|
|
|
+ عناصر الأجزاء السابقة: معنى الطقوس الكنسية وأصولها الكتابية - مبنى الكنيسة - الهيكل ومحتويـاته - حامـل الأيقونـات - البخور والمجمرة - ما هو القدَّاس؟ - لُغة القدَّاس - دور الألحان في العبادة. 4. طقوس القدَّاس الإلهي:
لا يَخْفَى على القارئ، ونحـن ننتقل إلى بعض التفصيل في طقوس القدَّاس التي عرضنا لها إجمالاً من قبل، أنه لا يمكن أن نحصر كل عناصرها من صلوات وترتيبات في عددٍ من المقالات، فهي كثيرة ودقيقة وموضوعة بعناية شديدة تعكس المجال المقدَّس الذي تخدمه. وفي المقام الأول، هي تستحضر أحداث الإفخارستيا ومُلابساتها ورموزها في العهد القديم، وما يُحيط بها مـن جـوانب لاهوتية وروحية وتعليمية وآبائية، في جوٍّ مـن التسبيح والتمجيد والتراتيل، مِمَّا لا يمكـن الإيفاء بـه هنا، ولكنه مجـال الباحثين المُتخصِّصين والمُعلِّمين وآبـاء الكنيسة. ولذا فنحـن نختار للقارئ المُهتم أبرز الجوانب (وهي ليست قليلة) التي يليـق أن يُحيط بها ويفهمها، فيُشبع ذهنه ويفرح قلبه، كما تبتهج روحه بالتناول من جسد الرب ودمه.
أ - رفع بخور عشية وباكر:
لأن خـدمـة القـدَّاس(1) هـي مـركـز الليتورجيـة(2)، فمِـن هنا يسبقها ويُهيِّـئ لهـا صلوات وتسابيح كثيرة تبدأ برفـع بخور عشية (خر 30: 8) في الليلة السابقة [باعتبار أنَّ اليوم كتابيّاً يبدأ مـن المساء السابق إلى المساء التالي (تـك 1: 13،8،5)]؛ ورفـع بخور باكـر (خر 30: 7) الذي يسبق القدَّاس مباشرةً.
ولمَّا كان القدَّاس (”كَسْر الخبز“: لو 24: 35؛ أع 2: 46،42؛ 1كو 10: 16) يُقام في البداية في أول الأسبوع (أع 20: 7) أي في يوم الأحد، يوم الرب، فتكون صلاة عشية إذاً في ليل السبت(3).
ويبدأ رفع بخور عشية وباكر (وتقدمة الحَمَل) بصلوات السواعي (الأجبية)، فهي جزءٌ أساسي في الليتورجية. ففي رفع بخور عشية تُقال صلاة الغروب (الحادية عشرة) والنوم (الثانية عشرة)، وبعدهما صلاة نصف الليل [التي تُذكِّـر بمجيء الرب وخـروج العـذارى الحكيمات لاستقبالـه ومصابيحهن مُنيرة (مـت 25: 4)]. وفي رفـع بخور باكر تُقال صلاة باكر (الأولى)، وقبل دورة الحَمَل صلاتـا الساعتين الثالثة والسادسة(4) في الأيـام العادية، وتُضاف صـلاة الساعة التاسعة في أيام الصوم (وضمنها الأربعاء والجمعة، عدا الخمسين). على أنـه في صـوم نينوى والصوم الكبير(5) تمتدُّ الصلوات إلى صلاة النوم(6).
ويُميِّز رفـع بخور عشية وباكر التسبحة(7) بألحانها الجميلة التي تتناول جـوانب لاهـوتية وعقيدية وروحية، تُتيح تسبيح الله والتأمُّـل في أعماله وحياة قدِّيسيه ورفع القلب إلى السماويَّات.
وخـلال رفـع البخور تُصلِّي الكنيسة أواشي الراقديـن (الذيـن وإن غابـوا بالجسد، ولكـن الكنيسة لا تنساهم وتُصلِّي من أجلهم) والمرضى والمسافرين (وبينهم القادمون مـن أماكـن بعيدة لحضور القدَّاس، وأيضاً سائر المسافريـن بكـلِّ وسيلة، فتطلب مـن أجـل سـلامة وصولهـم) والقرابين(8).
ويسبق قراءة إنجيل عشية أو باكر تلاوة قانون الإيمان(9)، وطلب مراحم الله (افنوتي نـاي نان: ”اللهم ارحمنا“) بلحنها المُعزِّي، فأوشية الإنجيل التي يُطوِّب فيها الرب الآذان التي تسمع كلمته وتعمل بها (مت 13: 17،16)، فيطلب الشمَّاس أن نُصلِّي من أجـل البشارة بالإنجيل المقدَّس. ثم يطـوف الكاهن الهيكل وأمامه الشمَّاس، وهما يمسكان البشارة، حتى يأتي الشمَّاس إلى باب الهيكل رافعاً الصليب ويُنادي الشعب أن ”قفـوا بمخافـة الله وانصتوا للإنجيـل المقدَّس“ ”استاثيتى ميتافوفو ثيئـو...“. ويرفـع الكاهن البشارة وهو يهتف بالقبطية مُباركاً على كلمة الله، كما هتف الشعب للـرب عند دخـوله أورشليم (مت 21: 9؛ مـر 11: 9؛ لو 19: 38؛ يو 12: 13) ”إفزماروؤوت انجى في اثنيـو...“ ”مُبارك الآتي باسم رب القوات... يا رب بارك هذه القراءة من إنجيل...“، ويُقرأ الإنجيل وتُلقى العظة، ويُصلِّي الكاهـن الأواشي الصغار ويقـرأ التحليل وتُختَـم الصـلاة (كما في سـائر الصلوات) بلحـن ”آمين الليلويـا، ذوكصابتري...“ ”المجـد للآب والابـن والروح القدس...“ والصلاة الربَّانية، ويُقبِّل الشعب الصليب والإنجيل. ويصرف الكاهن الشعب قائلاً: ”محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وعطية الروح القدس، تكـون معكم. امضوا بسلام، سلام الرب مع جميعكم“.
ب - تقدمة الحَمَل:
هـذه هي البداية الحقيقية للقدَّاس الإلهي الذي مهَّدت له صلـوات رفـع بخـور عشية وباكر، فيدخل الكاهن الهيكل ويأخـذ في إعـداد المذبح لخدمـة الإفخارستيا، ويرتـدي هـو والشمامسة ملابس الخدمة البيضاء. وفي هـذه الأثناء، يُرتِّل الشعب مع الخورس لحناً تسبيحياً هادئاً للثالوث: ”تين أوأوشت إم فيـوت انتيه بي أوأويني...“ ”نسجد لآب النور، وابنه الوحيد، والروح القدس المُعزِّي، الثالوث المساوي“(10). وقد يتبعه لحن آخـر يـدور حـول التجسُّد والخلاص وبتولية العذراء وكرامتها العاليـة: ”شيري ماريـا تي أورو...“ ”السلام لمريم الملكة...“.
ثم تُقـرأ مزامير السواعي، وبعدها يقف الكاهن مُتَّجهاً إلى الغرب عند بـاب الهيكل وأمامـه كاهن شريك أو شمَّاس يحمل القرابين، ويبدأ الكاهن في اختيار قربانة الحَمَل والشعب يُرتِّل ”كيرياليصون“. فينتقي أفضل قربانـة، ويـداه مُتقاطعتان على مثال الصليب، وهـو يقول: ”الرب يختار له حَمَلاً بغير عيب“(11). ثم يمسـح القربانـة بـالماء (رمـزاً للمعمودية في الأردن) ويلفُّها بلفافة (رمزاً لتقميط الرب في المـذود أو لفّـه بالأكفان)، ويحملها إلى رأسه وفوقها الصليب، ويتَّجه إلى الشعب الساجد ويقـول: ”مجـداً وإكراماً، إكراماً ومجـداً للثالوث الأقدس...“، ويطوف بالحَمَـل حـول المذبح (كما حَمَـلَ سمعان الشيخ الطفل يسوع – لـو 2: 28)، فيهتف الشعب: ”الليلويا فاي بي بي إيهوؤو...“ ”هـذا هـو اليوم الذي صنعه الرب...“، وهـو المزمور (118: 24-26)(12). ثم يرشم بالصليب القربانـة والخمر والماء ثلاثـاً باسم الآب والابن والروح القدس. ويـردُّ الشمَّاس: [واحدٌ هـو الآب القدوس (يو 17: 11)؛ واحدٌ هـو الابن القدوس (لو 1: 35؛ أع 3: 14)؛ واحدٌ هـو الروح القدس (أف 1: 13؛ 4: 30). مبارك الرب الإله إلى الأبد. يـا جميع الأُمم باركـوا الرب، ولتُباركـه جميع الشعوب؛ لأن رحمته قـد ثبتت علينا، وحق الرب يدوم إلى الأبد (مـز 117: 2،1)]. فيرد الشعب: ”ذكصابتري“ (اليونـانية)(13)، أي ”المجـد للآب والابن والروح القدس...“.
وأثناء ذلك يكون الكاهن قد وَضَع الحَمَل في الصينية، ويصبُّ الخمر في الكأس ومعه قليل من الماء (كما خرج مـن جنب الرب دم ومـاء عند طعنه بالحربة - يو 19: 34). ثم يتلو الكاهـن صـلاة الشكر(14)، وفي ختامها يضع القبَّة (التي ترمـز إلى نجم المشرق) فـوق الحَمَل ويُغطِّيها بلفافة، كما يُغطِّي الكأس أيضاً، ثم يُغطِّي الكـل بالابـروسفارين (الذي يرمـز إلى الحجر الذي وُضِعَ على قبر السيِّد)، ويضع فوقه لفافة مطويَّة على شكل مُثلث كأنـه الختم على فـم القـبر. وهنا يُرتِّل الشعب لحناً بطيئاً: ”سـوتيس آمين“ ”خلصت حقّاً، ومع روحك أيضاً“(15)، ويُطيلون لحن أول حرفين (سو) بصورةٍ حزينة كأنه نواح المريمات عند القبر. فالكنيسة في القدَّاس تستعيد في طقوسها جوانب حياة الرب.
ثم ينزل الكاهن والشمامسة إلى خارج الهيكل، وفي الطقس الصحيح يتَّجه الكاهـن إلى الشرق (وليس ناحيـة الغرب كما يحـدث كثيراً) ليتلو تحليل خدَّام هـذا اليوم (القمامصـة والقسـوس والشمامسة والإكليروس وكـل الشعب ونفسـه) المُستعدِّيـن التائبين، ليكونـوا مُحاللين مـن فم الثالوث الأقدس وآبـاء الكنيسة منذ الاثني عشر رسولاً وإلى الآن. وبعد التحليل يستكمل الشعب اللحـن الذي توقَّف، ويُرتِّلون بعده لحن ”طاي شوري“ ”هـذه المجمرة“ (رمـز العذراء) (في الآحاد) أو ”تي شوري“ (في الأيام)، الذي يُمجِّد تجسُّـد الرب من العذراء التي حلَّ الروح القدس عليها، وحملت جمر اللاهـوت دون أن تحترق. ويليـه لحـن الهيتينيات ”هيتين نـي...“ حيث يطلـب الشـعب شفاعـة العـذراء ورؤسـاء الملائكـة وصلوات الرسـل والشهداء والقدِّيسين ليُنعِم الرب علينا بالغفران.
(يتبع)
دكتور جميل نجيب سليمان
(1) أكثر القدَّاسـات استخدامـاً في كنيستنا هـو =
= قدَّاس القديس باسيليوس (329-379م) رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك (الذي يُخاطب أقنوم الآب)؛ وهناك أيضاً قـدَّاس القـديـس غريغوريـوس الثيئولوغـوس أي الناطق بالإلهيات (329- 390م) (ويُخاطب أقنوم الابن)؛ والقدَّاس الكيرلسي (الذي يُخاطب الآب)، وهـو أقدمها وإن كـان أقلها استخداماً، وقـد وضعه القديس مرقس الرسـول، ولكـن أضاف إليه القديس كيرلـس الكبير عمود الديـن [البابا 24 (412-444م)] فنُسِبَ إليه.
(2) يُقصَد بالليتورجية: الخدمة الكنسية عموماً، وفي القلب منها خدمة الإفخارستيا وسائر الأسرار. كما تشمل أيضاً التعليم والصلاة والتسبيح وكل جوانب العبادة.
(3) في البدايـة كـان القدَّاس يُقام في المساء في أكثر الكنائس، كما فعل المسيح ليلة تأسيس السرِّ (مت 26: 20؛ مر 14: 17)، واستمر هذا التقليد حتى القرن الخامس. ولكنه لا يزال مستمرّاً في الأعياد السيِّدية الثلاثة: الميلاد والغطاس والقيامة.
(4) بحسب التوقيت العبري أيام المسيح بالجسد: فالساعة الأولى من اليوم (الصباح) تُقابل الساعة السادسة بتوقيتنا، وبالتالي فالساعة الثالثة يُقابلها عندنا التاسعة، والساعة السادسة (عند الصليب) يُقابلها الظهيرة، والتاسعة (عندما أَسْلَم الرب الروح) يُقابلها الثالثة بعد الظهر، والحاديـة عشرة (الغروب، عندما أُنزل المسيح من الصليب) يُقابلها الخامسة، والثانية عشرة (النوم، عندما دُفِنَ جسد الرب) يُقابلها السادسة مساءً.
(5) باعتباره قمة أصوام الكنيسة الذي صامه رب المجد (مت 4: 2؛ مر 1: 13؛ لو 4: 2)، كما صامه في القديم النبيَّان موسى (خر 34: 28؛ تث 9: 18،9) وإيليا (1مل 19: 8) رفيقا الرب يوم التجلِّي، فتزداد جرعة النُّسك ويمتد الصوم.
(6) ولكن تُصلَّى الساعة الثالثة فقط في عيد العنصرة، وهي الساعة التي حـلَّ فيها الروح القدس على الكنيسـة =
= (أع 2: 15). ولا تُقال صلاة المزامير قبل تقدمة الْحَمَل في ليالي الأعياد السيِّدية.
(7) ويحتويها كتاب ”الأبصلمودية“ السنوية، والكيهكية (الخاص بشهر كيهك)؛ وتضمُّ تسابيح (إبصاليات) وتماجيـد (ذكصولـوجيات) وثيئوطوكيات (تمجيد خـاص للعـذراء والدة الإله).
(8) في رفع بخور باكر، ولها عند تلاوتها لحنها المُتميِّز بين ألحان الكنيسة الذي يليق أن يتمتَّع بها كل مؤمن.
(9) قانون الإيمان هو خُلاصة مبادئ الإيمان المسيحي الذي وضعه آباء مجمع نيقية (325م) واستكمله آباء مجمع القسطنطينية (381م)، ووَضَعَ مجمع أفسس (431م) مقدِّمة قانون الإيمان (نُعظِّمك يا أُم النور الحقيقي).
(10) في الأعياد السيِّدية يبدأون القدَّاس بلحن: ”ابؤرو إنتيه تي هيريني...“ ”يا ملك السلام...“، ونُردِّده في البصخة بلحن الحزن.
(11) كما جرى في اختيار خروف الفصح (تك 12: 5): «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ... بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ» (1بط 1: 19،18).
(12) في السبوت والآحاد والأعياد. أمَّا في أيام الأسبوع الأخرى وآحاد الصوم الكبير، فيُرتِّل الشعب بالقبطية المزمور «الذبائح والتقدمات اقبلها إليك». وفي أيام الصوم (مـز 43: 4): «فَآتِي إِلَى مَذْبَحِ اللهِ، إِلَى اللهِ بَهْجَةِ فَرَحِي، وَأَحْمَدُكَ بِالْعُودِ يَا اَللهُ إِلهِي».
(13) كانت اللغة اليونانية مُتداولة بين الرهبان في قرون المسيحية الأولى. وكان أنبا مقار يُتقنها ويتكلَّم بها مع الرهبان.
(14) التي تبدأ بها كل الصلوات بعد الصلاة الربَّانية.
(15) بعض الآبـاء يُصحِّح ترجمـة كلمات اللحن =
= اليوناني إلى ”خلصنا حقّاً، ومع روحك أيضاً“ الذي يبدو أكثر ملائمة.