طعام الأقوياء
|
|
|
هنا قول قاطع للرب يسوع، يفصل فيه بين مَن يتبعه بالحق ومَن لا يتبعه، بين مَن يستحقه ومَن لا يستحقه؛ إذ يقول: «مَن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني. مَن وجد حياته يُضيِعُهَا، ومَن أضاع حياته من أجلي يجدها» (مت 10: 39،38). كما قال في موضع آخر: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإنَّ مَن أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلكها. ومَن يهلك نفسه من أجلي يجدها» (مت 16: 25،24).
وأمام هذا الشرط القاطع لاتِّباع المسيح، تأتي التساؤلات الآتية:
ما هو الصليب الذي علينا أن نأخذه أو نحمله؟ هل هو صليب المسيح الذي نُعلِّقه على صدورنا؟ أم هو الصليب الذي نهتف له قائلين: ”بالروح بالدم نفديك يا صليب“؟! وكيف يمكننا أن نفدي الصليب الذي فدانا عليه المسيح بموته على الصليب من أجلنا؟! هل بهتافنا وإعلاننا أننا مستعدُّون للموت فِدى الصليب؟! أنفدي نحن الصليب بهتافنا أم بحياتنا بموجب وصاياه وتقوانا وتمسُّكنا بمحبة المسيح حتى الموت؟ وكيف يكون هذا؟
لقد حدَّد الرب يسوع ما يطلبه مِنَّا لكي نستحقه بكل وضوح بقوله: «مَن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني»، وأيضاً قوله: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني».
فقد عيَّن لنا الرب نوعية الصليب الذي علينا أن نحمله: إنه صليبي الخاص، وصليبك الخاص؛ وليس صليب المسيح الذي لا ولن يقدر أحد أن يحمله سواه. وهو الذي حمله وحده بإرادته وكامل رضاه ومسرَّته عن البشرية كلها «لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).
فما هو صليبي؟ وما هو صليبك، إذن؟
لكي نفهم ما هو صليب كل واحد منَّا، ينبغي أن نفهم أولاً: ما هو الصليب أساساً؟
كان الصليب أداة للقتل يُعلَّق عليه المجرم حتى يموت من الجوع والعطش والإجهاد. وقد بُديء باستخدام الصليب وسيلةً للإعدام في الشرق أولاً. ثم استخدمه الرومان لإعدام العبيد عقاباً لهم عن أشنع الجرائم، ولإعدام الثوار في البلاد المحتلة. وقلَّما كان يُستخدم لإعدام مواطن روماني. وهذا هو تفسير ما يرويه التاريخ عن أنَّ بولس الرسول قد أُعدم بقطع رأسه، لأنه كان مواطناً رومانياً؛ أما بطرس الرسول فلكونه لم يكن روماني الجنسية فقد أُعدم مصلوباً.
أما عند اليهود فقد كان الذي يُعلَّق على الصليب يُحسَب ملعوناً من الله، كما جاء في سفر التثنية: «إذا كان على إنسان خطية حقُّها الموت فقُتل وعلَّقتَه على خشبة، فلا تَبِتْ جثَّته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المُعلَّق ملعونٌ من الله» (تث 21: 23،22).
ولكون اللعنة قد حلَّت على الأرض بسبب تعدِّي آدم على الوصية، ولكون اللعنة قد شملت كل البشر بتعدِّيهم على وصايا الله وأحكامه: «لأنه مكتوب: ملعون كل مَن لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به» (غل 3: 10)؛ لذلك فقد جاء المسيح و«افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنةً من أجلنا، لأنه مكتوبٌ: ملعونٌ كلُّ مَن عُلِّق على خشبة» (غل 3: 13).
وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:
[لقد حمل في نفسه العقوبات الواقعة بعدلٍ على الخطاة بواسطة الناموس. فقد صار ”لعنة من أجلنا“ بحسب المكتوب، لأنه يقول: «ملعون كل مَن عُلِّق على خشبة» (غل 3: 13)، فنحن كلنا ملعونون، لأننا لم نقدر على تكميل الناموس الإلهي: «فإننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا» (يع 3: 2)، والطبيعة البشرية مائلة جداً إلى الانزلاق في ذلك، وحيث إن الناموس الإلهي يقول في موضعٍ ما: «ملعون كل مَن لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به» (غل 3: 10). فاللعنة، إذن، هي لنا وليست لغيرنا... ولذلك، فالذي لم يعرف خطية قد لُعن من أجلنا لكي يعتقنا نحن من اللعنة القديمة. لقد كان كفؤاً أن يُحقِّق ذلك، لأنه هو الإله الذي فوق الكل، وقد تألَّم من أجل الكل ليقتني فداء الكل بموت جسده الخاص](1).
إذن، فهذا الصليب الذي كان أداة التعذيب وعلامة اللعنة صار أداةً للخلاص والفداء والقوة، ولكنه ما زال «لليهود عثرة، ولليونانيين (لغير المؤمنين) جهالة» (1كو 1: 23)، «وأما للمدعوِّين، يهوداً ويونانيين (ومن كل الشعوب والأُمم)، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله» (1كو 1: 24).
وعندما يأمرنا المسيح بأن يحمل كل واحد صليبه ويتبعه، فهو يعني صليب طبيعتنا الساقطة الضعيفة التي لا خلاص لها إلاَّ بالثبات في المسيح والاعتراف الدائم بعجزنا عن البلوغ إلى البرِّ والقداسة بدونه: «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 5).
كما يعني حَمْل الصليب إنكار الذات من حيث إنكار كل إمكانياتها والاعتراف بعجزها. فمن حيث إمكانياتها، نقول مع بولس الرسول: «ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة» (في 3: 7)؛ ومن حيث عجزها، نقول: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يُقوِّيني» (في 4: 13)، وأيضاً قول الرب لنا: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكْمَل» (2كو 12: 9)، وأيضاً: «فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحلَّ عليَّ قوة المسيح... لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي» (2كو 12: 10،9).
كما يعني أيضاً الاستعداد لبذل الذات حتى الموت: «مَن وجد حياته يُضيعها، ومَن أضاع حياته من أجلي يجدها» (مت 10: 29)، «مَن يحب نفسه يهلكها، ومَن يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية» (يو 12: 25).
كما يعني أيضاً حَمْل الصليب أن نقطع عنَّا كل رباطات الجسد والعالم، وكل ما يشدُّ الإنسان إلى العالم الأرضي والأسرة والمال ومسرَّات هذا الدهر: «لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته. وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» (1يو 12: 15-17).
لقد جاء المسيح إلى العالم لتكون لنا حياة وليكون لنا أفضل (يو 10: 10)، وهو يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نطلبه، لذلك فهو يدعونا ويُعلِّمنا قائلاً: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تُزاد لكم» (مت 6: 33).
فإننا، حينما نضع نصب أعيننا طلب ملكوت الله وبرّه، ولا نهتم قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس! ونثق ونؤمن في عناية الله بنا، وبأنه هو أبونا السماوي الذي يعلم ما نحتاجه قبل أن نطلبه، فإننا بذلك نكون قد أنكرنا ذواتنا وحملنا صليبنا وتبعناه، وألقينا كل همِّنا عليه لأنه هو يعتني بنا.
كما أننا إذا أحببنا أعداءنا وباركنا لاعنينا وأحسنَّا إلى مُبغضينا وصلَّينا لأجل الذين يُسيئون إلينا ويطردوننا، فإننا بذلك نكون قد أنكرنا ذواتنا وحملنا صليبنا، ودخلنا من الباب الضيِّق، وتبعنا الرب يسوع الذي أحب أعداءه وبارك لاعنيه وأحسن إلى مُبغضيه وغفر للذين رفضوه وعذَّبوه وصلبوه.
وإن نحن تمسَّكنا بحفظ كل وصايا المسيح، رغم كل المجاذبات التي تعصف بنا من جهة إغراءات العالم وشهوات الجسد والغرائر الأُسرية واهتمامات العالم؛ فإننا نكون قد أنكرنا ذواتنا وحملنا صليب ضعفنا ودخلنا في سرِّ تجسُّد المسيح وسرِّ صليبه، الذي أظهر بضعفه ما هو أعظم من القوة، فإنه «من أجلكم افتقر وهو غنيٌّ لكي تستغنوا أنتم بفقره» (2كو 8: 9).
وهذا ما يُعبِّر عنه القديس كيرلس الكبير قائلاً:
[حينما تبدو لك أمور إخلائه صعبة القبول، تعجَّب بالأحرى من عِظَم محبة الابن لنا! لأن ما تعتبره غير لائق به، هذا قد فعله بإرادته من أجلك: فقد بكى بشريّاً لكي يمسح دموعك، وانزعج تدبيريّاً تاركاً جسده ينفعل بما يُناسبه لكي يملأنا شجاعةً... ووُصف بالضعف في ناسوته لكي يُنهي ضعفك، وقدَّم بكثرة طلباتٍ وتضرُّعاتٍ للآب لكي يجعل أُذن الآب صاغيةً لصلواتك](2).
حَمْلنا لصليبنا هو شركة في آلام المسيح
وموته وقيامته:
والواقع أننا بإنكارنا لذواتنا وحَمْلنا لصليب ضعفنا وسيرنا في إثر خطوات المسيح واعتمادنا الكلِّي عليه، ننال نعمته ونلبس قوته، ويكمل فينا قول بولس الرسول: «ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفيَّة، ليكون فضل القوة لله لا منَّا. مكتئبين في كل شيء، لكن غير مُتضايقين. مُتحيِّرين، لكن غير يائسين. مُضطهَدين، لكن غير متروكين. مطروحين، لكن غير هالكين. حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تُظْهَر حياة يسوع أيضاً في جسدنا. لأننا نحن الأحياء نُسلَّم دائماً للموت من أجل يسوع، لكي تَظْهَر حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائت» (2كو 4: 7-11).
وأيضاً قوله: «كمُضلين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمُؤدَّبين ونحن غير مقتولين، كحزانى ونحن دائماً فرحون، كفقراء ونحن نُغني كثيرين، كأنْ لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء» (2كو 6: 8-10).
هذه كلها هي ثمار تجسُّد المسيح ولبسه طبيعتنا وصلبه وموته وقيامته، لكي يُقيمنا أيضاً معه. وفي هذا يقول القديس بطرس الرسول: «الذي حَمَل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبرِّ» (1بط 2: 24).
ويُعلِّق على ذلك القديس كيرلس الكبير قائلاً:
[... نحن قد صُلبنا معه لمَّا صُلِبَ جسده الذي كانت فيه كل طبيعتنا، بمثل ما حدث في آدم أنه لمَّا لُعن اعتلَّت الطبيعة كلها باللعنة، هكذا يُقال أيضاً إننا أُقمنا مع المسيح وأُجلسنا معه في السماويَّات. لأن عمانوئيل، مع أنه يفوقنا كإله، لكن من حيث إنه صار مثلنا، فهو يُعتبر واحداً منَّا قد قام وصار جليساً مع الله الآب. هكذا أيضاً صُلِبَ معه إنساننا العتيق، وانحلَّت بقيامته قـوة اللعنة القديمة، و”بَطُل جسد الخطية“ (رو 6: 6)... وأمَّا أنَّ هذه الأمور قد تحقَّقت في المسيح لصالح الطبيعة البشرية، فكيف يشكُّ أحدٌ في ذلك بينما يقول القديس بولس بوضوح: «ما كان الناموس عاجزاً عنه، فيما كان ضعيفاً بـالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شِبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد» (رو 8: 3). أترى، إذن، كيف بَطُل جسد الخطية؟ لقد دِينت في الجسد شوكة الخطية وماتت أولاً في المسيح، ثم انتقلت هذه النعمة من خلاله وبواسطته إلينا أيضاً](3).
إذن، فإنه حينما يدعونا المسيح إلى أن يحمل كل واحد صليبه ويتبعه، فإنه إنما يدعونا إلى أن نعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبِّهين بموته (انظر في 3: 10)، لأن صليبنا الذي نحمله بكل خضوع وشُكر هو الصليب الذي احتوى كل العار البشري، الذي حوَّله المسيح بارتفاعه عليه إلى نصرة ومجد وغلبة على الموت.
[بل ونستطيع أن نقول في جرأة الإيمان إنه ليس عمل من أعمال الله كلها بلغ في قوته، بل في شموله، بل في مجده وسلطانه وغايته، مثلما بلغ الصليب! لأنه رفع الخليقة كلها من دائرة العصيان إلى الصفح الكلِّي والمصالحة، ومن الرفض إلى القبول والاختيار، ومن العبودية إلى البنوَّة والميراث مع المسيح في الله... فالصليب في حياة المسيح ليس حادثة عرضية بل غاية، جاء وتجسَّد من أجلها، ونهجاً شمل حياته كلها، جاعلاً من الصليب كأسه المُفضَّل(4) وطاعته العُظمى للآب، وبرهان حبه الأبدي للإنسان كل الإنسان؛ نقض به ناموس الخطية، وبرَّر به الخطاة، وظفر به على قوات الظلمة، وقتل به العداوة، وجمع تحت لوائه شمل الإنسان، كل البعيدين والقريبين، كرعية مع القدِّيسين وأهل بيت الله](5).
(يتبع)
(1) On John 19: 17-18; LFC 2, 623-624.
(2) Apolog. XII, Contra Theodore (PG 76,441).
(3) On Romans 6:6 (PG 74,796).
(4) «الكأس التي أعطاني الآب أَلاَ أشربها» (يو 18: 11).
(5) الأب متى المسكين، ”مع المسيح في آلامه حتى الصليب“، الطبعة السادسة، ص 306،305.