بحث تاريخي


دير الأمير تادرس الشُّطبي
بحارة الروم

الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي
أستاذ الآثار والفنون القبطية
ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس

يقع دير الأمير تادرس المشرقي the Oriental Saint Theodorus بجانب كنيسة العذراء المغيثة (Church of the Holy Virgin Mary) بحارة الروم بحي الغورية بالقاهرة (الشكل رقم 1). وسميت هذه الحارة بهذا الاسم نظرًا لأنها كانت مخططة من البداية لسكن الروم الذين كانوا يشكلون أحد عناصر الجيش الفاطمي الذي وفد جنوده إلى مصر مع جوهر الصقلبي قائد جيوش الخليفة المعز لدين الله. وتوجد بهذه الحارة عدة كنائس لكل من الروم والأقباط الأرثوذوكس. وتؤكد المخطوطات الأثرية بأن دير الأمير تادرس كان من الأديرة القبطية العامرة في القرن الثالث عشر الميلادى.

(الشكل رقم 1) خريطة توضيحية لموقع دير الأمير تادرس الشطبي وكنيسة العذراء المغيثة بحارة الروم بالقاهرة

ويرجح البعض من المؤرخين أن نشأة دير الأمير تادرس بحارة الروم (الشكل رقم 2) ترجع إلى القرن الثالث عشر الميلادى. وفي نهاية القرن السابع عشر الميلادى، بدأت منطقة حارة الروم والدير والكنائس المجاورة له وبالأخص كنيسة العذراء المغيثة في الازدهار لاسيما بعد أن نُقل إليها المقر البطريركي البابوي من حارة زويلة في عام 1675م. فاشتهرت هذه المنطقة في القرن الثامن عشر الميلادي وصارت مركزًا لنشاط كنسي كبير نتيجة وجود الآباء البطاركة وتردد الآباء الأساقفة والكهنة والرهبان والأراخنة عليها. كما أصبحت هذه المنطقة الأثرية مركزًا لجذب أعداد كبيرة من الأقباط. وسكن كثير من الكتاب بهذه الحارة بحكم قربها من مقر عملهم بالقلعة التي كانت تضم دواوين الحكومة في ذلك العصر.

(الشكل رقم 2). مدخل دير الأمير تادرس بحارة الروم بالقاهرة. (تصوير شيرين صادق الجندى، فبراير 2013)

وتناقلت راهبات الدير القدامى تقليدًا يؤكد أن الآباء البطاركة قد سكنوا مدة إقامتهم بحارة الروم في المكان الذي شيدت به كنيسة الدير الحالية وهي باسم الأمير تادرس (الشكل رقم 3) والقائمة شرق مسكن راهبات الدير. وفي القرن التاسع عشر الميلادى، انحسرت أهمية حارة الروم كحي هام للأقباط مما انعكس بدوره على كنيسة السيدة العذراء وعلى الدير.

وانتقلت القلاية البطريركية من حارة الروم إلى حارة الأزبكية 1515 ش./ 1799م. ومن الناحية المدنية نتيجة لانتقال مقر الحكم من القلعة إلى قصر عابدين في عهد الخديوي إسماعيل (1863 - 1879م) خامس حكام مصر من الأسرة العلوية، انتقل كثير من الأراخنة وموظفي الدواوين الأقباط من حارة الروم إلى أحياء سكنية أخرى كالأزبكية وحارة السقايين والفجالة. وظل عددٌ لا بأس به من الأقباط يعيشون في حارة الروم بحكم قربها من عملهم بالتجارة في الغورية وكذلك في حي الأزهر واستمروا حتى منتصف القرن العشرين عندما أصبح الأقباط بعدها قلة بحكم هجرتهم إلى أحياء أخرى. وحاليًا، تعتبر أغلب مباني الدير حديثة.

كنيسة العذراء المغيثة:

شُيِّدت كنيسة السيدة العذراء المغيثة بحارة الروم في أواخر القرن الخامس أو بداية القرن السادس الميلادى. وتمت عمارتها في منتصف القرن المشار إليه في عهد البابا زخارياس الأول Zacharias I إلَّا أنها تهدمت وأغلقت في عام 1026م. وظلت مغلقة حتى أعيد فتحها بعد تجديدها لأول مرة في عهد البطريرك البابا خرستوذولس (عبد المسيح) Christodoulos رقم 66 (1047 – 1077م). ولكنها ما لبثت أن تهدمت أيضًا في عصر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون سنة 1321م، فتجددت عمارتها للمرة الثالثة. ويعتبر البابا متاؤس الرابع (متى الميري) Matthaeus IV رقم 102 (1660-1675م) آخر من سكن دار البطريركية في حارة زويلة لأنه نقل كرسيه إلى كنيسة السيدة العذراء حارة الروم في عام 1660م في بداية رسامته.

وقد قام المعلم إبراهيم الجوهري Ibrahim al-Gohari الذي عاش في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، والذي أنفق على تجديد كثير من الأديرة والكنائس القبطية في مصر بتجديد مباني كنيسة العذراء المغيثة بحارة الروم في عام 1508 ش./1792م.

وفي عهد البابا مرقس الثامن Mark VIII رقم 108 (1769-1809م)، حُرقَت الكنيستان العُليا والسُّفلى بحارة الروم وانتقل مركز البطريركية من حارة الروم إلى الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية. وبعد سيامة البابا خرستوذولس (عبد المسيح)، انتقل من الكنيسة المرقسية بالإسكندرية إلى القاهرة. واتخذ كنيسة القديسة مريم العذراء المعلقة بمصر القديمة مقرًّا له. وجدد كنيسة القديس مرقوريوس أبي السيفين المبنية بالقرب منها وجعلها كاتدرائية كبرى ومركزًا لكرسيه، وجعل أيضًا كنيسة السيدة العذراء في حي الأروام مقرًّا له اعتاد التردد عليه من وقت لآخر. وصار البابا يُعيِّن أسقفًا للإسكندرية باسم وكيل الكرازة المرقسية.

وتنخفض أرضية كنيسة العذراء المغيثة بازيليكية الطراز عن مستوى أرض الشارع بما يقرب من متر ونصف. ويوجد مدخل الكنيسة في منتصف واجهتها الجنوبية، وهو عبارة عن فتحة باب مستطيلة يُغلق عليها مصراع خشبي يتكون من حشوات مجمَّعة تزينها زخارف هندسية بسيطة. ويؤدي الباب إلى صحن وجناحين يليها خورس ثم الثلاثة هياكل الشرقية (الشكل رقم 3). وبها أيضًا مقصورة أو كنيسة صغيرة باسم الأمير تادرس المشرقي.

ويغطي كنيسة العذراء المغيثة اثنتا عشرة قبة منها ثلاث فوق الهياكل الثلاثة الشرقية، وتسع فوق الصحن والجناحين. وينفصل هذا الصحن عن حوش المدخل بخمس دعامات. وبالكنيسة إنبل ذو سلم خشبي حلزوني يستند إلى الدعامة الشمالية لمكان المرتلين. وأرضية هذا القسم من الكنيسة من الخشب الجديد. أمَّا باقي أجزاء أرضية الكنيسة فهي من البلاطات الحجرية القديمة.

(الشكل رقم 3). الهيكل الرئيسي الأوسط بكنيسة العذراء المغيثة بحارة الروم بالقاهرة. (تصوير أ.د./شيرين صادق الجندى)

وإلى الشرق من الصحن، توجد ثلاثة هياكل: أولها وهو الرئيسي الأوسط على اسم السيدة العذراء. وتعلوه قبة محمولة على أربع حنايا يتصدره حامل أيقونات من الخشب المطعّم بالعاج وتزخرفه كتابات عربية وقبطية. كما تعلوه عدة أيقونات، منها أيقونة كبيرة للصلب وأيقونة أخرى للقيامة على جانبيها أيقونتان: واحدة تظهر عليها صور للمريمات حول القبر والأخرى رسمت للسيدة العذراء. وهما يرتكزان على رأس نسرين متعاكسين محفورين في الخشب يقف كل منهما على رأس تنين. ويتكون هذا الهيكل من حجرة مربعة يتوسطها مذبح رخامي تعلوه مظلة خشبية ترتكز على عارضتين خشبيتين تزينها أشكال قديسين. وخلف المذبح، يوجد مدرج رخامي مكون من سبع درجات منحوتة. وتتصدر جدار الهيكل الشرقي حنية مجلدة بالخشب في وسطها صورة ملونة للسيد المسيح، تعلوها مجموعة من بلاطات القاشاني التي تظهر عليها بزخارف مستوحاة من الفنون العثمانية وتتوسطها جامة على هيئة الصليب. وقد زينت جدران هذا الهيكل بصور دينية متنوعة.

وكُرِّس الهيكل الجنوبي على اسم رئيس الملائكة ميخائيل، وهو عبارة عن مربع أرضيته مغطاة ببلاطات حديثة، وتعلو الهيكل قبة حجرية مرتكزة على أربع حنايا ركنية. كما يتوسطه مذبح تعلوه مظلة خشبية صغيرة محمولة على عوارض مثبتة في الحوائط. وفي حائطه الشرقى، حنية نصف دائرية مجلدة بخشب مستحدث، يكتنفها عمودان صغيران وتم تزيينها ببعض أشكال القديسين. وخصص الهيكل الشمالي للشهيدة مارينا. وهو عبارة عن مربع تغطيه قبة محمولة على أربع حنايا ركنية وأرضيته مغطاة ببلاطات حديثة. وجُلِّدت أسافل جدرانه بخشب مستحدث. ويتوسطه مذبح تعلوه مظلة خشبية محمولة أيضًا على عوارض تم تثبيتها في الحوائط. وعلى يسار هذا الهيكل، توجد فتحة باب ثان يؤدي إلى كنيسة صغيرة مكرَّسة على اسم الأمير تادرس. كما توجد معمودية الكنيسة شمال هذه الهياكل. ويتم الوصول إليها من خلال مدخل صغير على يسار الممر الموجود في الهيكل الجنوبى. وهي عبارة عن غرفة مستطيلة يعلوها قبو برميلي. وفي شرقها، يوجد مغطس تعلوه أيقونة العماد. أمَّا الدور العلوى، فإنه يحتوي على كنيسة صغيرة دشنت لمار جرجسSaint George وبالكنيسة بعض الأدوات التي استُخدمت في صنع الميرون المقدَّس في القرن السابع عشر الميلادي عندما كانت كنيسة العذراء المغيثة بحارة الروم بالقاهرة مقرًّا للكرسي البابوي. كما يوجد البئر المقدَّس الذي شربت منه العائلة المقدسة عندما حلَّت بأرض مصر وفقًا للتقليد القبطي الأرثوذوكسي.

معبد موسى بن ميمون:

وفي شارع درب محمود في حارة اليهود بالقرب من دير الأمير تادرس الشاطبي بحارة الروم، يوجد معبد موسى بن ميمون، والذي شُيِّد في القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي وفقًا للتخطيط البازيليكي. وهو معبد يهودي للعلامه اليهودي المتبحر وأحد أبرز الحاخامات اليهود رابي موشيه بن ميمون الذي دُفِن في مدفن بالقرب من هذا المعبد إلى أن نقلت رفاته طبرية. وكانت الشعائر الدينية تقام في هذا المعبد اليهودي حتى عام 1960. وفي سنة 1986، تم تسجيل المعبد كأثر لأهميته التاريخية والدينية والمعمارية. ويقف هذا المبنى شاهدًا على تاريخ استمر لمئات السنين لشخصية لعبت دورًا بارزًا في المجتمع المصري. وكان رابي موشيه بن ميمون قد جاء إلى مصر في نهاية حكم الدولة الفاطمية.

بعض الآثار الإسلامية بالقرب من دير الأمير تادرس:

ويحيط بحارة الروم كثير من المنشآت الإسلامية الدينية والتجارية والعامة مثل المجموعة المعمارية للسلطان المملوكي قنصوه الغوري وكذلك الجامع الأفخر أو جامع الفكهاني الذي شُيِّد في العصر الفاطمي، وسبيل وكُتَّاب محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة، وجامع السلطان المملوكي المؤيد شيخ والذي ترتفع مأذنتاه أعلى برجي باب زويلة أحد أهم البوابات الحربية المشيدة في العصر الفاطمي. كما يوجد خارجه جامع الصالح طلائع ابن رزيك وهو آخر الجوامع المعلقة التي بنيت في أواخر عصر الخلفاء الفاطميين. ويساعد وجود كل هذه المباني الأثرية اليهودية والقبطية والإسلامية على فهم كثير من أدق تفاصيل ثقافة وحضارة وتاريخ المصريين على مر العصور التاريخية المختلفة. ويؤكد هذا الشمول الديني والإرث التاريخي والتنوع المعماري والفني غير المسبوق على أن مصر كانت دائمًا مهد الحضارات وملتقى الأديان السماوية. كما يستشف من وجود كل هذه المباني التناغم والتجانس بين الطوائف الدينية والطبقات الاجتماعية المختلفة في مصر وانصهارها في نسيج مصري واحد مستمر مهما اختلفت العقائد والعبادات ووجهات النظر. وينجذب الزائر لهذه المنطقة الأثرية الحيوية والمشيَّدة في قلب القاهرة الفاطمية إلى العادات والتقاليد المصرية الأصيلة التي يتمسَّك بها سكان هذه الأحياء العتيقة. كما يتعرف أيضًا على أهم وأدق الحرف والصناعات والفنون الصغرى التي تعكس مهارات الصناع المصريين وجماليات الفلكلور المصري الفريد.

الخاتمة:

ومما سبق، تتجلى أهمية المباني القبطية الأثرية المُشيَّدة في حارة الروم وبالأخص دير الأمير تادرس الشُّطبي وما يجاوره من كنائس لا سيما كنيسة العذراء المغيثة التي يتوافد عليهما الجموع الغفيرة من الأقباط. كما أن هذه المنشآت الدينية والأثرية الهامة توجد بالقرب من واحدٍ من أهم المعابد اليهودية الأثرية في مصر وكثير من الجوامع والأسبلة والكتاتيب والأبواب المعمارية والوكالات التجارية المختلفة مما يدعو إلى الاهتمام بكل هذا الموروث المعماري والفني والأثري الهام وتجديده وتحويل المنطقة إلى مجمَّع أديان آخر على غرار ما هو قائم بالفعل في شارع مار جرجس في مصر القديمة.

* * *

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis