من تعاليم الآباء
بمناسبة شهر كيهك المبارك


القديسة العذراء مريم
والإفخارستيا

[خبز الحياة الذي ن‍زل من السماء، وَهَبَ الحياة للعالم. وأنتِ أيضاً يا مريم حملتِ في بطنكِ المنَّ العقلي الذي أتى من الآب. ولَدْتِه بغير دنس، وأعطانا جسده ودمه الكريم، فحيينا إلى الأبد].

(لحن piwik الذي يُقال عند توزيع الأسرار المقدسة)

البشارة واستدعاء الروح القدس

?????????(1):

قد لا يبدو أنَّ هناك أية علاقة بين العذراء مريم والإفخارستيا، وحتى الإنجيل لم يذكر أن القديسة مريم كانت حاضرة في العشاء الربَّاني. إلاَّ أنَّ هذه العلاقة يمكننا أن نستمدَّها من الروح القدس الذي يضطلع في القدَّاس بدورٍ مُشابه لِمَا اضطلع به في بشارة العذراء بالحَبَل الإلهي. هذا التوازي في عمل الروح القدس هو الذي نريد أن نكتشفه هنا، لكي نستشف شيئاً من معناه العميق. والمصادر التي اعتمدنا عليها هي كتابات الآباء الشرقيين، ولا سيما السريان الأرثوذكس.

في الليتورجيات الشرقية لسرِّ الإفخارستيا - ويوجد أكثر من مائة قدَّاس باقية في التقليد الشرقي الأرثوذكسي - نجد أنَّ ذروة الخدمة هي في استدعاء epiclesis الكاهن للروح القدس لتقديس الخبز والخمر. ففي قداس القديس باسيليوس مثلاً أثناء السجود واستدعاء الروح القدس، يقول الكاهن:

[نسألك أيها الرب إلهنا... ليحلَّ روحك القدوس علينـا وعلى هـذه القرابـين الموضوعة، ويطهِّرها وينقلها ويُظهِرها قُدْساً لقديسيك. وهذا الخبز يجعله جسداً مقدَّساً له... وهذه الكأس أيضاً دماً كريماً لعهده الجديد، ربنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح. يُعطَى لغفران الخطايا وحياةً أبديةً لِمَن يتناول منه](2).

هذا التعبير: “ليحل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين”، يوضِّح التطابُق والتوازي مع كلمات الملاك التي بشَّر بها القديسة مريم: «الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوة العَليِّ تُظلِّلكِ، فلذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله» (لو 35:1). والكثير من ليتورجيات الكنيسة السريانية الأرثوذكسية تجعل العلاقة بين استدعاء الروح القدس وبشارة الملاك جبرائيل واضحةً بجلاءٍ باستعمالها لكلمة ”يُظلِّل“ في صلاة الاستدعاء ذاتها. فليتورجية القديس يعقوب الرسول - وهي إحدى القدَّاسات السريانية الرئيسية - تحتوي على التعبير الآتي:

[ارحمنا يا الله الآب الضابط الكل، وارسِل علينا وعلى هذه القرابين المرفوعة، روحك القدوس الذي هو الرب ومُعطي الحياة... الذي تكلَّم في الناموس وفي الأنبياء وفي عهدك الجديد؛ الذي حلَّ على هيئة حمامة على ربنا يسوع المسيح في نهر الأردن؛ الذي حلَّ أيضاً على تلاميذك القديسين على هيئة ألسنة من نار، وذلك لكي يُظلِّل ويجعل مِن هذا الخبز الجسد المُحيي، الجسد الخلاصي... الذي لربنا يسوع المسيح...].

في هذه الصلاة نجد أنه توجد علاقة بين حلول الروح القدس عند البشارة بالحَبَل الإلهي واستدعائه في العشاء الرباني، كما توجد أيضاً علاقة واضحة بين هذا الاستدعاء وحلول الروح القدس على الرب بعد معموديته وعلى التلاميذ يوم البنتيقسطي! إنه كما حلَّ الروح القدس في رَحِم القديسة مريم، كما قال الملاك، وشكَّل جسد إلهنا الكلمة من جسدها؛ هكذا أيضاً يحلُّ على الخبز والخمر الموضوعَيْن على المذبح وينقلهما (بحسب نص صلاة ”استدعاء الروح القدس“ في القدَّاس الباسيلي) إلى جسد ودم المسيح إلهنا الكلمة الذي تجسَّد وتأنَّس من الروح القدس ومن مريم العذراء.

والقديس أفرآم السرياني (303-373م)، في تسبيحةٍ عن الروح القدس والسرائر الكنسية تتَّسم بالجمال والعُمْق، يُظهِر نفس العلاقة؛ إذ يُخاطِب المسيح قائلاً:

[في الرَّحِم الذي حملك توجد النار والروح. النار والروح يوجدان في النهر الذي اعتمدتَ فيه. النار والروح هما في معموديتنا أيضاً. وفي الجسد والكأس يوجد النار والروح](3).

الخلفية الخريستولوجية

(أي المفهوم اللاهوتي عن المسيح):

حسب مفهوم آباء كنيسة الإسكندرية، فإنَّ «الكلمة صار جسداً» (يـو 14:1)، تعني أنَّ اللاهوت اتَّخذ طريقةً جديدةً لوجوده بيننا دون أن يتوقَّف عن كونه هو الله. والهدف من التجسُّد هو أن يُشارِك الإنسانُ إلهَه في طبيعته الإلهية، كما قال القديس بطرس (2بط 4:1)، دون أن يتوقَّف عن كونه إنساناً. وبذلك يأخذ الإنسان بُعْداً جديداً في علاقته بالله في سرِّ المعمودية كابن لله، وهذا هو كيانه الصحيح الذي قصده الله عندما خلقه؛ ولكنه بسبب سوء استعماله لإرادته الحُرَّة فشل في بلوغ هذا الهدف بسقوطه في التعدِّي، وكان الهدف الكلِّي من التجسُّد هو تصحيح هذا الموقف. فالكلمة - الذي هو الله بطبيعته - صار إنساناً كاملاً، لكي يصير الإنسان - الذي هو بشري بطبيعته - ابناً لله بالنعمة.

والخبز والخمر في سرِّ الإفخارستيا يصيران، عند استدعاء الروح القدس، جسد الرب ودمه، دون أن يتغيَّرا عن طبيعتهما الأصلية كخبزٍ وخمرٍ؛ وبذلك فإنهما يتَّخذان معنىً جديداً تماماً. وفي ذلك يقول أحد الشُّرَّاح السريان للِّيتورجية في القرن الثاني عشر، وهو الأب ديونيسيوس بار صليبي (أي ابن الصليبي):

[الجسد والدم يُسمَّيان ”سِرَّين“، لأنهما ليسا كما يبدو للعين الجسدية أنهما مجرَّد خبز وخمر، ولكن الإدراك الصحيح لهما هو أنهما الجسد والدم الإلهيان؛ وذلك تماماً كما أنَّ يسوع كان يُنظَر إليه بالعين الجسدية كإنسانٍ مع أنه هو الله. هكذا أيضاً يُنظَر إلى هذين السرَّيْن خارجياً على أنهما خبزٌ وخمرٌ مع أنهما في الحقيقة هما الجسد والدم](4).

تقديس العالم المادي:

إذن، ما هو مغزى هذا التطابُق بين البشارة والإفخارستيا؟

هو أنَّ الإفخارستيا يُنظَر إليها بأنها تُعطي نموذجاً للعلاقة الصحيحة بين العالمَيْن المادي والسماوي. فباستدعاء الروح القدس، يكون الروح هو الفعَّال في إتمام هـذه العلاقة الجديدة الصحيحة بين العالم المخلوق والخالق، لأن الخبز والخمر - اللذَيْن يُمثِّلان كلاًّ من ثمار الأرض وعمل الأيادي البشرية - يصيران جسد المسيح ودمه الأقدسين.

يرى الإنسان بعين الإيمان - التي هي ذاتها هبة من الروح - عملية التقديس، وهي تفيض وتتدفق إلى ما وراء الأسرار الكنسية، لكيما يتَّخذ العالم ذاته بُعْداً سرائرياً جديداً. وكما يُعبِّر القديس فيلوكسينوس المنبجي (485-523م) عن ذلك قائلاً: ”بدون إيمان يكون كل شيء عادياً، ولكن عندما يوجد الإيمان فحتى الأشياء الحقيرة تبدو مجيدة“(5).

بهذا الإيمان يمكن للمؤمن أن يرى القوة الكامنة في الخليقة، وفي زملائه من البشر، مُتحقِّقة أُخرويّاً، فهو يراهم كما يقصد الله أن يُنظَر إليهم. هذه لمحة للملكوت كما ينبغي أن يتحقَّق على الأرض.

بهذه الرؤية، يمكن للإنسان المسيحي أن يبدأ في الدخول إلى محبة الله التي لا تُستَقصَى أعماقُها للإنسان مخلوقِه (أي مخلوق الله). وينتج عن ذلك شعورٌ غامرٌ بالاتضاع والشفقة على الخليقة كلها، وصَفَه القديس مار إسحق السرياني (أواخر القرن السادس) في فقرةٍ مشهورةٍ قائلاً:

[القلب الملتهب هكذا يحتضن الخليقة بأكملها: الإنسان والطيور والحيوانـات... فعندمـا يتذكَّرها وعندما يراها، تمتلئ عيناه بالدموع التي تنبع من الشفقة العظيمة التي تضغط بإلحاحٍ على قلبه. ويزداد القلب حناناً ولا يمكنه أن يحتمل أن يسمع أو يرى أي أذى أو حتى معاناة قليلة تحلُّ على أيٍّ من الخليقة. لذلك يُصلِّي مثل هذا الإنسان بلا انقطاع وبدموع، حتى لأجل الحيوانات غير العاقلة، ولأجل أعداء الحق، ولأجل كل مَنْ يضرُّ بالحق، لكيما يُحفَظوا ويتقوَّوْا](6).

هذه الحساسية للمعاناة هي في حدِّ ذاتها نوعٌ من الدخول في آلام المسيح، وفي نفس الوقت فإنَّ ذلك يكون له فاعلية في مجيء الملكوت داخلنا، هذا الذي نُصلِّي لأجله قائلين: ”ليأتِ ملكوتك“. مجيء ملكوت الله على الأرض هو الذي يُذكَر بصفةٍ خاصةٍ باعتباره النتيجة المقصودة من إرسال الروح القدس على الخبز والخمر، وهو المعنى الذي يتضح أكثر في قدَّاس القديس يوحنا ذهبي الفم.

هذا المجيء المُسْبَق لملكوت السموات على الأرض هو في الحقيقة أمرٌ مألوفٌ في كتابات الآباء. فالقديس أفرآم السرياني يُعبِّر عنه قائلاً:

[لقد أكلنا جسد المسيح بدلاً من ثمرة شجرة الفردوس، وقد أَخَذَ مذبحه مكان جنَّة عَدْن لأجلنا، واللعنة قد جرفها دمه الطاهر، وعلى رجاء القيامة نحن ننتظر الحياة العتيدة، وإننا بالتأكيد نسير فعلاً في تلك الحياة الجديدة، حيث إننا نملك بالفعل عربونها](7).

التعاون والوفاق مع الروح القدس:

في استيعاب مفاعيل تقديس الروح القدس للخبز والخمر في الإفخارستيا يتَّخذ التطابُق مع بشارة الملاك للعذراء مغزاه، لأنَّ قبول القديسة مريم هو الذي أعطى النموذج للتعاون والوفاق بين الإنسان والروح القدس! في الإفخارستيا يُعطَى الإنسان إمكانية التقديس وإدراك البنوَّة الإلهية التي نالها بالفعل في المعمودية وأصبحت كامنة فيه؛ إلاَّ أنه لكي تأخذ هذه الإمكانية مفعولها يجب أن يقبل الإنسان ما قبلته القديسة العذراء مريم، يجب أن يسمح للروح القدس أن يعمل فيه، أن يُعطي حيِّزاً كاملاً للروح القدس ولا يُحزنه أو يُقيِّده، كما يقول الرسول بولس (أف 30:4)، فمثل هذا التقييد يعني الحدَّ من فاعلية الروح القدس داخلنا بأن يفرض المرء إرادته البشرية الذاتية، أو بدقةٍ أكثر: يفرض تدخُّله الشخصي.

وتوجد إشارة خفية إلى الطريقة التي يمكن بها للإفخارستيا أن تُغيِّر الحياة البشرية كلها في فقرةٍ أخرى لمار إسحق السرياني، هي:

[عندما نجد الحبَّ نأكل الخبز السماوي ونتدعَّم بدون تعب وبدون مشقة. الخبز السماوي هو ذاك الذي نزل من السماء والذي يُعطي حياةً للعالم، هذا هو طعام الملائكة. مَنْ يجد الحب يأكل المسيح في كل الأوقات ويصير خالداً من الآن فصاعداً. لأن أيَّ مَنْ أكل من هذا الخبز لن يذوق الموت في الأبدية. مباركٌ هو الذي يأكل من خبز الحب الذي هو يسوع. أيُّ مَنْ يتغذَّى بالحب، يتغذَّى بالمسيح الذي هو الله الضابط الكل. والقديس يوحنا يشهد لذلك عندما يقول: «الله محبة».

