من تاريخ كنيستنا
- 143 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا بطرس الجاولي
البطريرك التاسع بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1809 - 1852م)
- 7 -

 «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

انبثاق النور على يدَي البابا بطرس في القدس:

عندما قـام ”أفندينا“ إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا بفتح بـلاد الشام (فلسطين وسوريـا ولبنان حالياً)، واستولى على مدينة القدس، بَلَغَه أنَّ النور يظهر في ليلة عيد القيامة على يـد بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس. فلم يُصدِّق إبراهيم باشا هذا الكلام. ودعا بشدَّة البابا بطرس الجاولي إلى الحضور للقدس لإقامة احتفال عيد القيامة، ويُباشر بنفسه خدمة خروج النور مـن القبر المقدَّس الذي دُفِنَ فيه الرب يسوع المسيح، كما كان يفعل بطاركة الروم هناك كل سنة.

+ وهكذا، لبَّى البابا بطرس دعوة إبراهيم باشا والي الشام، وسافر إلى مدينة القدس، وهناك تقابَل مـع ”أفندينا“، وأَطْلَعَه على حقيقة الأَمر. ومِن حيث إنه سيترتَّب على تعدِّي البطريرك القبطي على حقوق بطريرك الروم في القدس، عداوة كبيرة بين الكنيستَيْن القبطية والرومية في المدينة المقدَّسة؛ قابَل البابا بطرس ”إبراهيم باشا“ واعتذر له. فقَبِلَ الباشا اعتذار البابا، ولكنه اقترح عليه أن يكـون مُصاحِباً لبطريـرك الروم في الصلاة.

وكـان إبراهيم باشا يرتاب في حقيقة الأَمر، أي ظهور النور في القبر المقدَّس وخروجه منه في يوم سبت النور.

+ وتقول سيرة البابا بطرس إنـه كان خائفاً من عاقبة تأخير انبثاق النور، وما سيترتب على ذلك مـن سوء العاقبة بعد ذلك! فأخـذ البابا يستغيث، في صلواته الحارَّة، بقدرة الرب يسوع المسيح. وكانت كنيسة القيامة في ذاك الوقت قد غصَّت بالجماهير التي أتت من كل مكان، حتى تضايق الناس من شدَّة الازدحام.

+ وهكذا أَمَـر الباشا بـإخراج الفقراء إلى خـارج الكنيسة، ليقفوا في الفضاء الكبير خارج الكنيسة، ودخل الباشا مع بطريرك الروم وبابا الإسكندرية إلى القبر المقدَّس. وابتدأ البطريركان بالصلاة، ولما حـلَّ الوقت المعهود، انبثق النور مـن القبر المقدَّس بصورة رهيبة، بشكل أرعب الباشـا (الذي كـان واقفاً خلف عمود رخامي)، حتى استولى عليه الذهـول والانـدهاش، وأَخَذَ يصرخ مُردِّداً هـذه الكلمات: ”أمان بابـا“ ”أمان بابا“. وكـاد أن يسقط على الأرض، لدرجة أن تلقَّاه البابـا بطرس في حضنه إلى أن أفاق مـن تأثير جلال المنظر ورَهبته.

+ أمَّا الفقراء الذيـن وقفوا خـارج كنيسة القيامة، فكانوا أسعد حظّاً مِمَّن كانـوا بداخلها، لدرجة أنَّ أحد أعمدة باب الكنيسة الغربي انشقَّ وخرج لهم من الشقِّ النور المنبثق مـن داخل الكنيسة، فتباركوا منه.

+ كما ظهرت آثار نفس قوة النور المقدَّس على أحد الأعمدة الرخامية داخل الكنيسة نفسها، إذ انشقَّ من أعلى إلى أسفل، وظهر فيه آثار الحريق (وقد شاهَدَ كاتب هذا المقال هذا العمود الرخامي والشقَّ المحـروق بنفسه، وذلك عـام 1966، أثناء حضوره قدَّاس انبثاق النور داخل الكنيسة).

+ وبعد انتهاء الاحتفال بعيد القيامة، عـاد البابا بطرس مُكرَّماً إلى مقرِّ كرسيه(1).

+ وفي مرجع آخر أضاف الكاتب (الأستاذة إيريس حبيب المصري في كتابها: ”قصة الكنيسة القبطية“، الكتاب الرابع، ص 268-269) أنَّ البطريركين الرومي والقبطي اضطرا، حسب التقليد السائد، أن يخلعا جميع ملابسهما لضمان أن ليس أحدٌ منهما يُخبِّئ شيئاً فيها. وعندها أَخَذ البابا بطرس يستغيث بربِّ المجد ضارعاً إليه أن يتمجَّد أمام كـل المنتظريـن التبرُّك برؤية نور قيامته. وتقول السيرة إنَّ بطريرك الروم كان يُصلِّي بحرارة إلى جانبه. وعندما انبثق النور من القبر المقدَّس وطاف وانتشر حول الكنيسة، ثم إلى العمود القائم على يسار الداخل بالقُرْب مـن بوَّابـة الكنيسة؛ رآه الشعب الذي كان مُنتظراً خارج الكنيسة.

رسامة الآباء المطارنة والأساقفة في عهده:

+ وقـام البابـا بطرس الجاولي برسامة مطرانين للمملكة الحبشية (إثيوبيا الآن): أحدهما في سنة 1816م، ويُـدعَى الأنبا كيرلس. وبعد نياحته، قـام البابـا برسامة الأنبا سلامة عام 1841م، وقد عمَّر هذا المطران طويلاً، إذ تنيَّح في عام 1867م في أيام البابا ديمتريوس الثاني البطريرك الحادي عشر بعد المائة.

+ كما قـام البابا بطرس برسامة ثلاثـة وعشرين أسقفاً لإيبارشيات مصر والقدس(2).

المملكة الحبشية والكنيسة القبطية:

+ كان رئيس دير القديس أنبا أنطونيوس في عهد البابـا بطرس الجاولي، هو القس داود(3)، وكان يرعى شئونه ويعمل على إنهاضه، باثّاً في رهبانـه روح الزُّهد والتقوى. لذلك، رأى البابا بطرس الجاولي أنَّ هذا الراهب يستحقُّ أن يركن إليه في المهام الصعبة وإنجاز الأمور الهامـة، وذلك لِمَا يمتاز بـه من الفضائل وحُسْن التدبير؛ فادَّخره البابا إلى وقت الحاجة.

+ وإذ كان قد حدث خلاف بين الأنبا سلامة مطران الحبشة وبين إكليروس تلك البلاد، وسببه أنَّ المطران لمـا تولَّى منصبـه، رأى الشعب والإكليروس هناك يسلكون على ما هـو مُخالف لروح الإنجيل؛ فتعجَّب مـن تساهُـل أسلافـه المطارنة في هـذا الأَمـر، فعَمِلَ على وعظهم ومحاولة إرجاعهم إلى طريق الفضيلة والبرِّ. ولكنهم بدلاً من الرضوخ للأَمر واتِّباع ما أَمَر به الكتاب المقدَّس، غضبوا وأصرُّوا على سلوكهم، بدعوى أنه تراث أجدادهم، فلم يُريدوا الرجوع عمَّا هم فيه(4).

+ ولما يئس الأنبا سلامـة مـن ردعهم بالبراهين الدينية، أَخَذَ يُهدِّدهم بسُلطان الكنيسة. فلم يجد الشعب أمامهم مـن وسيلة سوى شَكْواه إلى رئيسه البابـا بطرس الجاولي، الذي كان مشهوراً - كما تقدَّم ذِكْره - بالحُلْم والوداعـة والتقوى. فكتب البابا بطرس إلى المطران، بـأن يُعامِـل الرعية بالرِّفق واللين، وأن يُجنِّب كـل ما يؤول إلى الشقاق.

فلما قـرأ المطران رسالة البابـا، شَقَّ عليه وصْفُه بالقسوة والحِدَّة اللتين وُصِفَ بهما، مع أنَّ البابا لم يُصرِّح له بشيء من ذلك. فردَّ المطران على البابا بخطاب يُبرِّئ فيه نفسه من تلك التُّهَم، شارحاً المشكلة شرحاً وافياً، وقـال في نهايـة الخطاب إنَّ موضوع خلافـه مـع الشعب ليس موضوعاً مدنياً حتى يتساهل فيه، فإنَّ طاعة الله أَوْلى من طاعة الناس(5).

+ فلما وصـل خطاب المطران إلى البابـا بطرس، سُرَّ لثبات المطران وإخلاصه، وأنـه (البابا) كـان يرجو أن تنفرج الأزمة على يديه، وأنـه عَلِمَ بتفاقُم المشكلة بسبب تداخُل رجال الحكومـة الحبشية هناك ومقاومتهم للمطـران، فخَشِيَ أن يكون من وراء ذلك الإهمال، انسلاخ الكنيسة الحبشية عن الكنيسة القبطية بعد أن ظلَّت تابعة لها منذ سنة 330م. ونظراً لعدم إمكان الأب البطريرك السَّفَر، لأن شيخوخته أَقْعَدته عن ذلك، وخصوصاً صعوبـة المواصلات آنـذاك، بحيث أنها حالت دون قيامه بالسَّفَر إلى تلك البلاد النائية؛ فلم يجد البابا مَن يعتمد عليه سوى القس داود، فاستدعاه وفوَّضه في أن يكون نائباً عنه. وفي الحقيقة هـو ”أعطى القوسَ لباريها!“ حسب المثل الشعبي المعروف(6).

فأذعـن القس داود الأنطوني لطلب البابـا، وطلب من الأب البطريرك أن يُصرِّح له بأن يأخذ كاهناً آخر يُرافقه ليكون عوناً له في تلك المهمة، فأَذِنَ له. فاصطحب معه راهباً قسّاً يُدعى ”برسوم“، وهو الذي صار فيما بعد مطراناً على المنوفية باسم الأنبا يؤانس(7).

+ وقام القس داود في الحال إلى ”بوش“ (وهي استراحة الدير)، وتأهَّب للسَّفَر حتى إذا ما جاء الميعاد الذي حدَّده البابا، سار على بركة الله ومعه رفيقه، يحملان رسـالة مـن البابـا الإسكندري للمطران، ورسـالة أخـرى للقسوس الإثيوبيين ولسائر الشعب الحبشي.

وعندما ودَّعه البابا، قال له على مَسْمع من الحاضرين: ”فإذا أدَّيتَ هذه المهمة على وَجْهٍ مُرْضٍ، فإنك ستنال نصيباً صالحاً عند عودتك، مكافأة لك على أتعابك“.

+ وقيل إنَّ البابـا وَعَدَه بالدرجة المطرانية عند رجوعه، وكان ذلك في سنة 1567ش/ 1851م.

+ أمَّا سرُّ هذه المهمة، فهو خلاف ديني كان قد حدث منذ سنة 1541ش/ 1825م، وكَتَبَ فيه البابـا بطرس عـدَّة كُتُب، عَثَرَ على اثنين منها العلاَّمة جرجس فيلوثاوس، وكـان تاريخهما 24 طوبة سنة 1541ش. ونصُّ أحدها كالآتي:

صورة كتاب البابا بطرس إلى الملك كيكار

من بطرس عبد الله المدعو بنعمته، القائم الآن بمشيئته في خدمة الكرسي المرقسي بالإسكندرية والمدينة الأورشليمية والديار المصرية والأقاليم الحبشية والبلاد المجاورة.

سلام الله القدوس الخاضع لعِزَّته ولجلال عظمته الرئيس والمرؤوس، يحلُّ ويتضاعف ويزداد ويتراءف، ويشمل الأخ الحبيب، والمحل الشريف العالي الملكي، ملك ملوك الجيوش النجاشية والحامي بصوارم (سيوف) سُلطانه المماليك الحامية، الملك البار المُحب المختار ”كيكار“، تـاج الأُمم المسيحية، وفخر بني المعمودية؛ أدام الله تعالي أيامه، وأَيَّدَ نَصْره، ورفع أعلامه، وشَمَل محلَّه بالبركات السماوية وسوابغ الأنعام الإلهية، بطلبات مَن قُبِلَت طلباتهم، آمين.

إنه في أبرك وقتٍ وأَشْرَف ساعة، قد حضر إلينا في شهر جمادي الأولى سنة 1240 هلالية، كتابكم المؤرَّخ في شهر ربيع الثاني سنة 1237 هلالية، يتضمن اعتقاد إيمانكم بتجسُّد ابن الله الكلمة الأزلية بالجسد الذي أَخذه من الروح القدس ومن مريم العذراء، أنه حَكَم قولكم الابن الوحيد بدُهن المسحة، وأنَّ أخانا المطران الذي توجَّه لكم لَمَّا مَنَعكم مـن هذا الاعتراف، طلبتم أن أُرسِلَ لكم واحداً خلافه يقول بقولكم واعتقادكم. هذا وتُقدِّمون لاعتقادكم، الذي أنتم متمسِّكون به، شهادات تفسيرها تجدونه مكتوباً في دَرْج الأمانة الواصل إليكم.

والحال، يا أخانا، إنَّ الآباء البطاركة والمطارنة والأساقفة من أبينا مرقس الإنجيلي وإلى زماننا هذا، لم يَقُل أحدٌ منهم: ”إنَّ الابن الوحيد بدُهن المسحة“. ولا سمعنا أحداً من الطوائف المسيحية جميعها يقول: ”الابن الوحيد بدُهن المسحة“؛ بل الجميع يقولون: إنَّ الابن الوحيد مَسَحَ ناسوته بلاهوته، كما قال أبونا القديس غريغوريوس الثيئولوغوس، وصار مسيحاً من أجل اللاهوت، إذ كانت هي المسحة للبشرية، ولم تكن مسحة بفعلٍ منفصل بحسب ما كان في غيره من المسيحيين، بل كانت من حضوره مُتَّصلاً، لم ينفصل عن الماسح، وصار الفعل لهذه المسحة أن يصير الماسح إنساناً والممسوح إلهاً. وأيضاً نؤمن ونعترف أنَّ ابن الله له ميلادان: ميلاد من الله الآب قبل كل الدهور، وميلاد من القديسة مريم في آخر الزمان. وليس ينبغي، إذن، أن نفهم طبيعتين، بل طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسِّد. ونؤمن ونعترف مثل المجامع المسكونية الثلاثة: النيقاوي، والقسطنطيني، والأفسسي. وهذه صورة أمانتنا المُرتَّبة من المجامع المذكورة:

+ ”نؤمن بإلهٍ واحد: الله الآب، ضابط الكل، خالق السماء والأرض، ما يُرَى وما لا يُرَى.

نؤمن بربٍّ واحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور. نور من نور. إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ. مولود غير مخلوق. مساوٍ للآب في الجوهر. الذي به كان كلُّ شيء. هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، تأنَّس. وصُلِبَ عنَّا على عهد بيلاطس البنطي. تألَّم، وقُبِرَ، وقام في اليوم الثالث من بين الأمـوات كمـا في الكُتُب. وصَعِدَ إلى السموات، وجلس عن يمين أبيه في العُلاء. وأيضاً يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لمُلكه انقضاء.

نعم، ونؤمن بالروح القدس، الرب المُحيي المنبثق من الآب. نسجد له ونُمجِّده مع الآب والابن، الناطق في الأنبياء.

وبالواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية. ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا.

وننتظر قيامة الأموات، وحياة الدهر الآتي، آمين“(8).

(انتهى خطاب البابا بطرس الجاولي)

(يتبع)

(1) كتاب: 15 تاريخ، ص 211 ”أ“- 312؛ وسنكسار دير الأنبا أنطونيوس، رقم 343 طقس؛ عن كتاب: ”سلسلة تـاريخ البابـوات بطاركـة الكرسي الإسكندري“، تأليف: كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، ص 141،140.
(2) كتاب: 15 تاريخ، ص 310 ”أ“؛ وسنكسار دير الأنبا أنطونيوس، رقم 343 طقس؛ عـن المرجع السابق، ص 142.
(3) كان رؤساء الأديرة من الآباء الرهبان المرسومين كهنة. ولم يُرسَم للأديرة أساقفة إلاَّ في عهد البابا كيرلس الخامس (1874-1927م)، ولدواعٍ تختص بإدارة أوقاف الأديرة، حينما بدأت المجالس الملِّية في الإشراف على هذه الأوقاف، مما أزعج الرئاسات الكنسية، وبدأوا في هذه العادة (أي رسامة أساقفة لإدارة الأديرة).
(4) ”تاريخ البابا كيرلس الرابع“، تأليف: جرجس فيلوثـاوس عوض، ص 45،44؛ عـن: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، المرجع السابق، ص 143،142.
(5) المرجع السابق، ص 143،142.
(6) ”تاريخ البابا كيرلس الرابع“، ص 46.
(7) ”تاريخ البابا كيرلس الرابع“، ص 46.
(8) عن: ”تاريخ البابا كيرلس الرابع“، ص 47-50؛ المرجع السابق، ص 144-146.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis