|
|
|
+++
|
||
|
للأب متى المسكين
+ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ
وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا،
فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (لو 14: 26)
إنجيل قداس هذا الصباح ينصبُّ على علاقتنا بالمسيح وكيفية مجيئنا إليه.
في الحقيقة يا أحبائي، إننا في صوم الميلاد نعيش في إحساس مجيء المسيح إلينا، لهذا فإن الهدف الأول لصوم الميلاد هو تهيئة روح الإنسان لاستقبال المسيح أو المجيء إليه. ولكن كيف نستقبله إذا لم نكن على مستوى التقدُّم نحوه؟ وإنجيل اليوم يرينا كيف نأتي إلى المسيح الذي أتى إلينا، وذلك في صورة شروط حتمية ينبغي أن نلتزم بها من جهة التخلِّي عن عواطف الجسد لكي نقبل ما هو للروح. وهذه تبدو لأول وهلة أنها صعبة، ولكن الذي قال هذا هو الذي أخلى ذاته أولًا من ”مجد“ ألوهيته المنظور، لكي يأخذ صورة عبد مُهان محتملًا الآلام حتى إلى الصليب؟
في البداية أود أن أضع أمامكم فكرة صغيرة عن صوم الميلاد في التقليد الكنسي. فصوم الميلاد يختلف عن الصوم الأربعيني المقدَّس، أو صوم الفصح، اختلافًا جوهريًّا، لأن صوم الميلاد صوم تسبيح وفرح استعدادًا لمجيء المسيح؛ أمَّا الصوم الكبير فهو صوم توبة وتجرُّد بالدرجة الأُولى، بمعنى أنه شركة في صوم المسيح على جبل التجربة، وشركة في آلامه، وينتهي بأسبوع الآلام وأحزان الصليب؛ لذلك تليق به التقشُّفات والدموع والصوم والإماتة الشديدة، كما يليق به أيضًا الصمت والسكون الداخلي أساسًا. أمَّا صوم الميلاد، فهو صوم فرح وتسبيح وتهليل وشكر، وإنه إن كان كلا الصومين يُحسبان نسكًا، إلاَّ أن نسك صوم الميلاد يختلف عما في ذهن العامة عن النسك.
فالنسك ليس معناه التقشُّف وحسب، وإنما يُقصد به - بالدرجة الأُولى - الاستعداد للاقتراب بالروح إلى الله، وذلك بأعمالٍ إمَّا جسدية أو ذهنية أو قلبية. فإنسان يسهر الليل كله منكبًّا على قراءة الإنجيل يُحسب ناسكًا. وإنسان يتأمَّل أعمال الله وإحساناته الساعات الطوال صامتًا في مكانه، فهذا أيضًا يُحسب ناسكًا. وإنسان يترنَّم في قلبه للرب، كما يقول الكتاب: «مَتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ» (كو 3: 16)، بالفرح والتهليل والتمجيد الذي لا يُنطق به، هذا أيضًا ناسك. وهكذا، فالقراءة والتأمُّل والترنيم القلبي (بالروح) أعمال نسكية لا تقل في أثرها على الروح عن الصوم والزهد والتقشُّف.
فالنسك، إذًا، في مفهومه وجوهره الحقيقي هو عِشرة واقتراب إلى الله للحياة معه بالروح، سواء كان الجسد يشترك في هذا النسك بالصوم والزهد والتجرُّد والسهر وقرع الصدر والسجود المتواصل على قدر الإمكان، أو تنفرد به الروح في التسبيح والفرح والتهليل مع الشكر، فهذا كله نسك والواحد منهما مكمِّل للآخر.
وصوم الميلاد ينتمي إلى نسك بالروح أكثر منه نسكًا بالجسد، أمَّا الصوم الكبير فتنصبُّ فيه أعمال النسك على الجسد تؤازره فيه ألوان من الصمت والتجرد وأحاسيس التوبة الحزينة. لذلك تشدد الكنيسة على أن يكون الصوم الأربعيني المقدَّس صومًا نسكيًّا كاملًا، يشترك فيه الجسد بالصوم والصمت والسهر وقرع الصدر والانضباط في كل أهواء الجسد وشهوات النفس «أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ» (1كو 9: 27).
