|
|
|
(تكملة) سيرة البابا ديمتريوس الثاني:
اهتمام الغربيين ببداية خدمة البابـا الحسنة:
تولِّي إسماعيل باشا حُكْم مصر:
وهكذا تولَّى إسماعيل باشا حُكْم مصر في 18 يناير سنة 1863م. وكـان رجلاً مُتَّسع الأفـق، يستهدف النهوض بالبلاد. فكـان يستخدم الأَكْفَاء مـن الرجال، سواء أكانوا مُسلمين أو أقباطاً. إلاَّ أن مَيْلَه للأوروبـيين والأمريكـيين طغـى على شخصه طغياناً شديـداً، ما أدَّى في النهايـة إلى فُقدانه عَرْشَه.
+ وهكـذا انتهـز الأجـانـب (الغربيـون والأمريكيـون) فُـرصتهم، وأخـذوا ينشـرون مدارسهم، ليس فقط في المدن، بل وفي القُرَى أيضاً. وكـانت خُطَّتهم موضوعة بحيث تُضفي على نشاطهم نوعاً من المهابة الزائفة، وتتلخَّص في أنهم كانـوا يبدأون دائماً بافتتاح مدرسة في المكان المُختار. والمدرسة المُختارة كـانت طبعاً في ذلك الزمـان، مكانـاً تتطلَّع إليـه أبصار المصريـين، وعلى الأخص في عهد ”إسماعيل“ الذي سعى بكـلِّ جهده إلى نَشْـر التعليم على مختلف مستوياته.
+ فكـان المصريـون يجـدون مدرسة فيها المعلِّمـون (والمعلِّمات، حسب نـوع الطلبة أو الطالبات) الذين غالباً ما كانوا قد أَتَوا من خارج مصر، وجاءوا خصيصاً لخدمتهم.
+ وهكذا، دخل أبناء وبنات المصريين هذه المدارس، حيث كانوا يجدون فيها الكُتُب ووسائل الإيضاح التي تُبهرهم بجمال إخراجها وطباعتها، فيزداد تقديرهم لأولئك المُرسَلين. وفـوق ذلك، كـان الفقراء يمكنهم أن ينالوا العطف من هؤلاء المُرسلين الأجانب بتخفيف المصروفـات عليهم، وأحياناً بالمجانية.
+ وبكـلِّ هـذه الوسـائل ”المُثلى“، كـانت المدرسـة الأجنبيـة في أَعـين المصريين أَشْبَه بالواحـة المُثمـرة وسط صحراء قاحلة. وهكذا أَخَـذَت هـذه المدارس الفرنسـية والإيطاليـة (كاثوليكية المذهب)، أو الإنجليزيـة والأمريكية (بروتستانتية المذهب)، تنتشر في أنحـاء مصر، وخاصةً في الصعيد.
التعليم والحياة الفكرية:
عقب انتهاء النزاع بين محمد علي والسلطان العثماني، غشى المـوت تدريجياً التعليم والحياة الفكرية خلال حكومة خُلفائه، إلى أن كادت آثار البعثات التعليمية أن تـزول تماماً، تلك البعثات التي سبق أن أرسلها محمد علي إلى أوروبـا. لذلك، فـإنَّ التغذية الفكريـة عند ولاية إسماعيل باشا افتقدتها مصر، وبهذا توقَّفت أو كادت. وكان عبَّاس الأول يرى في إخماد كل مظاهر النشاط الفكـري الطليق، وسيلة للخلاص مـن أخطـار المدنيَّة الحديثة، وقد كان سعيد باشا أيضاً يخشى من تعليم أبناء الأُمَّة! أمَّا إسماعيل باشا، ولو أنه كان يخشى المُتعلِّمين، إلاَّ أنه كان حريصاً على رُقيِّ البلاد ونهضتها. ولذلك شاهَدَ عصـره حياةً فكريـة جديـدة، كانت بَعْثاً للنهضة الفكرية التي بَـدَأَتْ في عصـر محمد علي، ثم انتكسـت في عصر عباس وسعيد!
+ ولمَّا كان التعليم هـو أداة النهضة الفكرية ووسيلتها، فقـد اهتمَّ إسماعيـل باشـا بإنشـاء المدارس، وتكفَّلت الحكومـة خصوصـاً بنفقات تلاميذهـا. ثم عَكَفَ على تنظيم شئون التعليم، فأعـاد ”ديـوان المدارس“ الـذي أُلغي في عهد سَلَفـه، كمـا زادت مـيزانيـة وزارة التعليـم (التي كانت تُسمَّى ”وزارة المعارف“) تدريجياً.
+ وكذلك أُنشِئت المدارس الابتدائية، وفي الوقت نفسه أَخَذت الحكومة تُنشئ المدارس التجهيزية، التي كانت الدراسة فيها هي: بالعربية والتركية والفرنسية والإنجليزيـة والألمانيـة! ثم المواد الأخـرى مثل: الحساب والجغرافيا والتاريخ والهندسة، وغيرها من العلوم، ثم الرسم، والخط الإفرنجي!
+ ثم أُنشئت مدرسـة للحقـوق ومدرسـة للزراعة، وغيرها من العلوم الجامعية؛ بالإضافة إلى مدرسة الصُّم والعميان. وهذا عدا المدرسة الحربية. كما أُنشئت أول مدرسة لتعليم البنات!
+ وقـد نالـت مـدارس الجاليات الأجنبية ومـدارس الإرسـاليات تشجيعـاً كبيراً، ماديـاً ومعنوياً، من جانب إسماعيل باشا. وقد فُتِحَت في وجه خريجي هذه المدارس، بكلِّ أنواعها، أبواب التوظُّـف في المصالح الحكومية. فـأقبل الطلبة على الدراسة إقبالاً شديداً(2).
بدء دخول المُرسلين الأمريكيين،
واستهدافهم التفرقة بين عُنصرَي الأُمَّة:
من المؤلم أنه كانت فتنة دينية في سوريا أدَّت إلى تمكين السيادة الغربيـة هناك(3). وعلى أثر هـذه الفتنة، جـاء المُرسَلون إلى مصر ومعهم مجموعة مـن السوريين الذين استمالوهم إليهم. فكـان هـؤلاء السوريون التُّكأة التي استند إليها الأمريكيـون في عملهم بـين المصريين. فإنهم اختطُّوا خطة في بلادنـا مصر مُماثلة لتلك التي حدثت في سوريا، فجعلوا أحد الوافدين السوريين (فارس حكيم) يُثير فتنة كبيرة في أسيوط، اتَّخذتها سلطات واشنطن ذريعة لتطلب إلى إسماعيل باشا تعزيز مركز المُبشِّرين وأعوانهم. ومِن هنا سَرَى شعـور في مختلف الجهات بـأنَّ المُرسلين إنما جاءوا لنشر النفوذ الأجنبي في مصر(4).
اهتمام إسماعيل بالأقباط والمدارس القبطية:
ولكن مُقابل هـذا التعدِّي الأجنبي المُتزايد من خلال الدِّين، نـال الأقباط بعضاً مـن عنايـة إسماعيل باشـا، إذ منحهم جملة مـن الأراضي الزراعية، ثم أصدر أَمـره إلى نظارة المعارف العمومية (أي مـا يُساوي في عصرنـا الحاضر ”وزارة التربية والتعليم“) بإجـراء امتحان تلاميذ المدارس القبطية بعـد امتحان تـلاميذ المدارس الأميريـة. والطريف أنـه بمناسبة الامتحان في المدارس القبطية، كـان يُقام احتفالٌ عظيم يُدعَى إليه العلماء والأُمـراء وكبار القوم يتقدَّمهم مُفتي الديار المصرية!
انتباه الحكومة المصرية
لحركة المدارس الأجنبية:
وقـد فطنت الحكومـة المصريـة لحركـة المدارس الأجنبية، فأدركت أنَّ هـذه الأخيرة إنما كانت تستهدف إضعاف الروح الوطنية والتفرقة بين عُنصرَي الأُمَّـة، فـأَصْغت إلى رجاء البابا ديمتريوس بـأن يقوم برحلة رعويـة يُهيب فيها بشعبه أن يتمسَّك بعقيدته الأرثوذكسية التي تسلَّمها عن آباء الكنيسة الأبرار(5).
+ وتحقيقاً لرغبـة البابـا ديمتريوس، أصـدر إسماعيل باشا أَمْره بتهيئة باخـرة حكومية ليُسافر عليها البابا الإسكندري ورفاقه في الخدمة الرسولية، يُهيب فيها بشعبه أن يتمسَّك بإيمانـه الأرثـوذكسي الذي تسلَّمه عن آباء الكنيسة القدِّيسين.
+ وبالفعل استقـل البابـا ديمتريوس الثاني الباخرة، واصطحب معه العالِم اللاهـوتي الكبير ”الإيغومـانس فيلـوثيئوس عوض“ خادم الكنيسة المرقسية بـالأزبكية، وعدداً مـن الآبـاء الكهنة والشمامسة، حيث أخذوا يتنقَّلون بين مدن الصعيد وقُراه إلى آخر حدود مصر الجنوبية.
+ وقد استغرقت رحلتهم ثلاثة شهور، كانوا يجتمعـون خلالها بـالشعب القبطي في كـلِّ الإيبارشيات التي زاروهـا. وقـد آزرتهم النعمة الإلهية، فنجحوا في استرداد أبناء الكنيسة القبطية إلى كنيستهم الأُم. وقد وَصَفَ المُرسَلون الأجانب في صفحات كُتبهم الجهـود التي بَذَلتها الكنيسة القبطية لتجميد نشاط هؤلاء المُرسلين في وادي النيل كله، وتكفُّل شعب الكنيسة بأجمعهم لمواجهة هؤلاء الوافدين(6).
حملة مضادة من المُرسلين الأجانب، لحرق كنيسة مطرانية أسيوط بما فيها من أيقونات وإلقائها على الأرض:
ثم قام المُرسلون الأجانب بحملة مضادة بلغت مـن العنف درجة بعيدة عـن التصديق: ذلك أنهم نجحوا في استفزاز ثلاثة من رجال الأقباط الأراخنة الذين انضمُّوا إليهم. وهؤلاء الثلاثة، بحسب وصف المؤرِّخة ”إيريس حبيب المصري“، لم يكونوا مـن الجَهَلة ولا مـن العامة، ولكنهم من الأراخنة ومن بيوت معروفة بأسيوط؛ كان أحدهم اسمه ”ويصا“، وثانيهم من بيت ”الزقيم“، وثالثهم من بيت ”حبل“. وقد دفعت رغبة الاستفزاز بهؤلاء الثلاثة إلى ذهابهم بعد منتصف الليل إلى كنيسـة المطرانيـة ليُحاولـوا إحـراقها، لأنهـا - بحسب وصفهم - كنيسة تزخر بالخرافـات والتعاليم الوثنية داخـل المسيحية (وكان ذلك سنة 1865م)! ويبـدو أن البُغضة التي مَـلأَت شعور هـؤلاء الرجـال، زادتهم حقداً وإصراراً بما يفعلون، لأنهم أفرغـوا ”علبة كبريت“ كاملة لحرق الأيقونات الخشبية في الكنيسة، فلم يتمكَّنوا من إشعال النار! وكان أسقف أسيوط (الأنبا مكاريوس) آنذاك، مُعتاداً أن يؤدِّي صـلاة باكـر في الكنيسة وليس في قلايته. وحين قام فجر ذلك اليوم، وقف ملاك الرب أمامه، وقال له: ”عُـدْ إلى مخدعك، فالوقت لا زال مُبكِّراً“. وأطاع الأسقف أَمر الملاك، وعاد.
وكان هـذا الإنذار الإلهي بمثابة صوت للأب الأسقف لئلا يؤذيـه المعتدون على الكنيسة. ولمَّا وَجَد الرجال الثلاثة أنهم عاجزون عـن إحـراق الكنيسة، مزَّقوا الستائـر وأَلْقَوا بالأيقونـات على الأرض. فلما أشـرق الصباح، وانتشر خبر هذا الاعتداء على الكنيسة، سَرَت موجة من الغضب، مـا أدَّى بإسماعيل باشا أن يصـدر أمـره بنفي المُعتدين الذين لم يخجلوا من الاعتراف بفعلتهم. ولكـن قناصـل الدول البروتستانتية (الأمريكية والإنجليزيـة) سَعَوْا لـدى الخديـوي، الذي قَبِلَ وساطتهم وأصدر أَمره بالعفو عن هؤلاء الرجال.
وكـان عَفْوُه هـذا سبباً في جَعْل المُتخوِّفين يتجاسرون في الانضمام إلى الطائفة البروتستانتية التي أسَّسها ”هوج“ الأسكتلندي(7).
(يتبع)
(1) وليم سليمان قلادة، ”الكنيسة القبطية في مواجهة الاستعمار“، ص 25؛ نقلاً عن كتاب:
Earl E. Elder, Vindicating a Vision, p. 28.
(2) عـن: عبد العزيز جمال الدين، ”تاريخ مصر...“، مكتبة مدبولي، 2006، الجزء 4، ص 1392-1395.
(3) مصطفى الخالدي وعمر فروخ، ”التبشير والاستعمار في البلاد العربية“، ص 135-143؛ إيريس حبيب المصري، ”قصة الكنيسة القبطية“، الكتاب الرابع، ص 264.
(4) D. Watson, The American Mission in Egypt, pp. 126-130,442.
(5) كانت هذه الإرساليات في تلك الحقبة، توحي إلى الشعب القبطي - بناءً على الدعايات الأجنبية - بأنَّ رُعاته كانوا جهلة خاملين!
(6) وليـم سليمان قـلادة، ”الكنيسة القبطية...“، ص 31، نقلاً عن أندرو واطسن.
(7) عن: ”تاريخ الكنيسة القبطية“، مَنَسَّى القمص، ص 722. ومِمَّا يُذكَر، وكما تصف الأستاذة إيريس حبيب المصري: حـدث أثناء محاضرة للمُتنيِّح الأنبا صموئيـل في المعهد العالي للدراسات القبطية، في مايو 1966، أنـه ذَكَرَ هـذه الواقعة؛ فقاطعته إحـدى الحاضرات بقولها: ”مش معقول يكون حَصَل كده“! ولساعتها قامت شابة من عائلة ”ويصا“ قائلة: ”أيوه، جدي كان واحداً من الثلاثة الذين حاولـوا حَرْق الكنيسة في أسيوط بأيقوناتها“! ولا يحتاج مثل هذا الاعتراف إلى أيِّ تعليق!