للأب متى المسكين


التجسُّد
وخلاص المسيح(1 )

«والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا» (يو 1: 14).

بـ «الكلمة صار جسداً» يكون قد صار تأسيس طريق الخلاص للدخول إلى الأقداس العُليا، وتأسيس سر الاتحاد الجديد، بالإفخارستيا. فجسد الكلمة، أي ”يسوع“ المسيح ابن الله، صار خبز الحياة الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت. فهنا اتحاد ذو شقَّين:

الأول: اتحاد على مستوى الطبيعة الإلهية: «كما أن قدرته الإلهية قد وَهَبَتْ لنا كل ما هو للحياة والتقوى... اللذَيْن بهما قد وَهَبَ لنا المواعيد العُظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية» (2بط 1: 4،3)، «لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أف 3: 19).

والثاني: على مستوى الذات، أي شخصي: «ليحلَّ المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف 3: 17)، «مع المسيح صُلِبتُ فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل 2: 20)، «إن أحبَّني أحدٌ يحفظ كلامي، ويُحبُّه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع من‍زلاً» (يو 14: 23).

فكل هذه النِّعَم والمواعيد العُظمى والثمينة، وهذا الخلاص العجيب، وهذا الحب الإلهي الذي جعل هياكل أجسادنا وأرواحنا من‍زلاً مُريحاً لسُكنى الآب والمسيح والروح القدس لتغيير طبيعتنا وتقديسها، وهذه الشركة والزمالة والمؤازرة في الحياة الحاضرة مع شخص الكلمة يسوع المسيح ابن الله؛ كل هذا تمَّ لما انتهى ”الكلمة“ إلى قراره الأخير: ”أن يصير جسداً“.

والآن يلزمنا أن نعود لنُدقِّق في المعاني اللاهوتية التي يتضمَّنها ”التجسُّد“ حتى نتجنب الانزلاقات التي وقع فيها أئمة الهراطقة الذين خرجوا عن حدود الإيمان الصحيح بالتجسُّد:

1 - البشرية التي ”صار“ إليها وبها الكلمة - أي التجسُّد - هي بشرية كاملة وصحيحة للإنسان الكامل. وهذا ما وقع فيه أبوليناريوس الذي قال بأنَّ البشرية التي أخذها المسيح لنفسه لم تكن كاملة. فهو أَخَذَ جسداً، ولكن هذا الجسد لم يكن جسماً كاملاً كما لإنسانٍ عادي.

2 - البشرية التي صار بها المسيح كانت بشرية حقيقية ودائمة. وهذا ما وقع فيه جماعة الغنوسيين (العارفين) الذين قالوا إنَّ الكلمة أَخَذَ جسداً حسب الظاهر فقط ولمدة قصيرة وبَقِيَ غريباً عن نفسه. فالكلمة عندهم صار جسداً، ولكنه لم يلبس هذا الجسد. كما ضلَّ الدوسيتيون الذين قالوا إنَّ الجسد كان خيالاً أو شَبَهاً فقط، ولم يكن حقيقياً.

3 - إن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية اتحدتا بالتجسُّد اتحاداً كليّاً وكاملاً، وصارتا واحداً. ولكن هذا الاتحاد لم يُغيِّر من كلتا الطبيعتين، كلٍّ في مجاله. فهو ”إله متأنِّس“، وليس إلهاً وإنساناً، وكأنه ازدواج للشخصية. فلم يأتِ عملاً إلهياً دون أن يكون الجسد شريكاً فيه، ولم يعمل عملاً جسدياً دون أن يكون اللاهوت شريكاً فيه. فلما أقام لعازر من الموت، أقامه بقوة لاهوته وبصوت فمه معاً.

ولما مات، مات بالجسد، واللاهوت فيه لم يُفارقه حيّاً وميتاً. لذلك لم يفسد الجسد، ولذلك قام!! ولذلك أيضاً كان موته نصرة للجسد والروح معاً، وكان فداءً وخلاصاً! فإذا لم يكن اللاهوت ملازِماً وشريكاً في الآلام والموت، لاستحالت الآلام أن تكون آلاماً خلاصية والموت موتاً فدائياً. فالله فدانا بالجسد، والدم كان دماً إلهياً: «فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله» (عب 9: 14).

ولما قال: «أنا هو القيامة والحياة» (يو 11: 25)، قالها على أساس لاهوت القيامة الكائن في الجسد المتَّحد به. فلما قام، قام بقوة لاهوته وبالجسد. ولما بكى، كان ذلك أعظم تعبير عن شركة اللاهوت (الله) في أحزان الإنسان موضَّحاً بالجسد: «في كل ضيقهم تضايق...» (إش 63: 9).

وهكذا لم يأتِ المسيح عملاً إلاَّ واللاهوت له فيه كما للناسوت. لأن بعد الاتحاد لا يمكن أن تعمل أية طبيعة منهما بانفراد عن الأخرى؛ لأن شخص المسيح، أي أقنومه، واحدٌ هو الذي جمع الطبيعتين ووحَّدهما في واحدية ذاتية، فيستحيل عليه أن يكون له مشيئتان ولا إرادتان ولا قولان ولا نظرتان قبالة موضوع واحد. فجاءت أعماله كلها تنطق بوحدة بشرية كاملة ناضجة، نفساً وجسداً وروحاً، مع لاهوت كامل فعَّال على مستوى الله قوةً وسلطاناً ومجداً.

وهذا كله واضح لا يحتاج إلى مجادلة في قول القديس يوحنا: «والكلمة صار جسداً». و”صار“ هنا تنص وتؤكِّد على عملية توحيد سرِّي فائق للغاية أتاها الكلمة مع الجسد في ذاته، ليعيش فيه إلى الأبد ويعمل به كل أعمال الخلاص، بل ويُمجِّد به الله الآب؛ بل ويعيش به في مجده الذي كان له قبل إنشاء العالم. فكلمة ”صار“ أصبحت هي مركز الوحي اللاهوتي الصحيح، لأنه وإن كانت كلمة ”صار“ في قوله: «والكلمة صار جسداً» تحمل في طيَّاتها عمليات إلهية سرِّية خطيرة في معزل عن قدرة فكر الإنسان، وهيهات للإنسان أن يبلغ مداها؛ إلاَّ أنَّ شيئاً واحداً يتحتَّم علينا أن لا نفوته، وهو أنه إذا لم يكن الله قد صالح ”الكلمة بالجسد“ لَمَّا «صار الكلمة جسداً»، لَمَا أمكن أن يُصالح الكلمةُ المتجسِّد اللهَ بالإنسان! أو كيف يُصالح الآب الكلِّي القداسة بالإنسان الذي بلغ الحضيض في الخطية والنجاسة؟

وإن كان المسيح الكلمة المتجسِّد قد وقف يتشفَّع ويُحامي ويطلب لدى الله الآب عن الإنسان الخاطئ، مُطالباً الله أن يجعله واحداً في الآب والابن: «ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو 17: 21)، لأن رسالة المسيح ”الكلمة المتجسِّد“ تتركَّز وتتلخَّص في هذا المطلب الواحد الأخير، أن الإنسان يصير واحداً مع الآب والابن؛ فكيف يُتصوَّر أن يكون الكلمة قد أخفق في أن يوحِّد اللاهوت بالناسوت إلى واحد في نفسه؟

وعندما قال المسيح: «أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مُكمَّلين إلى واحد» (يو 17: 23)، فهل لم يكن يحسب حساب الناسوت الذي له؟ وكيف يمكن أن نصير نحن واحداً في المسيح، وواحداً في الآب مع المسيح، ونبلغ إلى ”الشركة في الطبيعة الإلهية“، إذا تصوَّرنا أنَّ المسيح نفسه قد أخفق أن يُصيِّر اللاهوت والناسوت واحداً فيه؟!

إذن، فإيمان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هو إيمان إنجيلي بالدرجة الأولى، ولاهوتها هو من عمق أعماق لاهوت إنجيل يوحنا؛ عندما تقول إن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية صارتا واحداً بالاتحاد في أقنوم الكلمة المتجسِّد، وليس اثنين بعد الاتحاد، وأنَّ المسيح كانت له بالتالي حتماً وبالضرورة مشيئة واحدة وإرادة واحدة.

هذا الأمر اختلط على أوطاخي، إذ اعتبر أن اتحاد الطبيعتين أنشأ طبيعة ثالثة، واحدة، كانت فيها الطبيعة البشرية منسحبة وكأن لا وجود لها. فسمَّاه اللاهوتيون Monophysite وألصقوا هذا الاصطلاح بالكنيسة القبطية، وهي من الأوطاخية ومن هذا الافتراء براء!!

فعندنا «الكلمة صار جسداً» تعني أن كلاًّ من الكلمة والجسد صارا واحداً، يعملان معاً بانسجام فائق، نتيجة اتحاد كامل؛ إذ وحَّد المسيح بينهما في ذاته ليعملا عملاً واحداً بمشيئة واحدة وإرادة واحدة ورأي واحد، هي مشيئته وإرادته الذاتية الواحدة التي يستمدها من الآب. وفي وحدة الطبيعة والذات التي عاش بها المسيح ويعيش بها حتى الآن وإلى الأبد مع الله، سيظهر بها كما كان يعيش فيها على الأرض: «ولكن نَعْلَم أنه إذا أُظهِرَ نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (1يو 3: 2).

4 - إن بشرية المسيح كانت عامة وليست بشرية فردية. فهو كان ونادى بأنه ”ابن الإنسان“ أكثر مما عُرف أنه من الناصرة أو الجليل أو ابن داود. كما كانت بشريته كاملة تسمو فوق اعتبارات الجنس، ذكراً أو أنثى. وهذا واضح ومُضمَّن في قول القديس يوحنا: «صار جسداً»، ولم يَقُل: صار رجلاً - وهذه لفتة بديعة - حتى يشمل كل ما للإنسان دون أن يستثني شيئاً منه.

5 - قولنا إنَّ الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية اجتمعتا واتحدتا إلى واحد في شخص ”الكلمة“، أي يسوع المسيح، ثم قولنا إنَّ المسيح وحَّدهما إلى واحد في ذاته، وبناءً على ذلك كانت له مشيئة واحدة وإرادة واحدة؛ هذا يقطع خط الرجعة على كل أشكال ”النسطورية“ التي قالت إن المسيح كان له شخصية إلهية بجوار شخصية بشرية، كل منهما تعمل عملها الخاص بها. وذلك نشأ بضرورة الحال لما اعتبروا أن الطبيعتين اللاهوتية والبشرية لم تأتيا فيه إلى اتحاد ووحدة!! فعندهم كل طبيعة برزت بشخصية تحمل خواصها. وهذا تقسيم شنيع في شخص المسيح الواحد. علماً بأن ”الكلمة الذي كان في البدء، وكان عند الله، وكان الله؛ صار جسداً“.

نقول: إنَّ شخص الكلمة أو أقنومه لما صار جسداً لم يأخذ شخصية جديدة عمَّا كان له، ولم يُغيِّر شخصيته الإلهية؛ بل نسمع المسيح - أي الكلمة المتجسِّد - يقول بقوة وجلال ”أنا هو“: أنا هو الحق والحياة والنور“!!! و«قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»، و«إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو 8: 24)، «وليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو 3: 13).

6 - إنَّ الطبيعة البشرية التي صار فيها الكلمة تأثَّرت تأثُّراً مباشراً باللاهوت، فبعد أن كانت تحت لعنة الموت رفع عنها الكلمة هذه اللعنة بلاهوته لحظة صار فيها. وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[لأنه كان من الضروري عندما صار الجسد جسداً له، أن يشترك في عدم الموت الذي له، أي الذي للكلمة](2).

7 - كذلك، فالطبيعة البشرية التي صارت للكلمة وصار الكلمة لها لما أخذت قوة عدم الموت، أخذت فيها قوة القيامة من بين الأموات. لذلك قام الجسد من الموت دون أن يُمسَك فيه.

وهكذا فإنَّ قول القديس يوحنا: «والكلمة صار جسداً» فتح أمام اللاهوتيين كل كنوز اللاهوت التي كانت مُخبَّأة لحساب ”الجسد“ الكلِّي أي البشرية عامةً؛ لأن التجسُّد كان في حقيقته تنازُلاً إلهياً سخيّاً إلينا، حاملاً على ذراعيه كل ما يمكن أن يُعطيه الله للإنسان مِمَّا كان هو محتاجاً إليه، أو مِمَّا كانت محسوبة له أصلاً في الخليقة الأولى وفقدها بالخطية وبالبُعد عنه.

هذه العطايا الإلهية السخيَّة، حمَّل الله أصولها ونموذجها الكامل لجسده أي بشريته، التي صيَّرها له وصيَّر نفسه لها كعيِّنة لِمَا هو مزمع أن يصنعه في جسد البشرية. ولو أدركنا هذه الحقيقة لأدركنا سر التعليم اللاهوتي لبولس الرسول كله؛ بل وسر إنجيل يوحنا وبقية الأناجيل وكل أقوال المسيح:

أ - فبولس الرسول فَهِمَ «الكلمة صار جسداً»، بأنَّ ملء اللاهوت حلَّ في جسد الكلمة: «فإنه فيه يحلُّ كل ملء اللاهوت جسدياً» (كو 2: 9). فيتمسَّك بذلك بولس الرسول بالحرف الواحد، كما أصبح حقّاً لنا أن نمتلئ منه أو فيه: «لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أف 3: 19)، «وأنتم مملوؤون فيه» (كو 2: 10)، أو حسب تعبير القديس يوحنا: «ومِن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16).

ب - ولأن لعنة الموت رُفِعَت عن ”جسد الكلمة“، وحلَّ محلها قوة القيامة وملء الحياة الأبدية نتيجة الاتحاد الإلهي، كذلك أصبح لنا هذا الحق عينه:

+ «مَـن آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل مَن كان حيّاً وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد» (يو 11: 26،25).

+ «مَن يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة؛ بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24).

+ «مَن يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير» (يو 6: 54).

وهنا تكمن قوة ومركز الإفخارستيا المنقطع النظير، المترتِّب أصلاً على أنَّ «الكلمة صار جسداً»، إذ أنَّ ”الجسد“ بمفهوم ”اللحم“ و”الدم“ في الكلمة أي ”جسد الكلمة“، صار فيه وصار له كل ما للكلمة من قوة إلهية مذخرة فيه وعاملة به للشفاء من الموت. لذلك سمَّاه الآباء ”ترياق (دواء) عدم الموت“، بل ولإعطاء الحياة الأبدية، بل ولأَخْذ قوة القيامة ونور الخلود، لأنه ”جسد الكلمة“، أو إن جاز القول: ”جسد الله“ أو ”جسد الحياة الأبدية“ أو ”جسد النور“!!

فانظر، أيها القارئ، وتمعَّن كيف أنَّ الإنسان يأكل ويشرب بالسرِّ ”جسداً“ مُذَّخراً فيه كل كنوز الله هذه مجاناً!

(1) من كتاب: ”الإنجيل بحسب القديس يوحنا - دراسة وتفسير وشرح“، الجزء الأول، الطبعة الثالثة: 2000، ص 88-92.
(2) Commentary on the Gospel according to St. John, LFC, London, 1874, p. 109.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis