|
|
|
نأتي هنا، إلى منظورٍ جديد للإيمان المسيحي، وهو:
طبيعة الإيمان المسيحي:
أولاً: إيمانٌ بغير المنظور، فائق عن الأمور الحسية والجسدية:
يقول الكتاب المقدَّس: «وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عب 11: 1)، والرب يسوع نفسه، عاتبَ تلميذه توما الرسول حينما أصرَّ على ضرورة رؤية الرب ولَمْس جراحاته بيديه، من أجل أن يؤمن بقيامته، عاتبه الرب قائلاً: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو20: 29)، كذلك ما حدث مع نيقوديموس، المعلِّم اليهودي الكبير، الذي صعُبَ عليه أن يُدرِك ويؤمِن بمفهوم الولادة الجديدة من الماء والروح، فقال للرب يسوع: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» (يو 3: 4)، حينئذٍ قال له يسوع: «اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ» (يو 3: 6)، قال له يسوع هذا الكلام لكي يُخجِله، ويكشف له ضعفَ إيمانه، إذ إنه وهو معلِّمٌ في إسرائيل، لم يفهم كيف يُقارن الروحيات بالروحيات، بل أغمض عين الإيمان، فصعُبَ عليه فهم الأمر جدًا.
وأيضًا، نقرأ عن تلميذ أليشع النبيّ، الذي لم يستطع بعينيّ الجسد، أن يرى القوات السمائية المعضِّدة لهم أمام جيوش الأعداء، فصلَّى أليشع النبيّ حتى تنفتح عينا تلميذه، ليُبصرَ ويَرى ما لا يُرى، بعين الإيمان، فيثق ويطمئن، ويرتاح قلبه.
وهكذا دائمًا، في أمورٍ كثيرة، إن لم يتعاظم إيماننا بالله، وترتفع ثقتنا به وبمواعيده غير المنظورة، لتعبُرَ حدود الماديات والمنظورات والحواس، حتى نستطيع أن نرى ما لا يُرى، بعين الإيمان الحقيقي فنرى ونفرح، فإن إيماننا لن يحُسَب لنا شيئًا، وسيكون بلا قوة أو معنى. ولنذكُر دائمًا، إيمان أبينا إبراهيم، الذي رأى موعد الخلاص، قبل تمام الزمان بأجيالٍ كثيرة، فرأى وآمَنَ وفرِحَ، وتحققت كل المواعيد التي رآها، في حينها الحسن. فالإيمان هو قوَّتنا التي نغلب بها العالم. وهو سرُّ فرحنا وشجاعتنا، ومنبعُ رجائنا وكمال فرحنا بنصيبنا وميراثنا السمائي، الذي ننظره بعين الإيمان، ونحن في أرضِ الأحياء.
ثانيًا: إيمانٌ يملك الآذان المختونة:
صاحِب الإيمان المسيحي الحقيقي، يمتلك الأعضاءَ المختونة، التي تحدَّث عنها الكتاب المقدَّس، وبها يستطيع استقبال رسائلَ الله اليومية له في حياته، وهذه الآذان المختونة، التي قدَّسها الروح القدس، قادرةٌ على التقاط رسائلَ الحب والغفران والفرح والدعوة من الله، وقادرةٌ على تمييز إرادة الله ومشيئته في حياتها، بأقلِّ الكلمات، انظروا القديس أنطونيوس، فإنه بكلماتٍ قليلةٍ سمعها من الإنجيل فهم الرسالة ولبَّى الدعوة، وصار مصباحًا منيرًا لأجيالٍ كثيرة، وكرَّسَ طريقًا جديدًا للحب، ما زال يُضيء لكثيرين.
كذلك، فإن اعتبار الإنسان لكلام الله، أنه رسالةٌ شخصيةٌ وخاصةٌ موجَّهةٌ إليه، فهذا بيِّنةٌ على كون أذُنيِّ هذا الإنسان مختونتان بالروح القدس، لأننا كثيرًا ما نفقد فرصة سماع صوت الرب ورسالته لنا، لتقوية إيماننا، بسبب أننا نظن أن كلمات الإنجيل التي نسمعها كثيرًا، لا تخصَّنا أو غيرَ موجَّهةٍ إلينا، بينما نحن لو امتلكنا الأذن الروحية الحساسة والمشتاقة، سنُدرِك أن الدعوة والكلمات هي لنا، وهي رسالة شخصية من الله، لكل واحد فينا، كلٌّ بحسب اشياقه وانتظاره ورجائه، وحينئذٍ سوف نهتف مع صموئيل النبيّ بالقول: «تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ» (1صم 3: 9)، فالإحساس بأن الله يبعثُ لي رسائلَ يومية في حياتي، واليقين بأن كلامَ المسيح ورسائله، هي رسائل شخصية لي وليس للآخرين، سوف يوقظُ فيَّ حرارةَ واستنارةَ الآذان المختونة، السامعة لكلام الله، والعاملة به، والمستعدة دائمًا لقبول كل ما يعضِّد ويزيدُ إيمانَها بالله.
ثالثًا: إيمانٌ صابرٌ، ذو رجاءٍ لا ينقطع:
الصبر والانتظار، صفتان وعلامتانِ هامتان على صدقِ إيماننا وثباتِ رجائنا في الله، فالمرنِّم يهتف بالروح قائلاً: «انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلِيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ» (مز 27: 14)، وأيضًا يقول: «اِنْتِظَارًا انْتَظَرْتُ الرَّبَّ، فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي، وَأَصْعَدَنِي مِنْ جُبِّ الْهَلاَكِ» (مز 40: 1و2). فإيماننا المسيحيُّ، القادر على غلبة العالم، هو إيمان واثقٌ بمراحم الله، يصبرُ إلى المنتهى ويتوقَّع بالصبر خلاص الله، مهما طال الزمان أو قستْ التجربة أو امتدَّ الظلام، فنحن عالمون بمن آمنَّا، وأنه قادرٌ أن يحفظ وديعتنا إلى ذلك اليوم. ولنا في حياة آبائنا، أمثلة رائعة تعضِّد قولنا: فموسى النبيّ وشعب إسرائيل مثالٌ لذلك، ومقابل الآلام التي عانوها من فرعون وشعب مصر نظروا خلاص الله، وما صنعه معهم في البحر الأحمر وبرية سيناء. وما حدث مع سارة من فرحٍ بميلاد إسحق، ابن الضحِك. وما تكحَّلت به أعين سمعان الشيخ، وحنَّة النبية ابنة فنوئيل من رؤية لمخلِّص العالم ومعاينته بالجسد، بسبب صبرهم على الرجاء، وصلابة إيمانهم.
فالصبر والرجاء، علامتان واضحتان ومميَّزتان للإيمان المسيحي القويِّ والصادق، والذي يعبِّر عن عظمة حاملهما، واستحقاقه لسماع صوت الرب يسوع: « يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ» (مت 15: 28).
رابعًا: إيمانٌ شاكرٌ على كل شيء وعلى كل حال:
يقول الرسل للرب يسوع: «زِدْ إِيمَانَنَا»، والقديس مار إسحق السرياني يقول: ]ليست عطية بلا زيادة إلاّ التي بلا شكر[ (بستان الرهبان)، فالأمر واضحٌ إذن، إن طريق نُموِّ الإيمان وزيادته، مقرونٌ بالشكر على كل حال، وفي كل حين، فهو المفتاح السرِّي العجيب لدعم الإيمان، وعلامة شاهدة على قوَّته وأصالته.
والحقيقة إننا، في حين نرى غير المؤمن لا يشكر إلاّ عند الأخذ أو الاستفادة، بينما يتضجَّرُ ويتذمَّرُ عند التجربة وعدم الأخذ، أو عند وقوعه في ضِيقة، كما فعل بنو إسرائيل مع موسى في البرية، فإننا نرى المؤمن يُكثِرُ من عطائه وخدمته عند الأخذ، ويُكثِر من شكره وتمجيده وشهادته، في حالة عدم الأخذ، بل ويجول معترفًا بفيض نعمة الله عليه، وإعلان رضائه وقناعته في كل الأحوال، دون أيّ تذمر أو ضيق.
ما هي معوقات الإيمان؟
1- الخوف:
الخوف مظهرٌ واضحٌ لعدم الإيمان، كما يعلِّمنا الكتاب المقدَّس، وهو مؤشِّر خطير على ضعفِ محبتنا وإيماننا بالرب المصلوب الذي فدانا، والرسولُ يحذِّرنا بالروح قائلاً: «وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ وَلاَ تَضْطَرِبُوا، بَلْ قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ...» (1بط 3: 14و15)، وكذلك ينبِّه الكتاب المقدَّس بشدة محذرًا من الخوف، لكونه، ليس فقط ضعفٌ في الإيمان، بل ربما لأنه يمكنه أن يحرِمنا من نصيبنا السمائي، إذ يقول: «وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ ... وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي» (رؤ 21: 8). فخوف الإنسان على حياته وصحته وماله، ورعبته من المرض والظلم، وقلقه من المستقبل وقسوة الأيام ومن المجتمع وضغوطه، كل هذه المخاوف هي ثمرة يزرعها الشيطان في نفوس عبيد الله، ليورِّثهم الهموم والقلق والأحزان والخوف، ويقطع رجاءهم في الله وفي عمل نعمته ورحمته، فيتسرَّب اليأس إلى نفوسهم، ويقضي على جذوة إيمانهم فيهلكون، إذ إنهم قد نسوا أننا محفوظون في يد الله القدير، ضابط الكل، الذي لن يتركنا دون معونة، بعد أن فدانا بدم ابنه الوحيد. فلنحذر من الخوف ونتمسَّك بالرجاء الذي لا يُخزى، وبصليب ربنا يسوع المسيح المنقِذ والمُنجِّي، ونشدِّد إيماننا بالرب المخلِّص.
2- الشك:
علينا أيضًا أن ندرِك، أن القليل في يد الله كثير، فالخمسة الخبزات - بدون المسيح - لن تكفي، ولكن مع المسيح، ستُشبِع الآلاف ويتبقَّى منها. وكذلك عند الضعف، سنجد ذراع الله القوية تسند وتعضِّد وتُقيم، حسب القول: «فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كو 12: 9)، فالمتشكِّك يشبه أمواج البحر المزبِدة التي تتخبط ولا تجني شيئًا، ولا يظن مثل هذا الإنسان أنه ينال شيئًا أو يصمُدَ في جهاده، بسبب شكه، بل بكل تأكيد سيغرق، كما حدث مع بطرس الرسول، فقد كاد يغرق حينما أبعَدَ نظره عن المسيح، فالبُعدُ عن المسيح، بعدم الصلاة والتشكُّك فيه، والتفكير في أمور العالم، هي أمورٌ تُدخِل الشك في قلوبنا وتُضعِف إيماننا، كما أنَّ البُعد عن النور، يدخِلنا في الظلمة، وبالتالي ستكون النتيجة هي السقوط والغرق حتميًّا، ولنتذكر قول الرب يسوع لبطرس: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» (مت 14: 31).
3- الإهمال والتأجيل :
المماطلة والإهمال والتأجيل في أمور توبتنا وحياتنا الروحية وعشرتنا مع المسيح، يمكن أن تضيِّع علينا كل الحياة، فالطالبُ يؤجِّل لِمَا بعد الامتحانات، والعامل لِمَا بعد المعاش، وآخرون لِمَا بعد الفُسَح والتمتُّع، وآخرون لِمَا بعد الراحة، وغيرهم عند الوفرة والشِبع وليس من الأعواز، وهكذا كثيرون؛ فكل هؤلاء معرَّضون لسماع الصوت الرهيب: «يَا غَبِيُّ، هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟» (لو 12: 20). إذن، الحذر كل الحذر من التأجيل والإهمال، لأن الوقت مقصَّر واليوم يوم خلاص والساعة ساعة مقبولة، لنأتِ إليه ما دام لنا فرصة للنجاة.
أخيرًا نقول، إنَّ الإيمان المسيحي لابد وأن يكون إيمانًا عاملاً بالمحبة، ملتهبًا ودائمًا في كل حين وفي كل الأحوال، نُزِده بالصلاة والانشغال الدائم بالقراءة في كلمة الله، والتمسُّك بمواعيده الصادقة غير الكاذبة، ونختم على هذا الإيمان بالتوبة الحقيقية، والمواظبة على الأسرار المقدَّسة، شاهدين به أمام الجميع بكل مجاهرة، مؤيِّدين له بسيرتنا الحسنة، شهادة لصدق هذا الإيمان، ومسبِّحين الرب على حُسنِ صنيعه معنا...