتين متأثرين بنظيرتها substantia التي تعني الجوهر)، يكون القول بثلاث ὑποστάσεις يعني ثلاثة جواهر وبالتالي لا يكون الابن من جوهر الآب وهذا مضمون الأريوسية.

(11) القديس غريغوريوس النزينزي، عظة 21: 35 في مدح أثناسيوس.

(12) Guido Müller, Lexicon Athanasianum, De Gruyter, Berlin, 1952. وهذا الفهرس يُطبِّق على كتابات القديس أثناسيوس طريقة فهرس الكتاب المقدس.

(13) إلى أساقفة أفريقيا 4.

(14) في شرح الآية (لو 10: 22): 6.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis