البشارة للعذراء
بميلاد
المخلِّص
|
|
|
+ «هوذا أنا أَمَةُ الرب. ليكُن لي كقولك» (لو 1: 38).
أول ما نلتقي بالقديسة مريم مع أُولَى خطواتها في الإنجيل، نراها في الناصرة، وقد دخل عليها الملاك جبرائيل يحمل لها التكليف الإلهي بتلك المهمة غير المسبوقة المتعلِّقة بخلاص البشر، بأنْ تحبل وتلد ابن الله، وهي العذراء التي لم تكن تعرف رجلاً. ولكنها، وقد حلَّ عليها الروح القدس وظلَّلتها قوة العليِّ؛ انحنت أمام الإرادة الإلهية، وصدَّقت وأطاعت أَمْر الله قائلة للملاك: «هوذا أنا أََمةُ الرب. ليكن لي كقولك» (لو 1: 38). فصارت نموذجاً باهراً لنا في طاعة الله.
+ وطاعة الله تُمارَس عملياً بحفظ وصاياه أي ”طاعة الإنجيل“ (رو 10: 16؛ 2تس 1: 8؛ 1بط 4: 17)، و”طاعة الحق“ (1بط 1: 22) بالفكر والقلب (رو 6: 17). كما تتضمن أيضاً القبول بتكليفات الله، والرضا بالتألُّم من أجل اسمه (في 1: 29)، والخضوع الواثق أمام التجارب التي يسمح بها الله لدعم الإيمان.
+ وكلمة الله تحثُّنا على طاعته: «طوبى للذيـن يسمعون كـلام الله ويحفظونه» (لو 11: 28)، «ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس» (أع 5: 29). وكانت آخر كلمات الرب لتلاميذه قبل صعوده: «وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به» (مت 28: 20).
+ ووصايا الله هي غذاء النفس والروح: «الكلام الذي أُكلِّمكم بـه هو روح وحياة» (يو 6: 63)، وخلال مسيرة الحياة هي السراج ونور السبيل (مز 119: 105)، وهي خارطة الطريق المؤدِّي إلى الحياة الأبدية (مت 7: 14)، ومِن هنا فإنَّ في طاعتنا لها ضمان نمونا في الروح وسلامة مسيرتنا نحو الخلاص الأبدي.
+ وطاعة الله هي دليل صادق على إيماننا بالله ومحبته، كما تشهد بذلك كلمات الكتاب: «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي... الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني... الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي... أنتم أحبَّائي إنْ فعلتم ما أُوصيكم به» (يو 14: 24،21،15؛ 15: 14)، «بهذا نعرف أننا قد عرفناه (أي أن نؤمن به ونتبعه) إنْ حفظنا وصاياه. مَن قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذبٌ وليس الحق فيه... فإنَّ هذه هي محبة الله: أن نحفظ وصاياه. ووصاياه ليست ثقيلة» (1يو 2: 4،3؛ 5: 3).
وعلى العكس، فإنَّ عصيان الوصية والتحلُّل منها هو إنكار صريح للإيمان ورفض لتبعية الله، وهو في حقيقته اختيار أحمق لأنه يعني خيانة مَن أحبنا، وفيه نفقد النور الهادي فنتخبَّط في الكلام ولا نعرف إلى أين نمضي! وإذا لم نستجب لصوت الروح بالتوبة، فهي النهاية الأليمة.
+ عن طاعة الوصية:
1. طاعة الوصية تفترض بالطبع أن نعرف الوصية أولاً. وصوت الرب لكل واحد أنْ ”احفظ الوصايا“ (مت 19: 17). والرب أجاب الناموسي عمَّا يفعله ليرث الحياة الأبدية، فأحاله إلى ما هو مكتوب في الناموس: «كيف تقرأ؟» (لو 10: 26،25). وهذا يعني أن تصير كلمة الله لهجنا كل يوم، فنعرفها ونحفظها ونطيعها، وهكذا ينفتح أمامنا طريق الحياة. وعلى هذا فالمتغرِّبون عن الكلمة لا يشغلهم أمر طاعتها.
2. لأن الخضوع للوصية هو ضد الذات والاعتداد بالنفس (فأَنَّى للمتكبر - مثلاً - أن يغفر ويسامح أو أن يعتذر!). فإن أول المتطلبات لإمكان طاعة الوصية هو الاتضاع وإنكار الذات: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه ويحمل صليبه (كل يوم) ويتبعني» (مت 16: 24؛ مر 8: 34؛ لو 9: 23)، وهذا يقتضي خضوعاً بالتوبة وتوسُّلاً صابراً يُغيِّر الحياة.
3. طاعة الوصية يجب أن تكون مطلقة وثابتة (أي ليست مزاجية)، وبتسليم كامل للمشيئة، دون أية محاولة للالتفاف حول الوصية أو تحويرها أو البحث عن حلول وسط لإمكان تنفيذها.
4. طاعة الوصية ليست مجرد سماع الوصية وترديدها بالشفاه، أو أن تكون الطاعة ظاهرية مُرائية مع عصيان مستتر في القلب؛ وإنما العمل بها وتنفيذها من القلب (رو 6: 17). وكلمات الكتاب واضحة: «ليس كل مَن يقول لي: يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات» (مت 7: 21؛ لو 6: 46)، «كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم... ولكن مَن اطَّلع على الناموس الكامل، ناموس الحرية، وثبت، وصار ليس سامعاً ناسياً بل عاملاً بالكلمة، فهذا يكون مغبوطاً في عمله» (يع 11: 25،22).
وفي مَثَل الابنين، فإنَّ الرب امتدح الذي رفض أولاً ولكنه تبع أخيراً، وفضَّله عن أخيه الذي رحَّب بالأمر في البداية ولكنه مضى ولم يذهب إلى الكَرْم (مت 21: 28-32).
5. نحن نحتاج إلى عمل النعمة لكي نفهم أبعاد الوصية ونفلح في تنفيذها. والرب سبق وعلَّمنا أنه: «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 5). وفي حديثه مع تلاميذه بعد قيامته «فَتَحَ ذهنهم ليفهموا الكُتُب» (لو 24: 45). وقال للقديس بولس الذي كان يُعاني من شوكة في جسده: «تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكْمَل» (2كو 12: 9). وفي الحقيقة فإنَّ كل الوصايا مستحيلة بدون قيادة ومُشاركة نعمة الله وقوته، وهي مُمكنة بل ومقبولة بفرح فقط بمعونة إلهية. هكذا كتب القديس بولس فيما بعد: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يُقويني» (في 4: 13).
نعم، في المسيح يسوع وعمل نعمته فقط، يمكن أن تُطاع وتُنفَّذ كل الوصايا، خاصة تلك التي جاء بها عهد الله الجديد: ”تحب الرب إلهك من كل قلبك. تحب قريبك كنفسك. أحبُّوا أعداءكم. لا تُقاوموا الشر. لا تنتقموا لأنفسكم. لا تدينوا. اغفروا. لا تحبُّوا العالم. مَن سألك فأعطِه. لا تهتموا للغد. كُن أميناً إلى الموت. افرحوا كل حين. صلُّوا بلا انقطاع“، وغيرها. والرب عندما أوصانا - مثلاً - ألاَّ نخاف، كشف لنا عن السرِّ، وهو أنه لا مجال للخوف، لأن الرب يكون رفيقنا: «لا تخف لأني معك» (تك 26: 24؛ إش 41: 10؛ 43: 5).
والحقيقة أيضاً أن الوصية تحمل قوة تنفيذها، لأنها مكتوبة بالروح القدس (2بط 1: 21)، وهي لا تنفصل عن قائلها ”كلمة الله“، وهي تُنفَّذ من خلاله: «المسيح يحيا فيَّ» (غل 2: 20).
6. الوصايا تؤخذ ككل. فلا تُقبل وصايا على أنها ممكنة، وتُترك أخرى على أنها غير ملائمة أو عسيرة التنفيذ. فالوصايا تتكامل ولا يمكن أن تتناقض، وهي تُفسِّر بعضها بعضاً. فوصية «لا تدينوا» (مت 7: 1؛ لو 6: 37) العامة، التي تنهاني عن الحُكْم على الآخرين وإدانتهم، لا تتعارض مع واجب الأب والأُم والأسقف والراعي أن يُوبِّخ وينتهر ويعظ بكل أناةٍ وتعليم (2تي 4: 2) دون تجاوز، من أجل خلاص مَن هو مسئول عنهم، دون أن يغفل بالطبع عن إدانة نفسه عندما يُخطئ.
7. الوصية تُنفَّذ بروحها لا بحرفها: «لأن الحرف يقتل، ولكن الروح يُحيي» (2كو 3: 6)، ذلك أن التوقُّف عند حدود النص والحرف دون إدراك روح الوصية واتصالها بسائر الوصايا، قد يُفقد الوصية المقصود منها. فالعبادة ينبغي أن تكون بالروح والطاعة القلبية، لا بالممارسات الآلية لحساب الذات والناس، بالكلام والشكل وحركات الجسد والغطاء المادي والقلب غائب: «فلو علمتم ما هو: إني أُريد رحمةً لا ذبيحة» (هو 6: 6؛ مت 9: 13؛ 12: 7)، «ويل لكم... لأنكم تُعشِّرون النَّعْنَع والشِّبِث والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك» (مت 23: 23)، «يقترب إليَّ هذا الشعب بفمـه، ويُكْرِمُني بشفتيه، وأمَّـا قلبـه فمبتعد عني بعيداً» (إش 29: 13؛ مت 15: 8؛ مر 7: 6). وهكذا قال صموئيل النبي للملك شاول الذي لم يلتزم بوصية الله: «هل مسرَّة الله بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب. هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش» (1صم 15: 22).
8. طاعة الوصية تقتضي التخلِّي بغير رجعة عن السلوك القديم والحياة بالتوبة والقداسة والطهارة. هكـذا أوصى القديس بطرس المؤمنين الذين أطاعوا الإيمان: «كأولاد الطاعة لا تُشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم... كونوا أنتم أيضاً قدِّيسين في كل سيرة... طهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء» (1بط 1: 22،15،14).
+ عن الذين أطاعوا:
+ يسوع هو مثالنا الذي تركه لنا لكي نتبع خطواته. فهو القائل: «نزلتُ من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني» (يو 6: 38)، وقال للآب وهو يتجرَّع كأس آلامه: «لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لو 22: 42)، ومكتوب عنه: «إذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8،7)، «الذي في أيام جسده، إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرُّعات للقادر أن يُخلِّصه من الموت، وسُمِعَ له من أجل تقواه، مع كونه ابناً تعلَّم الطاعة مِمَّا تألم به» (عب 5: 8،7).
+ نوح الذي «فعل... حسب كل ما أمره به الرب» (تك 6: 22؛ عب 11: 7)، فنجا هو وعائلته وحدهم من الطوفان.
+ إبراهيم الذي كان مُستقرّاً في أرضه، ولكنه أطاع أَمْر الرب، مؤمناً واثقاً دون تردُّد: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أُريك، فأجعلك أُمَّة عظيمة... وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض. فذهب أبرام كما قال له الرب» (تك 12: 1-4)، «بالإيمان إبراهيم لما دُعِيَ، أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيداً أن يأخذه ميراثاً، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي!» (عب 11: 8)
كما أطاع إبراهيم أيضاً أَمْر الله أن يُقدِّم وحيده مُحرقة: «يا إبراهيم... خُذْ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المُريَّا، وأصعده هناك مُحرقة على أحد الجبال... فبكَّر إبراهيم صباحاً... وأخذ... إسحق ابنه، وشقَّق حطباً لمحرقة، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله» (تك 22: 1-19)، «بالإيمان قدَّم إبراهيم إسحق وهو مُجرَّب، قدَّم الذي قَبِلَ المواعيد، وحيده، الذي قيل له: ”إنه بإسحق يُدعَى لك نسلٌ“. إذ حَسِبَ أنَّ الله قادرٌ على الإقامة من الأموات» (عب 11: 17-19).
+ يوسف، وهو عبد في بيت فوطيفار، تمسَّك بطاعة الوصية، دون أن يحسب حساباً للعواقب وهو يعصى أَمْر امرأة سيِّده قائلاً: «كيف أصنع هذا الشر العظيم وأُخطئ إلى الله؟» (تك 39: 9)
+ أيوب الذي ظلَّ متمسِّكاً بطاعة الله، رغم كل ما سمح له به من آلام في جسده، وما أصاب عائلته.
+ الفتية الثلاثة الذين رفضوا أن يسجدوا لتمثال الملك، وألقوا بهم في أتون النار؛ فرافقهم فيها ابن الله، والنار لم تمس حتى شعرهم وثيابهم.
+ دانيال الذي رفض أن يسجد للتمثال وظلَّ يُجاهر بعبادته لله، وكان عقابه أن يُلقَى في جُب الأسود. ومن أجل طاعته، أرسل الله ملاكه فسدَّ أفواه الأسود، فلم تؤذه (دا 6: 22).
+ والقديس بولس، لما جاءته الدعوة من السيِّد، يقول: «للوقت لم أستشِرْ لحماً ودماً» (غل 1: 15)، ولم يُعاند الرؤيا السماوية.
+ والقديس أنطونيوس لما سمع في الكنيسة الآية: «إنْ أردتَ أن تكون كاملاً، فاذهب وبِعْ كل أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعالَ اتبعني» (مت 19: 21؛ مر 10: 21؛ لو 18: 22)، اعتبرها موجَّهة إليه شخصياً ونفَّذها حرفياً، واعتزل في البراري مُكرِّساً حياته لله؛ فاجتذب إليه الكثيرين، وصار أباً لجميع الرهبان في كل العالم.
+ بركات الطاعة وعاقبة العصيان:
مكتوبٌ أنَّ المسيح إذ أطاع حتى الموت من أجل الخطاة فقد «رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل رُكبة مِمَّن في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أنَّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب» (في 2: 9-11)، «وإذ كُمِّلَ صار لجميع الذي يُطيعونه، سببَ خلاصٍ أبدي» (عب 5: 9). ووعْد الرب لا يسقط، أنَّ «مَن يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياةٌ أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو 5: 24).
نحن بطاعة الله نثبت في محبته (يو 15: 10)، فنتمتَّع بالسلام، ويُنزع منَّا كل قلق وخوف، كبيت مبني على الصخر يُقاوِم كل اضطرابات الحياة (مت 7: 25،24؛ لو 6: 25،24). ومنذ القديم مجَّد الله طاعته وأدان كل عصيان: «انظر، أنا واضعٌ أمامكم اليوم بركة ولعنة: البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أُوصيكم بها اليوم، واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم» (تث 11: 26-28). وهو خاطب إسرائيل بعد خبرة ممتدَّة في وصية فريدة سجَّلها سفر التثنية في أصحاح كامل (28)، وقد استغرقت البركة الأعداد 2-14، واللعنة الأعداد 15-68.
وفي تاريخ العلاقة بين الله والبشر رأينا جزاء الذين تجاسروا، أو تكاسلوا وتهاونوا، فلم يُطيعوا. فلا ننسى ما جرى لآدم وحواء (تك 3: 11،6)، والعالم القديم الذي هلك بالطوفان (تك 7: 23؛ 1بط 3: 20؛ 2بط 2: 5)، وسدوم وعمورة اللتين صارتا رماداً (تك 19: 24؛ 2بط 2: 6)، وكل جيل شعب إسرائيل الذين خرجوا من مصر عدا يشوع بن نون وكالب بن يَفُنَّة، ولم يدخلوا كنعان: «ولمَن أقسم: لن يدخلوا راحتي، إلاَّ للذين لم يطيعوا» (عب 5: 9)، وشاول الملك المرفوض (1صم 28: 15)، ويونان الهارب من الخدمة (يونان 1: 3)، وشعب إسرائيل الرافض المخلِّص، فأصاب الخراب أورشليم والهيكل (مت 23: 38،37؛ 24: 2؛ مر 13: 2؛ لو 21: 6) وتشتَّتوا في كل الأرض. وشبَّه الرب مَن يسمع أقواله ولا يعمل بها بجاهل يبني بيته على الرمل، فلم يصمد أمام عصف الرياح وثورة النهر، وسقط، وكان سقوطه عظيماً (مت 7: 27،26؛ لو 6: 49).
+ من مراحم الله أنه يُتيح لنا التدرُّب على الطاعة، خاصةً لو كان القلب لاهياً أو متقسِّياً مُتمرِّداً. فالتجربة المُرَّة أو التعرُّض للعقاب أو الهزيمة أو الفشل، الذي يسمح به الله لمَن يحب «إني كل مَن أُحبه أُوبِّخه وأؤدِّبه» (رؤ 3: 19)؛ قد يكون له مردوده الإيجابي للعاقل، الذي يكتشف من خلاله تردِّيه وعصيانه، فيتحوَّل نادماً ناحية الله حيث نور الوصية بعد أن كان يتخبَّط في الظلام. وها هو داود، بعد اختباراته العديدة مع الله، يقول: «صَمَتُّ. لا أفتح فمي، لأنك أنت فعلتَ» (مز 39: 9). وبطرس اكتشف ضعفه بإنكاره المسيح وتخلِّيه عنه ساعة الصلب، وتعلَّم الدرس، وبتوبته الباكية عاد إلى موقعه.
على أنَّ التجارب ليست وقفاً على مَن يخفقون في الطاعة، فالمؤمنون الطائعون يجتازونها أيضاً. ولكن لهؤلاء يقول الكتاب: إنَّ «الله أمين الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (1كو 10: 13). وفي كل الأحوال، فإنَّ آلامنا لن تُنسى قدَّام الله، ووعد الكتاب الصريح أنه «إن كنَّا نتألم معه، لكي نتمجَّد أيضاً معه» (رو 8: 17).
دكتور جميل نجيب سليمان