-133-


الكنيسة القبطية في القرن الثامن عشر
البابا مرقس (يؤانس) الثامن
البطريرك الثامن بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري

(1796 - 1809م)
- 7 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تابع) أراخنة الأقباط في ذلك العصر

الأنبا يوساب الأَبحّ أسقف جرجا (تابع):

اهتم البابا يؤانس الثامن عشر برسالة بابـا روما التي وردت إليه يومـذاك طالبـة منـه الانضمام إلى كنيسة رومـا والإيمان بمعتقداتها. فاستدعى الأنبا يوساب الأبح أسقف جرجا وأخميم لفحص هذه الرسالة، والقيام بالدفاع عن صحة معتقدات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي تسلَّمتها منذ فجر الكرازة الرسولية وحافظت عليها سليمة.

فقـام هـذا اللاهوتي الكبير الأنبا يـوساب الأبحُّ بدراسة هـذه الرسالـة، وكَتَبَ ردّاً عليها، دافع فيه عـن صحة معتقدات كنيسة الإسكندرية ضد تهجُّم البابويين، وقـام بتفنيد ادِّعاءات بابا روما مـن أساسها. وقـد أوضحنا تفاصيل الرد (في عدد مارس 2015، ص 35-37).

+ كما قام الأنبا يوساب الأبحُّ بتأليف كتاب ثمين يُدعَى: ”سلاح المؤمنين“، ضمَّنه معتقدات الكنيسة القبطية وتعاليمها القويمة. كما وضع كُتُباً أخرى نَسَبها إلى البابا يؤانس الثامن عشر.

+ ولمَّا تنيَّح البابـا يـؤانس الثامن عشر البطريرك الـ 107، قام الأنبا يوساب برثائه رثاءً مؤثِّراً، كذلك قـام برثـاء الأرخن العظيم المعلِّم إبراهيم الجوهري يوم وفاته.

+ وقد اشترك هذا الأسقف الجليل والعالِم الفضيل في اختيار البابا مرقس الثامن خليفة البابا يؤانس الثامن عشر، في يـوم 24 تـوت سنة 1513ش (2 أكتوبر سنة 1796م) حيث احتفلت الكنيسة برسامته؛ كما قام أيضاً برثائه في يوم نياحته في 13 كيهك سنة 1526ش (21 ديسمبر سنة 1809م).

+ كما اشترك أيضاً هذا الشيخ الوقور في انتخاب البابا بطرس السابع (الشهير بالجاولي)، وقـام مع باقي الآباء الأساقفة برسامته في يوم 16 كيهـك سنة 1526ش (24 ديسمبر سنـة 1809م) بكنيسة القديس مار مرقس بالأزبكية.

+ كان الأنبا يوساب الأبحُّ رحيماً بالفقراء، لا يـأخذ بـالوجـوه، ولا يُحـابي في أحكـام المتقاضين، ولم يكن يقبل رشوة البتة. أمَّا ما كان يفضل عنده من إيرادات الإيبارشية، فكان يُرسله إلى إخوانه الرهبان بالأديرة. ولم يكن يمتلك شيئاً إلاَّ ما يستر به جسده، وما يحتاج إليه من الكفن ليوم انتقاله. كما كان ينطق بالحقِّ وليس بشيء آخـر غيره، ولم يكـن يهاب سلاطين العالم ولا الرؤسـاء، ولا الزعماء الأغنياء ولا غيرهم، في سبيل نصرة الحق، والدفاع عن الإيمان.

+ وقد رَعَى هذا البار شعبه أحسن رعاية. ولما أراد الله انتقاله من هذا العالم، مرض عدَّة أيام، قضى البعض منها في مقرِّ كرسيه بأخميم، والبعض الآخر في القلاية البطريركية في ضيافة البابا بطرس الجاولي.

+ ثم توجَّه إلى ديره الذي ترهَّب فيه في البريـة، فتلقَّاه الرهبان بـالتهليل والفرح. وهناك انتهت حياته الصالحة، إذ أسلم روحه الطاهرة في يدَي الرب القدوس الذي أحبه، وذلك في يوم 17 طوبـة سنة 1542ش الموافق 24 ينايـر سنة 1826م. وكانت مدة حياته على الأرض إحدى وتسعين سنة. وقـد كافأتـه الكنيسة بذِكْر اسمه وتاريخ حياته وخدمته في سنكسار اليوم المذكور.

المعلِّم الكبير والأرخن الجليل جرجس الجوهري كبير المباشرين في درجة ”رئيس وزراء“ في قاموس العصر الحديث:

إنَّ المعلِّم جرجس الجوهري هو أخو المعلِّم إبراهيم الجوهري (الذي أوردنا سيرة حياته وخدماتـه في عدد يناير 2015، ص 37-40؛ وعدد فبرايـر 2015، ص 40-42). وكـان جرجس مـن مشاهير الأقباط في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وهو ابن المعلِّم يوسف الجوهري. وقد تربَّى مثل أخيه إبراهيم في كُتَّاب مدينـة قليوب، وهـو بمثابة مدرسـة في ذلك العصر. فتعلَّم فيه الكتابـة والحساب والخط، عـلاوة على العلوم الدينيـة واللغة القبطية التي كـانت تُدرَّس إجباريـاً في مناهج التعليم القبطي (والتي أُهمِلَت، بكل أسف، حتى في المدارس القبطية الحالية).

+ ولما كبر، أشركـه أخـوه المعلِّم إبراهيم الجوهري في الأمور الكتابية. فكان له خير مُعين وأحسن مُرشد؛ بل وكانت معاونته لأخيه ذات أثرٍ فعَّال في مستقبل حياته، وسبباً في نجاحه عندما تبوَّأ رئاسة المباشرين بعد وفاة أخيه إبراهيم.

+ وقد كانت ظروف المعلِّم جرجس غير ظروف أخيه، لأن المعلِّم إبراهيم باشر أعماله مدة حياته مع الأمراء المماليك الذين قدَّروه حقَّ قَدْره. ولكن المعلِّم جرجس باشر أمور الحكومة الكتابية والمالية في أربعة عهود مختلفة، واحتكَّ بكثير من حُكَّام متباينين في العادات والأخلاق والدِّين، كما سنسرد ذلك فيما يلي:

أولاً: خدمته في مدَّة حُكْم المماليك:

فقد كان في عهد رئاسة أخيه المعلِّم إبراهيم في أيام الأميرَيْن إبراهيم بك ومراد بك، يعمل مُعاوناً له في تأدية مهام مالية الدولة وأمورها الكتابية. وظل مُساعداً لأخيه حتى مجيء حسن باشا قبطان من قِبَل الدولة العثمانية في سنة 1786م لتأديب الأميرَيْن إبراهيم بك ومراد بك. فهرب الأمـيران في يـوليو سنة 1786م إلى الصعيد الأعلى، وفـرَّ معهمـا المعلِّم إبراهيم الجوهـري. وتقلَّد بعدهما شياخـة البلد الأمير إسماعيل بـك قبل عودة حسن باشا قبطان إلى الأستانة (مقر الخليفة العثماني في تركيا).

+ ولكن المعلِّم جرجس الجوهري بَقِيَ في القاهرة يعمل مباشِراً لأعمال الديوان (الحكومة) مدة قيام إسماعيل بك بمهام شياخة البلد. وذَكَرَ المؤرِّخ يعقوب بك نخلة روفيلة في كتابه: ”تاريخ الأُمَّة القبطية“ ما يلي:

- ”وكان بين الكَتَبَة النصارى الذين تحت إدارة المعلِّم جرجس الجوهري رجل يُدعَى المعلِّم "يوسف كسَّاب" من عائلة سورية الأصل، سوَّلت له نفسه الأمَّارة بالسوء أن يسعى عند مخدومه وهو "اسماعيل بك" واتهمه بما ليس فيه. وإذ كان المعلِّم جرجس محسوباً على الأمير إبراهيم بـك خصم إسماعيل بـك، فقـد سمع كلام الواشي وصدَّقه وغضب على المعلِّم جرجس، وأنزله من منصبه، وعيَّن الواشي بـدلاً منه رئيساً على الدواوين (أي بمثابة رئيس وزراء مثل إبراهيم الجوهري). ولكـن لم تمضِ أيـام حتى ظهر لإسماعيل بك خيانة يوسف المذكور. ولمَّا انكشف الأمر لإسماعيل بك، قبض على يوسف السوري المذكور، وأَمَرَ بإغراقه في نهر النيل، ثم أعاد المعلِّم جرجس الجوهري إلى منصبه كما كان“.

- ”وكان سبب تلك الخيانة، أنه كان على العساكر الأرناؤد رئيس يُسمَّى "صالح أغا" تواطأ مع الأمراء الفارين إلى الصعيد مقابل أن يُسلِّمهم المراكب والقلاع التي بناحية "طُـرة" و"الجيزة"، وكـان الواسطة في ذلك هـو "يوسـف كسَّاب" المذكور. ولمَّا انكشف الأمر لإسماعيل بك، قبض عليه وألزمه بالمبلغ الذي أعطاه له الأمراء الفارين نظير هذه الوساطة. وقد أَمَرَ إسماعيل بك بإغراقه في نهر النيل. أما "صالح أغا" فطرده من مصر منفيّاً“ - انتهى الاقتباس(1).

+ وظلَّ المعلِّم جرجس شاغلاً مركز أخيه إبراهيم الجوهري من وقت اختفائه في سنة 1786م، إلى أن عاد الأميران إبراهيم بك ومراد بك ومعهما المعلِّم إبراهيم الجوهري إلى القاهرة في سنة 1791م. ولما عاد المعلِّم إبراهيم إلى القاهرة، تنحَّى المعلِّم جرجس أخوه عن رئاسة الكُتَّاب، وعادت إلى إبراهيم الرئاسة والسلطة كما كان قبل النفي.

+ ولما انتقل المعلِّم إبراهيم الجوهري من هذا العالم في 31 مايو 1794م، قلَّد الأمير إبراهيم بك (رئيس المماليك) منصب رئاسة المباشرين للمعلِّم جـرجس الجوهـري، وأصبح صاحـب الكلمة المسموعة في البلاد من أقصاها إلى أدناها(2).

+ وظلَّ المعلِّم جرجس في مركز رئاسة المباشرين، حتى أتت الحملة الفرنسية إلى مصر.

ثانياً: المعلِّم جرجس في مدة حُكْم الفرنسيين:

+ ولمَّا خلا الجو للأميرَيْن إبراهيم بك ومراد بك، تصرَّفا في أمور الدولة بكل حزم وشدَّة. إلاَّ أنهما انحرفـا إلى ابتزاز أمـوال الناس، واستبدَّا بـالتُّجَّار الأجـانب، وخصوصاً الفرنسيين. فكثرت شكاوى هؤلاء إلى دولهم، ما لَفَتَ نظر أوروبا إلى مصر، ما جعلها الفرنسيون حجةً وسبباً في الإغارة على مصر في سنة 1798م تحت ستار تأديب المماليك واستخلاص البلاد من جور حُكْمهم.

+ وهكـذا وصلت الحملـة الفرنسـية إلى الإسكندرية بقيادة الجنرال نابليون بونابرت في أول يوليو سنة 1798م، واستولت عليها في يوم الثالث من نفس الشهر. وفي اليوم السادس منه، تحرَّكت إلى القاهرة، فدخلتها في 25 يوليو سنة 1798م.

+ وكُلِّف المعلِّم جرجس رئيس المباشرين بإعداد قصر محمد بك الألفي على شاطئ بِرْكة الأزبكية لإقامـة نابليون بونابـرت قائد الحملة. وكان هذا الحَدَث سبباً في التعارُف بين نابليون وبين المعلِّم جرجس الجوهري. وظلَّ هذا القصر مُجهَّزاً لإقامة قوَّاد الحملة: كليبر، ومينو، بعد سَفَر نابليون إلى فرنسا.

+ ولمَّا قامت الثورة في القاهرة في مارس سـنة 1799م ضد الفرنسـيين، انحصر الأقباط داخل دورهم، وخافـوا مـن النهـب والسَّلب والسَّطْو. فقام المعلِّم جرجس ومعه أكابر الأقباط وطلبوا الأمان من المُتصدِّرين للحركة، فأمَّنوهم، وحضروا وقابلوا الباشا والكتْخُدا والأمراء، وكان معهم الكثير من المال واللوازم(3).

+ وكان المعلِّم جرجس في أثناء مدة حُكْم الفرنسيين منظوراً إليـه بعين الاحـترام، حيث اعتبروه عميد الأقباط. فثبَّتوه في مركزه كرئيس للمباشرين والدواوين، بسبب ما تحقَّقوا فيه من سداد الرأي وعدالة الحُكْم وحُسْن التدبير، حتى أُطلِقَ عليه لقب ”رئيس الرؤساء“(4).

+ وكان الفرنسيون يستصحبونه معهم في انتقالاتهم داخل البلاد. فرافق بونابرت عند سفره إلى السويس لقطع دابر الأمير إبراهيم بك، كما صحبه أعيان الفرنسيين وقوَّادهم عندما رحلوا إلى الوجه البحري في 18 مارس سنة 1800م(5).

+ وقرَّب نابليون المعلِّم جرجس إلى مجلسه، وكان يستأنس برأيه في كلِّ مهام البلاد الداخلية والمالية، وأهـداه ملابس فخريـة يرتـديها في الحفلات الرسمية.

+ وفي يوم السبت 22 سبتمبر سنة 1798م، كان يوم عيد للفرنسيين، فأطلقوا في ذلك اليوم مدافـع كثـيرة، ودقُّـوا طبولـهم، واجتمعت عساكـرهم، ودعـوا المشايخ وأعيان المسلمين والأقباط والشوام؛ فاجتمعوا في ثكنات العسكر الفرنسيين، وجلسوا فترة من النهار وقد لَبِسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار، ولَبِس المعلِّم جرجس ”كركة“ (ثياباً) مُطَرَّزة بالقصب على أكتافها(6).

+ وظلَّ المعلِّم جرجس مُحافظاً على رئاسة الكُتَّاب والمباشريـن، وحائـزاً على ثقة الفرنسيين ورضاء أعيـان المصريين وكبار المشايـخ، إلى إتمام جـلاء الفرنسيين عـن مصر في 18 سبتمبر سنة 1801م، بعد أن قضوا فيها نحو ثلاثة أعوام.

(يتبع)

(1) كتاب: ”تاريخ الأُمة القبطية“، تأليف: يعقوب بك نخلة روفيلة، ص 283-284؛ عن: ”سلسلة تاريخ البابوات بطاركة الكرسي الإسكندري“، كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، ص 95-96.
(2) كما ورد في كتاب: ”عجائب الآثار“ للجبرتي، جزء 3، ص 101؛ عن المرجع السابق، ص 96.
(3) الجبرتي، جزء 3، ص 101؛ عن المرجع السابق، ص 98،97.
(4) الجبرتي، جزء 4، ص 134؛ كتاب: ”نوابغ الأقباط“، تأليف توفيق اسكاروس، جزء 2، ص 286؛ عن كامل صالح نخلة، المرجع السابق، ص 98،97.
(5) المرجع السابق، ص 98.
(6) المرجع السابق، ص 98.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis