|
|
|
نشأته: كان القديس يُدعَى يوحنا الرائي، إذ كانت له موهبة التنبُّؤ بالمستقبل، كما دُعِيَ نبي مصر، ويوحنا السائح. وقال عنه القديس يوحنا كاسيان: ”نـال موهبة النبوَّة مـن أجـل طاعته العظيمة، فصار مشهوراً في كل العالم“.
رآه القديس جـيروم على أطـراف مدينـة ليكوبوليس (أسيوط)، ووضعه في قائمة كتابـه: ”مشاهير الآباء“، في الفصل الثاني. وتحدَّث عنه بشيء من التفصيل، خاصةً حديث القديس يوحنا معه هـو ورفقاؤه، وهـو حديث روحي عملي مُمتع، اقتبس منه القليل.
يُلقَّب أيضاً بيوحنا المتوحِّد الأسيوطي، لأنه وُلد بمدينة أسيوط عـام 304م. وكـان أبواه مسيحيَّيْن، وكانت صناعته النجارة والبناء. وفي سنِّ الخامسة والعشرين من عمره، تنيَّح والداه، فسلَّم أُخته وأمواله لعمِّه، ثم ذهب هو لدير أنبا مقار حيث ألبسه الأنبا إيسيذوروس والأنبا أبامون الإسكيم المقدَّس (كلمة ”أنبا“ أو ”أبَّا“ هي لقب الشيوخ من الرهبان).
في جبل أسيوط:
بعد خمس سنوات من رهبنته، ظهر له ملاك وقال له: ”قُمْ امضِ إلى جبل أسيوط“. فجاء إلى الجبل الغربي على بُعد خمسة أميال من مدينة أسيوط، حيث بنى له ثـلاث قلايـات على سفح الجبل، لهـذا دُعِيَ يـوحنا التبايسي (الصعيدي): إحدى القلايات لحاجات الجسد، والثانية يعمل بها ليكسب قُوته، والثالثة للصلاة.
وخلال الثلاثين عاماً التي قضاها هناك، كان يحصل على حاجاته من خلال طاقة، يُقدِّم له منها خادمه ما يحتاجه. وكان مـن عادة القديس أن يلتقي بالناس يـومَي السبت والأحـد، يُعزِّيـهم ويُرشدهم، من خلال نافذة في قلايته.
قال القديس يوحنا لبالاديوس: ”إنني قد حبست نفسي ثمانية وأربعين عاماً في القلاية، لم أرَ فيها وجه امرأة، ولا رأيتُ نقوداً، كما أنني لم أنظر إنساناً وهو يأكل، ولا رآني أحدٌ آكلاً أو شارباً“.
وقد اشتهر القديس بطاعته لمعلِّميه، وأيضاً بموهبة شفاء الأمراض، وقـد استحقَّ أن يقتني موهبة معرفـة الأمور قبل حدوثها. وقـد أنبـأ الإمبراطـور ثيئودوسيوس الكبير بانتصاره على الثائر مكسيموس.
وذات مـرَّة أرادت خادمـة للمسـيح اسمها ”بومينيا“ Poeminia، وهي من أقارب الإمبراطور ثيئودوسيوس، أن ترى القديس يوحنا، ولكنه رفض وأرسل لها كلمات مُعزِّية. ومما قاله لها: ”لا تسلكي طريـق الإسكندريـة في رجوعكِ لئلا تقعي في تجارب“. إلاَّ أنها نَسِيَت هذه النصيحة، فتعرَّضت لحادثة من بعض الأشرار الذين سَطَوْا على المركب الذي كـانت تستقلُّه وضربـوا خادمها، وبذلك جَنَت ثمرة النسيان لنصيحة القديس يوحنا.
لقاء القديس يوحنا مع بالاديوس:
فقد زاره بالاديوس بعد أن سافر لمدة 18 يوماً حتى وصل إلى قلايـة القديس. وتنبَّأ له القديس يوحنا بأنه سيُسام أسقفاً على هلينوبوليس Helenopolis. وبعد 25 عاماً من هذه الزيارة، سجَّل لنا بالاديوس سيرة القديس يوحنا التبايسي في كتابـه: ”التاريخ اللوزياكي“. كما زاره كاتب ”تـاريخ الرهبنــة“ Historia Monachorum Aegypto، والذي ترجمه روفينوس إلى اللاتينية.
وروى لنا بالاديوس قصة لقائه مع القديس. فقال إنه إذ كان في برية نتريا مع الأب أوغريس، سأله عن فضائل القديس يوحنا الأسيوطي، فقال له إنه يشتاق أن يعرف شيئاً عنه.
وفي اليوم التالي، حبس بالاديوس نفسه في قلايته طوال اليوم، وهو يطلب إرشاداً من الله. فشعر باشتياقٍ شديد للقاء القديس. وفي التوِّ، سافر تارةً مشياً على الأقدام، وتارةً أخرى وهـو يستقل مركباً في النهر، وكان الوقت وقت فيضان النيـل، وأمـراض الصيف منتشرة في جميع الأرجاء، فصار فريسة لها.
وإذ بلغ بالاديوس إلى موضع القديس، وَجَدَ مسكنه مُغلقاً، فانتظر حتى يوم السبت صباحاً. ولما أقبل على قلاية القديس، وجده جالساً عند نافذة القلاية، يُقدِّم مشورة لسائليه. فحيَّاه القديس يوحنا وتحدَّث معه من خلال مُترجم. وإذ جاء إليبسيوس والي المنطقة، تحـوَّل القديس نحـوه مُتحدِّثاً معه، وظلاَّ يتحدَّثان مدة طويلة.
وحينذاك شعر بالاديوس بضيقٍ وإهانة، إذ تركه القديس وتحوَّل متحدِّثاً مـع الوالي. لكن سرعان ما قال القديس للمُترجم أن يُخبر بالاديوس ألاَّ يقلق. وإذ انصرف الوالي، دعـا القديس يوحنا بالاديوس وتحدَّث معه، وجاء في حديثه ما يلي:
[لماذا أنت غاضبٌ مني، «لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب بل المرضى» (لو 5: 31). فإني إن كنتُ لا أُقدِّم لك مشورة، يوجد إخوة وآباء آخرون يُعطونـك مشورة. أما هذا الوالي، فسلَّم نفسه للشيطان، وقد جاء يطلب معونة. فليس من المعقول أن نتركه، لأنـك مهتمٌّ بخلاصك].
ثم أكمل القديس حديثه قائلاً:
[أحزان كثيرة تنتظرك... والشيطان يقترح عليك الرغبة في رؤية أبيك، وأن تُعلِّم إخوتك الحياة التأمُّلية. وعندي لك أخبارٌ سارة، وهي أنَّ كلاًّ منهم قد تحوَّل إلى طريق الخلاص].
سأله القديس يوحنا: ”أتريد أن تكون أسقفاً“؟
أجابه بالاديوس: ”أُريد فعلاً“.
سأله القديس: ”أين“؟
أجابه بالاديوس:
[في المطبخ على الموائد والأواني. أفحصها كأسقفٍ ناظرٍ عليها، وإذا وجدتُ محتوياتها رديئة أحرمها، وإذا وجدتُ الطعام محتاجاً إلى ملح أو توابـل أُضيفها. هـذه هـي إيبارشيتي، لأن شهوة بطني عيَّنتني ابناً لها].
ابتسم القديس يوحنا وقال له:
[كُفَّ عن التلاعُب بالألفاظ. إنك ستُسام أسقفاً وتُقاسي من ضيقاتٍ كثيرة. إنْ أردتَ الهروب من الضيقات فلا تترك البرية، لأنه لا يوجد فيها أحدٌ له سلطان أن يسيمك أسقفاً].
وبعد ثلاث سنوات، نَسِيَ بالاديوس نصيحة القديس، وإذ أُصيب بمرضٍ في الطحال والمعدة، أخذه الإخوة إلى الإسكندرية. فنصحه الأطباء أن يذهب إلى فلسطين، لأن مُناخها أنسب لصحته. ومِـن هناك ذهب إلى بيثينيـة بجوار غلاطية، موطنه الأصلي، وهناك سيم أسقفاً. ولكنه عانَى من النفي والحبس في حجرةٍ مُظلمة لمدة 11 شهراً، فتذكَّر ما قاله له القديس يوحنا.
مع اللصوص:
ظنَّ أربعة لصوص أنَّ لدى القديس أموالاً كثيرة بسبب تحاشُد الجماهير عليه، لينالوا بصلواته الشفاء، أو يتمتَّعوا بمشورته الروحية. ففي نصف الليل، نقب اللصوص باب مغارته، ولكنهم أُصيبوا بالعَمَى، وظلُّوا خارج المغارة حتى الصباح. وعندما احتشدت الجموع، أرادت أن تُسلِّمهم للوالي. أمـا القديس فقـال لهم: ”اتركوهم، وإلاَّ تُفارقني موهبة الشفاء“.
امرأة تلحُّ على رؤيته:
كانت إحدى النساء تلحُّ على رجلها أن ترى القديس يوحنا. وقد جاء الرجل، وهو من النبلاء، يطلب من القديس أن يسمح لزوجته أن تراه، فكانت إجابة القديس: ”هذا الأمر مستحيل“. وإذ صمَّمت الزوجة على رؤية القديس قبل سفرها؛ قال القديس لزوجها: ”سأظهر لها في هذه الليلة، لكن لن أسمح لها أبداً برؤية وجهي بالجسد“!
وفي الليل، ظهـر القديس للمـرأة في حُـلم، وقـال لها:
[مـا عسى أن أفعـل لـكِ يا امرأة؟ لماذا تحرصين بشدَّة أن تري وجهي؟ هل أنا نبيٌّ أو بارٌّ؟ إني خاطئ وشهواني مثلكِ. وها قد صلَّيتُ من أجلكِ ومن أجل زوجكِ ولموضع إقامتكِ. فإنْ آمنتِ يكون لكِ، فسافري بسلام].
وعندما نهضت المرأة من نومها، روت لزوجها ما رأته وما سمعته، ووصفت له شكل الرجل الذي رأته في الحُلم وهيئته، وقدَّمت الشُّكر لله؛ وإذ رأى القديس يوحنا رجلها بعد ذلك، قال له قبل أن يتكلَّم: ”لقد حقَّقتُ طلب زوجتك ورجاءها، وعليك ألاَّ ترى وجهي“. فانصرف الرجل في سلام.
تواضُع القديس:
يروي لنا القديس جيروم قائلاً:
[كان القديس لا يُجري معجزات الشفاء جهراً، بل كان يُصلِّي على الزيت ويُعطيه للمتألِّمين والمرضى، فيبرأون].
حزمه:
كان القديس يوحنا يتحدَّث مع القادمين إليه ويُخبرهم بما فعلوه سرّاً، كما كان يُشير إلى غضب الله وما سيحلُّ عليهم من كوارث بسبب خطاياهم.
لقاء القديس مع القديس جيروم:
يقول القديس جيروم عن القديس يوحنا:
[لقد رأينا عجائب، فقد كُنَّا سبعة أجانب، ذهبنا إلى القديس، وبعد السلام، فَرِحَ بنا. فطلبتُ منه قبل كل شيء أن يُصلِّي لأجلنا، كعادة كل آباء مصر. ثم سألني إن كان بيننا كاهنٌ أو شمَّاسٌ. وإذ قلنا له إنه لا يوجد، عرف أن بيننا شمَّاساً أخفى رُتبته تواضُعاً. فأشار إليه القديس بيده قائلاً: ”هـذا هو الدياكون“، وأَخَذَ القديس يده من خلال النافذة وقبَّلها، وطلب منه ألاَّ ينكر نعمة الله المُعطاة له، سواء كانت صغيرة أو عظيمة.
وإذ كـان أحدنا يرتجف، وهـو مريض بحُمَّى شديدة، طلب من القديس أن يُصلِّي لشفائه. فقال له: ”هذا المرض لصالحك، لأنه قد ضعف إيمانك“. ثم أعطاه زيتاً وطلب منه أن يدهن نفسه به، كما رشمه بالزيت، فتركته الحُمَّى وسار على قدميه معنا].
ويكشف لنا القديس جيروم عن محبة القديس يوحنا الأسيوطي واهتمامه بالآخرين وبشاشته، إذ يقول:
[رحَّب بنا القديس كأولادٍ لأبيهم لم يلتقوا به منذ مدةٍ طويلة، وأجرى معنا حواراً، وقال: ”مِن أين أتيتُم، يا أبنائي؟ ومِن أيِّ بلد أنتم؟ لقد أتيتُم إلى إنسانٍ مسكينٍ وبائس!“. وقد ذكرنا له اسم بلدنا، وأننا جئنا إليه من أورشليم لمنفعة نفوسنا...
ثم قال (القديس): ”لا يظُنُّ المرء أنه قد اقتنى معرفة كاملة، بل القليل منها. يليق بنا أن نقترب إلى الله بطُرُق مُعتدلة وبإيمانٍ، وأن يبتعد محبُّ الله عن الماديات حتى يقترب إلى الرب ويحبه. كل مَن يبحث عن الربِّ بكل قلبه يبتعد عن كلِّ ما هو أرضي!“
”يليـق بنـا أن نهتم بمعرفـة الله قـدر المستطاع، لأنـه لا يمكـن الحصـول على معرفـة كاملة عنه. وهـو يكشف لنا بعض أسراره. وسيعرف المرء مـا سيحدث قبل وقوعه، وتُعلَن له رؤى مجيدة، كما ظهرت للقدِّيسـين. ويعمل الله أعمالاً عظيمة. وكـل ما يطلب من الله يُعطيه إيَّاه...“.
”لا تيأسوا في هذا البلد، لأننا في وقت مُحدَّد سنُرسَل إلى عـالم الراحـة. ولا يتعالى أحـدٌ بأعماله الصالحة، بل يظل في حالة توبة دائمة“.
”الحياة الديرية بجوار القُرى قد أضرَّت الكاملين. أرجو، يـا أبنائي، مـن كل واحدٍ منكم، قبل كل شيء، أن يعيش حياة التواضُع، لأنه أساس كل الفضائل“].
وقد روى لهم القديس أيضاً أمثلة لرهبانٍ سقطـوا وتـابوا، فبلغوا درجـاتٍ عظيمـة في الروحانية. كما حدَّثهم عـن متوحِّدين كـانوا يحرصون على خلاصهم وكمالهم في الرب.
وقد أشار إلى متوحِّدٍ لم يهتم بالطعام، سواء كان حيوانياً أو نباتياً؛ بل كان قلبه مُتعلِّقاً بالربِّ، مترقِّباً مغادرته للعالم. فكان الله يكشف له عن أمجاد الدهر الآتي. وكان جسده مملوءاً صحة حتى شيخوخته، وكان يجد طعاماً على مائدته، وهو كثير التسبيح، حتى أنه لا يشعر بالجوع.
يختم القديس جيروم حديثه بقوله إنَّ القديس يوحنا كان يتحدَّث معهم بكلماتٍ ومحادثاتٍ لمدة ثلاثة أيام حتى الساعة التاسعة، أي الثالثة بعد الظهر. وقـد أخبرهم بوصـول رسـالة إلى الإسكندريـة تُعلِن عـن نصرة الإمبراطـور ثيئـودوسيوس وقَتْـل الطاغيـة أوجينيوس (عام 394م). وقد تحقَّق كل ما قاله.
مؤلَّفاته:
للقديس يوحنا التبايسي مؤلَّفات عديدة عن: الرهبنة، والآلام، والكمال، والفضائل، واللاهوت، والصلوات، وتفسير بعض آيـات العهد الجديد. كما اشتهر بـأقوالـه عـن: محبـة الله، وعمل الرحمة، وملكوت السموات.
نياحته:
أخيراً، وبعد جهادٍ كثير، تنيَّح القديس يوحنا بسلام حوالي سنة 394م، بعد أن قـارَب التسعين عـاماً، وذلك في الحادي والعشريـن مـن شهر هاتور. وتُعيِّد له الكنيسة الغربية في 27 مارس.
من كلماته:
1. مَن ينشغل بالسماويَّات، يقف غير مُشتَّت في حضرة الله، دون أيِّ قلق يسحبه إلى الوراء. فيقضي حياته مع الله، مُنشغلاً به، ويُسبِّحه دون انقطاع.
2. مَن تأهَّل لمحبة الله، تكون محبة الناس بالنسبة له محبوبة أكثر من حياته، إذا استطاع أن يُساعدهم حتى بموته (من أجلهم). فإنه يحب أن يبذل حياته عِوَضاً عن حياتهم، لكي بأحزانه (وآلامه من أجلهم) يجدون هم راحة.
3. مُحب الفقراء يكون كمَن له شفيع في بيت الحاكم. ومَن يفتح بابه للمعوزين، يمسك في يده مفتاح الله.
4. القربان الروحي، هو تقديم أفكار طاهرة تقترن بذِكْـر الله. والمذبح الروحي هـو العقل المرتفع عـن تذكارات العالم. والكنيسة الروحية هي الإيمان والتمتُّع بالأسرار الإلهية.
5. لا تعمل مع سيِّد الكل من أجل موهبة يُعطيها لك، لئلا يجدك مُحبّاً لعطاياه وبعيداً عن حُبِّه شخصيّاً(1).
بركة صلوات القديس العظيم يوحنا التبايسي تكون معنا، آمين.
**************************************************************************************************
استمع إلى عظات الأب متى المسكين بمناسبة صوم وعيد الميلاد المجيد
74 / 1، 76 / 3، 77 / 1، 78 / 1، 79 / 1، 79 / 2، 79 / 16، 79 / 17
81 / 15، 82 / 1، 83 / 1، 83 / 2، 84 / 1، 85 / 1، 85 / 2، 94 / 1م، 2001 / 1
+ + +
تُطلب من:
دار مجلة مرقس
القاهرة: 28 شارع شبرا - تليفون 25770614
الإسكندرية: 8 شارع جرين - محرم بك - تليفون 4952740
أو من مكتبة الدير
أو عن طريق موقع الدير على الإنترنت:
www.stmacariusmonastery.org
**************************************************************************************************
(1) Palladius, Historia Lausiac, Ch. 35.