وهكذا فإنَّ مَنْ يعيش بالمحبة في هذه الخليقة يَشْتَمُّ الحياة من الله، يتنفس هنا هواء القيامة. في هذا الهواء سيبتهج الأبرار عند القيامة. الحبُّ هو الملكوت الذي تكلَّم عنه ربنا عندما وعد التلاميذ رمزياً أنهم سيأكلون في ملكوته: «وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي» (لو 22: 30،29). وما هو الذي سيأكلونه إنْ لم يَكُن هو الحب؟ الحبُّ يكفي لإطعام الإنسان بـدلاً مـن الطعام والشراب. هذه هي الخمر التي تُفرِّح قلب الإنسان (مز 104: 15)، طوبى لِمَنْ شرب من هذه الخمر. هذه هي الخمر التي شربها الفاسقون وصاروا عفيفين، الخطاة شربوها ونسوا سُبُل العثرة، والسِّكِّيرون وصـاروا صوَّامين، والأغنياء وصاروا مشتاقين إلى الفقر، والفقراء وصاروا أغنياء في الرجاء، والمرضى واستردُّوا العافية، والأغبياء وصاروا حكماء!](8)

حلول الروح القدس على القديسة العذراء مريم التي حملت المسيح كثمرة لقبولها البشارة بالحَبَل الإلهي؛ له علاقة متينة بحلول الروح القدس على الخبز والخمر مع ضرورة أن يكون المتناولون منهما منفتحين على فاعلية الروح مثل القديسة مريم؛ والذين بدورهم يحملون ثمر قبولهم للروح القدس، إذ يصيرون رجالاً ونساءً قد توافقتْ حياتهم بالحق مع المسيح!

وهكذا فإنه في الاستدعاء، تُهيَّأ الوسيلة للسمو بالبشرية إلى حالة وجودٍ إلهي. إلاَّ أنَّ نتيجة ذلك لا تُفرَض على الإنسان، بل بالحري - كما في حالة التجسُّد ذاته - يتبع ذلك فقط خضوع الإنسان وتعاونه. وبتعبيرٍ آخر: في كل تناول يحتاج المسيحي أن يجعل إجابة القديسة مريم على الملاك هي إجابته هو: «ليكُن لي كقولك» (لو 1: 38). هكذا فقط تتحقَّق إمكانية التقديس التي تنبع من سرِّ الإفخارستيا.

إنَّ إدراك هذه الناحية من تعاون القديسة مريم مع الروح القدس هو الذي أدَّى إلى التوقير الشديد الذي احتفظ به التقليد الأرثوذكسي لدورها كثيئوتوكوس (والدة الإله). لقد حبلت بإلهنا في بطنها ليس كنتيجةٍ لمبادرةٍ شخصية منها؛ بل بفضل قبولها وحده الذي هو فعل إخلاء لمشيئتها الخاصة! وبذلك استطاعت أن تُوحِّد مشيئتها بالكامل مع مشيئة الله، ثم تشبَّه بها القدِّيسون الذين اقتنوا الكلمة الإلهي في قلوبهم بطريقةٍ مشابهةٍ لقبول العذراء لله الكلمة في بطنها!

**************************************************************************************************

دير القديس أنبا مقار

بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:

21.130.153

دير القديس أنبا مقار

بنك كريدي أجريكول مصر - فرع نادي القاهرة

**************************************************************************************************

(1) مترجم بـاختصار عـن مقالة: Mary and the Eucharist: an oriental perspective للعلاَّمــة Sebastian Brock المتخصِّص في دراسة الآباء السريان؛ نُشِرَت في مجلة: Sobornost, Vol. 1, n? 2, p. 50.
(2) انظر قدَّاس القديس باسيليوس بالخولاجي المقدَّس: ”أوشية حلول الروح القدس“ التي يقولها الكاهن سرّاً وهو ساجدٌ وباسطٌ يديه.
(3) Hymns on Faith: 10,7.
(4) Commentary on the Liturgy, Dionysius bar Salibi, p. 61.
(5) Sources Chrétiennes, 44, p. 72.
(6) Mystic Treatises by Isaac of Nineveh, p. 341.
(7) Commentary on the Diatessaron, XXI, 25.
(8) Mystic Treatises by Isaac of Nineveh, p. 211.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis