|
|
|
مقدِّمة: لا شـكَّ أن شهيدنـا ”سعيـد بـن كـاتب الفرغاني“(1) الذي نتكلَّم عنه في هذا العدد، هـو نموذج ومعيار لشبابنا اليوم من كافة الأوجه. فهو شابٌّ مهندسٌ، بارعٌ في علمه، قويٌّ في إيمانه. وهـو مثال يقف أمامنا اليوم في زمـانٍ وعصرٍ مليء بـالتحدِّيـات. والمُتتبِّـع لواقـع شبابنـا، يرصد الكثير من الصعوبات والمشكلات التي تُواجه هذه الشريحة الثمينة التي تَفخَر بها الأُمم والمجتمعات. فبعض شبابنا، بكل أسفٍ، واقعون تحت تأثير مؤثِّرات خطيرة، وكلامنا هنا موجَّـه لشـباب مصـر جميعاً، فنحـن وحـدة وحجر أسـاسي في البيت المصري الكبير، نتأثَّـر بـه ونؤثِّر فيه.
المهندس سعيد بن كاتب الفرغاني:
كان أحمد بن طولون قد خطَّط مدينة بجوار مدينـة ”الفسطاط“ سمَّاهـا ”القطائع“. فبني له الفرغاني صهريج ماء، وحفر له عين ماء تضخ الماء في هـذا الصهريج، وهذا الصهريج بدوره متَّصل بقناطر تصل بمدينة ”القطائع“. وقد وصل إعجاب ابـن طولـون بعمل المهندس الفرغاني، أنـه ذهب ليفتتحها بنفسـه، وحولـه الحـرس الملكي يرفـع الرايـات السوداء، وهي شـعار الدولة العباسية.
وفي طريقه، تعثَّر جواد ابن طولون في كومة من الحجر والأتربة، قد نَسِيَ أحد العمال إزالتها، مِمَّا تسبَّب في وقوع أحمد بن طولون عن جواده. فغضب ابـن طولون على مهندسه الذي خطَّط ونفَّذ له كل مشاريعه، وأَمَرَ بحبسه. ويذكر بعض المؤرِّخين أن فترة حبس الفرغاني وصلت إلى ستة عشر عاماً.
وفي هـذه الأثناء، فكَّر أحمد بن طولون في بناء مسجد، وقـال له بعض المُشيرين إنه يحتاج إلى 300 عمود لبناء المسجد، وسهَّلوا له الأَمر بأنها متوفِّرة بكنائس المسيحيين.
وسمع ”سعيد بن كـاتب الفرغاني“ بما يجول في ذهن ابن طولون، فطلب مقابلته، لإخباره بأنه يمكنه بناء المسجد على عمودين فقط، مع إمكانية عدم حجب الرؤيا للمُصلِّين، بالإضافة لاستخدام مادة تُسمَّى ”الآجر“ ضد الحريـق، وصمَّم له نموذجاً مُجسَّماً مـن الجلد يوضِّح الفكرة لابـن طولون.
فاستحسن ابـن طولون الفكرة واستراح لها، خاصة لثقته ومعرفته السابقة بإمكانيات ”سعيد بن كاتب الفرغاني“ الهندسية.
وبنى صاحب السِّيرة المسجد، وكان غاية في الإتقان والفن الهندسي، وتكلَّف بناء المسجد مائة وعشرين ألفاً من الدنانير(2)، ووزَّع ابن طولون الكثير من الصدقات يوم افتتاح المسجد.
ويذكُـر كتاب: ”تـاريخ مصر مـن خـلال مخطوطة ساويرس بن المقفَّع“(3):
[إن أحمد بن طولون كان يرغب في توصيل الماء لمدينته الجديدة ”القطائع“. وأشار عليه البعض بتوصيل القناطـر بعين أبي خالـد، ولكنه رفض، لأنه كان يريد حَفْر عين جديدة تُخلِّد اسمه هو.
فحَفَرَ عيناً جديـدة، وبنى عليها القناطـر وسمَّاها المؤرِّخون ”السقاية“، وكانت شبيهة بالقناطـر الرومانية، وكـان لها مـن المتانة والإبداع الشيء الكثير. وتطلَّب بناؤهـا مبالغ ضخمة، وكانت مبنية مـن نفس المواد التي استُخدِمَت في بنـاء الجامـع. والـذي بنى هـذه العيون هو المهندس القبطي الذي شيَّد له فيما بعد الجامع].
أما عن كيفية بناء الجامع فيذكُر المقريزي عن المهندس القبطي: ”إنه كـان رجلاً قبطياً، حسن الهندسة، حاذقٌ بها“.
وأهم ما يمتاز به جامع أحمد بن طولون، هو مئذنتـه التي تقع في الرواق الغربي، وتكـاد لا تتَّصل بسائر بناء الجامع. وهي مُشيَّدة مـن الحجر، وتتكوَّن مـن قاعدة مُربعة، تقوم عليها طبقة اسطوانية. وأمَّا السلالم، فمِن الخارج على شكل مُدرَّج حلزوني، وليس لها نظير في البُلدان الإسلامية.
وذَكَرَ المقريزي وابـن دقماق، أنَّ أحمد بـن طولون لمَّا عقد العزم على تشييد الجامع، قال: ”أُريد أن أبني بناءً إن احترقت مصر، بَقِيَ؛ وإنْ غرقت، بَقِيَ“. فقيل له: ”يُبنَى بالآجر والطين، ولا يُبنى بالرخام، فإنه لا صبر لها على النار“. وقد احتفظ جامع ابن طولون بتصميماته الأولى دون أن تمتدَّ إليه يد.
استشهاد المهندس الأمين البارع
سعيد بن كاتب الفرغاني:
وأخيراً، طلب أحمد بن طولون من سعيد بن كاتب الفرغاني إنكار دينه، فرفض المهندس الشجاع. فاغتاظ ابن طولون من المهندس القبطي لرفضه إنكار دينه، وأَمَرَ بقطع رأسه(4)، ونال إكليل الشهادة في السابع من كيهك الموافق 16 ديسمبر، وكان ذلك خلال القرن التاسع الميلادي.
بركة صلاته تكون معنا، آمين.
(1) ”تاريخ سعيد بن كاتب الفرغاني المهندس“، بقلم: كامل صالح نخلة، استناداً على ما أورده المقريزي والسيوطي والإسحاقي (الأستاذة إيريس حبيب المصري، ”قصة الكنيسة القبطية“، الجزء الثاني، ص 413).
(2) عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م)، ”تاريخ ابن خلدون“، (الجزء الرابع) المُسمَّى ”ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومَن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر“، طبعة دار الفكر ببيروت، ص 395.
(3) عبد العزيز جمال الدين، ”تاريخ مصر من خلال مخطوطة ساويرس بن المقفَّع“، الجزء الثاني، ص 400-401.
(4) وإن كان قد ذَكَرَ البعض أنَّ ابن طولون قتله حتى لا يصنع مثل هـذا الجامع، أو يطلب منه أحد أن يبنى له ما هو أعظم منه.