كما أنه معروف عن صوم الميلاد أنه وُضِعَ متأخرًا، فلم يكن معروفًا مثلًا أيام البابا أثناسيوس الرسولي، وقد كان هذا الصوم لا يزيد عن اليوم الواحد الذي يسمَّى الآن البرامون أي يوم ما قبل الميلاد، ولكن الكنيسة وضعت بعد ذلك الأربعين يومًا تشبُّهًا بالصوم الفصحي، تكريمًا لميلاد الرب يسوع؛ والكنيسة الأُولى حينما كانت تضع شيئًا إنما كانت تضعه بإلهام الروح القدس لمنفعة المؤمنين. فهو صوم قانوني، ولكنه يتميَّز أساسًا بالتسبيح والشكر الكثير المتواصل وبألحان الفرح بمجيء المسيح.
والآن أود أن أركِّز قليلًا على ما عمله المسيح بميلاده فيما يختص بحياتنا أو فيما يختص بمجيئنا إليه. فالله أرسل ابنه إلى العالم جهارًا، منظورًا وملموسًا، بعد إخلاء فائق، حتى يمكن أن يتراءى أمامنا فندركه بِسرٍّ عقلي يفوق المنظور والمحسوس؛ لكي نأتي نحن إليه بهذه العلانية، ولكن من خلال هذا السر الفائق عينه أي في مضمون الإخلاء الذي يتحتَّم أن نجوزه، لكي نتراءى أمامه. لذلك يقول المسيح بكل صراحة وعلانية: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لو 14: 26).
أمَّا قبل مجيء المسيح ابن الله وظهوره بالجسد، فكان من العسير جدًّا على الإنسان أن يقترب من الله. فالله حق مطلق غير متجزِّئ، ووجود مطلق غير محدود، وقدرة مطلقة ونور مطلق، وحب مطلق ليس فيه تغيير ولا حركة ولا زمان، ولكنه ضابط لكل حركة وتغيير وزمان. فكيف يدركه الإنسان، والإنسان محدود في كل شيء وواقع تحت الحركة والتغيير والزمان؟ والله إذ كان يعلم هذا ويشفق على ذهن الإنسان المحدود والكليل، أعطاه بعضًا من كلماته ووصاياه التي تعكس شيئًا من ذلك الحق والنور والحب والوجود، لكي إذا ما أكملها الإنسان أحس بالله ولو من على بُعد. لذلك كان على الإنسان في سابق الأزمان أن يأتي مئات وألوفًا من الوصايا والنواميس المتعدِّدة لكي يشعر بالقربى من الله ولو على بُعد. ولكن وفي النهاية أحسَّ الإنسان أن هذه كلها لا تُشبع ضمير الإنسان كما يقول إشعياء النبي: «حَقًّا أَنْتَ إِلهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلهَ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصَ» (إش 45: 15)، أو كما يقول القديس بولس الرسول: «... تُقَدَّمُ قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ، لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ الَّذِي يَخْدِمُ» (عب 9: 9).
لهذا أرسل الله ابنه إلى العالم حاملًا كل ملء اللاهوت جسديًّا، فظهر الله للبشر، أي جاء هو وحلَّ بيننا.
وهكذا بمجيء المسيح إلى العالم مولودًا في بيت لحم، دُعي الله ”عمانوئيل“ في شخص المسيح، أي «اَللهُ مَعَنَا» (مت 1: 24). وبهذا صار المسيح الجوهر الإلهي المُعلَن والمدرَك لجوهر الله غير المعلَن وغير المدرَك، وصار المسيح للإنسان كفاية كل الكفاية عوض كل الناموس والوصايا وكل الكلمات والنبوَّات، لأن فيه وبه استُعلن الله للإنسان استعلانًا كليًّا وكاملًا ونهائيًّا: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يو 14: 9).
لذلك يقول بولس الرسول، وهو أشد مَنْ تمسَّك بالناموس والوصايا، يقول بعد ما تعرَّف على المسيح وآمن به: «لكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحًا (الناموس والوصايا) فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً، بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا (عضوية السنهدريم ومركز الفرِّيسيَّة المرموق) خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، (إذ لا يمكن الجمع بين المسيح والناموس) وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ» (في 3: 7 - 9).
إذًا، فقد صار المسيح عوض الناموس والوصايا والفرائض، بل والوحيد، وليس اسم آخر تحت السماء يستطيع أن يعلن لنا الله ويُقرِّبنا إليه ويوجِدنا فيه!!
فنظرتنا لميلاد المسيح على مستوى التجسُّد الإلهي في هذا الصوم هي في الحقيقة فتح القلب والذهن للإحساس بالله الذي جاء إلينا في إخلاء منقطع النظير. فالمطلق صار محدودًا، وغير الزمني صار تحت الزمن، وذلك كله لكي نراه ونعرفه ونحبه تمامًا كما يرانا ويعرفنا ويحبنا.
لذلك فميلاد المسيح ليس حادثة زمنية، ولكنه اقتحام الأبدي للزمن لتغطية عجزه وقصوره. فقد اقتحم المسيح الزمن ليلاشي كل أخطائه ويكمل أعوازه منذ أن بدأ الزمن وحتى إلى نهاية الدهور. والمسيح كلمة الحياة لم يُلغِ الزمن، ولكنه ألغى أخطر مفاعيله وهو الموت، إذ بقيامته من الموت أدخل إلى الإنسان عنصر القيامة، فصار الزمن بالنسبة للإنسان المسيحي حركة تَجَلٍّ، يُرى من خلال أتعس ساعاته نور الأبدية وأفراحها. فإننا الآن إذا ما وقفنا نصلِّي بالروح والحق فإننا ندخل إلى حركة الوعي بالحياة الأبدية، وإذا قرأنا الإنجيل بحضرة المسيح فإننا ننفتح على ملكوت الله. وهكذا أصبح الزمن في المسيح واسطة متكرِّرة للتجلِّي، وطريقًا حيًّا مفرحًا للدخول فيما وراء الحاضر المعتم، الشيء الذي تعذَّب من أجله الفلاسفة والحكماء كثيرًا وفي كل العصور وهم يلهثون وراء هذه الرؤيا ولو بإطلالة قصيرة تكشف لهم عمَّا وراء بؤس الحاضر الزمني.
كل هذا كشفه المسيح بمجيئه وأنهاه، لأنه استعلن الله والحق والأبدية بميلاده في داخل الزمن، ثم ارتقى بكل ما هو زمني وارتفع به إلى السماء. فأصبح وجوده معنا على الأرض بهذه الصورة الدائمة وكأننا قد صرنا في حالة تجلٍّ. أليس هو نفسه الحياة الأبدية، وبه صار ملكوت الله داخل الزمن: «هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ» (لو 17: 21)؟ والإنسان الذي كان ابنًا للموت صار صاحبًا للحياة الأبدية!! فحينما يقف الإنسان بروح المسيح للصلاة، فإنه يمتد مخترقًا الحاضر الزمني إلى ما وراء الزمن، فيتخلَّص في ومضة من ربقة حركة الزمن والتغيير، بكل ما تحمله من معاناة ومآسي، ليدخل إلى السعة الأبدية بلا قيود، ويحس بالله والحب والفرح والوجود اللانهائي ويتنعَّم بسبق التذوُّق لما سيكون.
فميلاد المسيح، في الحقيقة، ارتقى بجوهر الزمن - إن صحَّ القول أن للزمن جوهرًا - كما ارتقى أيضًا بجوهر الوجود المادي، إن كان للوجود المادي أيّ جوهر. غير أن المسيح لم يُلغِ شيئًا ولكن كل شيء تجلَّى فيه، بمعنى أنه امتد به من حيِّز المحدود إلى المطلق، ومن ربقة الزمن إلى الخلود، ومن بؤس حركة التغيير التي تعمل دائمًا لحساب الموت بالنهاية، إلى ملء الحق والكمال والحياة.
أليس عجبًا أن يصبح في مقدور الإنسان أن يوقف حركة الزمن في أيَّة لحظة، ليخرج بإرادته في خفَّة الروح وعمق الصلاة ليطل من خلال حركة الحب الإلهي إطلالة يرى فيها الأبدية ويسعد عن قرب بوجه الله؟! ثم أليست هذه هي الحياة الأبدية عينها التي دُعينا إليها، وهي هي ملكوت الله الذي نطلبه وهو داخلنا؟ فمجيء المسيح إلى العالم أعطانا فرصًا جديدة ومستمرَّة للخروج من ربقة الزمن وضيقاته وأتعابه، لنجد راحتنا الحقيقية فيه. فالعجب كل العجب من الإنسان الذي نال المسيح ثم يعود فيشكو من انحصار الزمن أو من ربقة أتعابه وآلامه. أليس المسيح هو حقًّا وبالحقيقة راحتنا العُظمى بل سعادتنا التي تتحدَّى كل مآسي هذا الزمن؟
تحضرني الآن قصة سمعتها منذ فجر شبابي عن صبي عمره 12 سنة، أُصيب في ركبته وهو يلعب الكرة، وتورَّم مكان الإصابة ثم تحوَّلت الأورام إلى سرطان، ولم يكن له وقتها علاج يُذكر. فلما تيقَّنت الأُم أن ابنها قادم على الموت لا محالة، وكانت أُمًّا تدرك معنى الإيمان بالمسيح وفاعليته، قرَّرت أن تمهِّد للصبي وتعدَّه لرحلته السعيدة إلى السماء. فبدأت تلقِّنه معنى ربح الموت مع المسيح ويقينية السعادة الأبدية في السماء، أمَّا هو فكان يسألها عن كل شيء وكانت هي بدورها تجيب بكل صدق وحب وإيمان، حتى صار يسألها بشغف كل يوم عن موعد انتقاله إلى السماء، وكأنه ذاهب إلى العيد. وكان الصبي قبل أن يدرك الشركة مع المسيح في الموت يصرخ من آلامه صراخًا مروعًا يقلق البيت كله، وكان يُحزن قلوب كل مَنْ يراه. أمَّا بعد ما عرف المسيح وأنه سينتقل إلى السماء قريبًا ليصير معه وليدخل إلى فرحه الأبدي، وأحسَّ بالمسيح وبقربه؛ ابتدأ يُصلِّي كما علَّمته أُمه وابتدأ يعد نفسه للانتقال. وهكذا ابتدأ هذا الصبي الصغير يختبر الخروج من تحت ربقة الزمن ومن تحت سطوة آلامه المبرحة ليدخل حقًّا في مجال سلام الروح والحياة الأبدية، وصار وجه الولد مبتهجًا دائمًا بفرح حقيقي، فكانت أُمه تسأله عمَّا يفرحه، فكان يجيبها قائلًا إنه يحس بالمسيح يناديه.
هذه قصة من آلاف القصص، وهي تعني أن آلام الحياة - وأوضحها آلام المرض، ولو أنها ليست أشدها - هذه الآلام يمكن أن تفقد سطوتها وتتلاشى إذا ما انفتح القلب للمسيح وأحسَّ بقربه، إذ تأتلف روح الإنسان بالمسيح وترتاح فيه، فيفقد الزمن ثقل وجوده وسطوة حركة تغييره، فيدخل الإنسان في مجال الروح ويقترب من الله ويغشى هدوء الأبدية، والله معروف عنه أنه «الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ» (يع 1: 17).
ويقص علينا كتاب بستان الرهبان عن القديس أرسانيوس الذي كان يقف للصلاة والشمس خلفه في الغروب وإذا بها تشرق أمام وجهه في الصباح دون أن يحس بالاثنتي عشرة ساعة التي وقفها في الصلاة، لأن روحه دخلت مجال اللازمني. هذه طبعًا إحدى خبرات الحياة النسكية البسيطة، فالإنسان في بداية وقفاته في الصلاة يشعر بالتعب والملل ويحاول أن يستند على الحائط أو يثني ركبته، فإذا لم يجهد نفسه أن يقتحم حاجز الملل ويصلب نفسه في الصلاة فلن يدخل في أسرارها العجيبة حقًّا. وهذه أبسط أسرار الحياة مع المسيح، فالصلاة مفتوحة لكل إنسان حتى ولو كان مبتدئًا في الإيمان.
دخول المسيح إلى العالم، إذًا، كان لكي يعطي الإنسان فرصة الاقتراب منه، الاقتراب الذي ينتهي بالالتحام حين يثبت الإنسان في المسيح والمسيح يثبت فيه، حسب الوصية: «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ» (يو 15: 4)، وما قاله بولس الرسول أيضًا: «أَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غل 2: 20). هنا الحياة الزمنية ابتُلعت في المسيح وسادت الروح على الجسد؛ علمًا بأن القديس بولس الرسول عانى من الآلام ما لا حصر له، لكنه كان في نشوة الروح لا يحسبها شيئًا مقابل المجد الذي تيقَّن أنه سيُستعلن فيه: «فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاِضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ» (2كو 12: 9 و10)، «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا» (2كو 4: 17). فكل ألم في المسيح يقابله مجد بالروح، هذه هي المعادلة المطروحة أمام كل إنسان للاختيار. فإمَّا يعيش الإنسان بعيدًا عن المسيح مغلوبًا تحت وطأة هذا الزمان، وإمَّا مع المسيح يحيا في ملء الخلاص الأبدي. فالمسيح جاء إلى العالم واقتحم الزمن ليعطينا الغلبة على الجسد والعالم: «ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يو 16: 33).
+ + +
فإن كنا اليوم نعد نفوسنا بالصوم لكي نستقبل الميلاد الحقيقي للمسيح فينا، فأتمنى جدًّا أن نبدأ من الآن لكي نعيش سر الميلاد. فالمسيح جاء إلى العالم لكي نجيء نحن إليه، ولكنه جاء إلينا بعد أن أكمل إخلاء ذاته إخلاءً؛ آخذًا صورة عبد مهان وهو على نفس المستوى يدعونا إلى إخلاء مشابه: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (لو 14: 26).
هذا الإخلاء، أو هذا التجريد، أو هذه الإماتة، هي سر التحوُّل الأعظم من الزمني إلى اللازمني، ومن الموت إلى الحياة، ومن الحياة تحت ربقة الجسد إلى النصرة فوق العالم والدخول إلى سر الوجود الأعظم.
ولكن كل ما قلته حتى الآن عن مجيء المسيح إلى العالم وما ترتب على هذا المجيء من اقتحام الزمن ورفع آثار التغيير التي تعمل لحساب الموت بالنهاية، فهذه كلها سلبيات؛ فإذا كانت السلبيات لها كل هذا الجمال، فما بالك إذا ما تحدثنا عن الإيجابيات التي ترتبت على ظهور ابن الله بالجسد؟! وأولها أنه عرَّفنا بالآب الذي لم يكن ممكنًا فيما سبق لأي إنسان أن يتعرَّف عليه، سواء كانوا آباءً أو رسلًا أو أنبياءَ أو أيَّ بشر منذ بدء الخليقة. ولكن بميلاد الابن استُعلن الآب لرسله وأنبيائه بالروح بواسطة المسيح: «اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. الاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18). فسِرُّ الآب، أي حقيقة الله كأب، هو سر مخفي عن كل مَنْ لم يستعلن حقيقة الابن الذي بواسطته صرنا نقول إنَّ الله هو أبونا، أو ندعو الله أبانا! الأمر الذي يستحيل على كل ذي جسد، فالله لا يُقترب منه: «سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ» (1تي 6: 16)
ولكن الله صار أبًا لنا بمجيء المسيح، فبميلاد الابن قَبِلنا سر الآب واستُعلن لنا سر الثالوث الذي هو عمق أعماق الله، أي استعلان فعالية الحب الأبوي والحب البنوي وروح التقديس في الله من نحونا. فبمجرد أن ندرك الثالوث بالإيمان ندخل في أسرار حب الله المنسكب على الخليقة كأب، بواسطة الابن، في تقديس الروح. وهذا هو غاية الإدراك ومنتهى المعرفة، إذ أن الله بإعلانه سر فعالية الحب والتقديس القائم فيه، أي في الثالوث، للبشر، يكون قد ابتدأ يكشف للإنسان أعماق نفسه من نحونا، التي تتلخَّص في الحب والتقديس. وهذا شيء يذهل العقل ويفوق كل استحقاق.
هذا كله نلناه بميلاد المسيح، وبغير ميلاد المسيح ما كان ممكنًا لله أن يكشف حبَّه الأبوي للإنسان، ولا كان باستطاعة أي إنسان أن ينال التبني بدون الابن، ولتَعَذُّرَ التقديس بدون الروح القدس ولاستحال الاقتراب كليَّة من الله. إذ كيف يصير الله لنا أبًا دون أن نصير له أبناءً أولًا؟ ثم كيف نصير لله أبناءً دون أن نأخذ حق التبني لله بواسطة دالة ابن الله نفسه؟ ولكن كيف نستحق أن نكون أبناءً في الابن إذا لم نتقدَّس أولًا بالروح القدس؟ هذه هي فعالية الثالوث الإلهي فينا، أو هذا هو منتهى استعلان الله لنا. فالثالوث هو سر حياتنا الجديدة في الله ... وكان ميلاد المسيح هو الكشف الأعظم لسر الله في ذاته من نحونا.
هذه هي أُولى الإيجابيات: سر معرفة الله كأب. فقد كنَّا بدون المسيح يتامى بلا أب، عبيدًا وبلا إله في العالم. أمَّا اليوم، وبسبب المسيح، أصبح الروح القدس نفسه يصرخ داخلنا مخاطبًا الله بفمنا: «يَا أَبا الآبُ» (رو 8: 15). فقد صرنا في المسيح أبناءً لله ومقدَّسين بالروح.
هنا أمر آخر عجيب جدًّا قد صار لنا بميلاد المسيح، وهو ما عبَّر عنه الرب يسوع بقوله: «كمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا» (يو 15: 9)!! إلى هذا الحد يتطابق ويتساوى حب الآب للابن بحب الابن لنا! هذا أمر مذهل حقًّا، بل كشف آخر عميق وخطير لسر الحب القائم في الثالوث من نحونا. فحب الآب المنسكب في الابن صار لنا بالروح القدس الذي سكبه الله علينا ليسكن فينا: «لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا» (رو 5: 5).
مَنْ يقدر أن يتصوَّر هذا، أن الله - الذي هو نور لا يُقترب منه لا بالعقل ولا بالتصوُّر - قد صار حبه الآن يتدفق في قلب الإنسان بمقدار حبه للابن! إن العلاقة التي تربط الآب بالابن التي كانت سر الأسرار، السر المخيف والعميق، الذي لا يقدر الإنسان أن يسبر غوره، هذا يقول الرب عنه إنه صار في متناول الأطفال: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعْمْ أَيُّهَا الآبُ، لأَنْ هكَذَا صَارَت الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ. كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 25 - 27). فسر حُب الآب للابن سر لا يمكن للإنسان أن يبلغه لا بالفهم ولا بالتصوُّر، ولكن حالما يقبل الإنسان المسيح وينفتح قلبه بالإيمان ويحل الروح القدس، لا يصير بعد سرًّا، بل دفقة حب أبوي مع فرح لا يُنطق به ومجيد. فمحبة الله الآب للابن هي التي تنسكب في قلوبنا بالروح القدس الذي يمنحه الله لنا.
فمجيء المسيح إلى العالم، بهذه الكيفية، يكون قد كشف للإنسان أعظم أسرار الله، أي سر الثالوث، بل وأعطانا أعظم ما في هذه الأسرار وهي محبة الله الخاصة جدًّا للابن: هذا هو قصد ابن الله الوحيد الذي أعلنه بل طلبه من الآب جهارًا ليلة آلامه: «لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ» (يو 17: 26)، «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ» (يو 1: 12).
(ديسمبر 1981)
________________________________________
(1) عظة أُلقيت على الرهبان في دير القديس أنبا مقار في الأحد الأول من صوم الميلاد، ديسمبر 1981.