من تاريخ كنيستنا
|
البطريرك الخامس والسبعون
|
|
نُكمِل سيرة الأب البطريرك كيرلس الثالث.
حالة الأقباط في هذه الفترة:
يقول كتاب ”تاريخ البطاركة“: ”ووقع الناس في شدَّة، وثقل عليهم، لأنه قد بَعَدَ عهدهم عن الشدائد منذ عشرين سنة. وأكثرهم كان يمكنه القعود في بيته، ولَزِمَ داره. وأما الحكماء فأمر (السلطان) أن لا يتعرَّض لهم أحد، فبقوا على حالهم“.
وكان قد صدر أمر بشدِّ الزنَّار الذي يُلبَس على الحقوين بالنسبة للمسيحيين ليُميَّزوا من بين المسلمين.
ويعود كاتب ”سيرة البطاركة“ ليقول: ”وكان المسيحيون في هذا الوقت في ضيق عظيم وهوان أليم، وأيُّ مَن لقيهم من العوام والسُّوقة شتمهم وسبَّهم“. وكان بعض المسيحيين يتجاهلون هذه التعليمات، فكانوا يُضربون ويُشهَّر بهم. وكتب أيضاً: ”إلاَّ أنهم صبروا وشكروا (الله)، وحُسِبَ ذلك لهم برّاً“.
محاولات مؤسفة للحدِّ من تجاوزات
الأب البطريرك كيرلس الثالث:
كانت هناك محاولات لا تكفُّ لإيقاف تجاوزات الأب البطريرك كيرلس الثالث في أَخْذ ”الشرطونية“ مقابل رسامة الأساقفة والكهنة. وكان من بين هذه المحاولات المؤسفة ما قام به الراهب المُسمَّى ”عماد“، والذي سبق أن سعى لدى الوالي إلى إقامة الراهب داود بطريركاً ولو بدفع رشوة (مجلة مرقس، عدد سبتمبر، ص32). فبعد رسامة الأب البطريرك، اختلفا معاً، وصار هذا الراهب مُعادياً للأب البطريرك، وصار البطريرك يضطهده في كل مكان. وانتهى الأمر بهذا الراهب إلى أن اشتكى البطريرك لدى السلطان، فعُقد مجلسٌ لمحاكمته.
ولكن العقلاء من الأقباط لم يرضوا عن هذا الأمر، وقالوا: ”كان من الواجب أن يجتمع الأساقفة والأراخنة بالأب البطريرك ويواجهونه بكل ما يرونه فيه من مخالفات للشريعة وما يُنافي أحكامها“. فاستجاب الأب البطريرك لأفكارهم وأرسل للأساقفة بأن يحضروا لعقد مجمع. ولكن الدعوة وصلتهم متأخِّرة. فحينما علم الأب البطريرك أن الأساقفة وصلوا إلى قليوب بعد الموعد، كتب لهم أن يرجعوا إلى كراسيهم، وأنَّ الله قد أغناهم عن إزعاجهم!
وكان هذا التصرُّف سبباً في تعكير العلاقات بين الطرفين.
ثم اجتمع مَن كان يُسمَّى ”الراهب السُّنيُّ“، وكان قسيس كنيسة ”أبو سرجة“، بالأنبا يوساب أسقف فوه، واتفقا على المطالب الإصلاحية ودوَّنوها في رسالة لأَخْذ توقيع الأب البطريرك عليها.
لكن الأب البطريرك توسَّل لدى السلطان، وأهدى له هدية، فقَبلها، وشدَّ أزر الأب البطريرك، فتسلَّط على المسيحيين، كما يقول كتاب ”تاريخ البطاركة“، و”سِيَر البطاركة“، لمؤلِّفه الأنبا يوساب أسقف فوه (المُشار إليه).
14 أسقفاً يجتمعون بالأب البطريرك
ويعقدون مجلساً يحضره الوزير:
ولما أعيت الأساقفة كل مجهوداتهم مع الأب البطريرك كيرلس الثالث، حضروا إلى القاهرة، وكان معظمهم من الوجه البحري، وكان من بينهم ”الأنبا يوساب“ أسقف دمنهور وهو كبير الأساقفة. ولكن ما اتفقوا عليه لم يُنفِّذه الأب البطريرك. فرفع بعض الأراخنة شكواهم إلى السلطان، وقالوا له: ”إنْ حضر الأساقفة وعَقَدَ البطريرك مجلساً معهم، تحقَّقت المطالب الإصلاحية“. فأصدر السلطان مرسوماً بإحضار الأساقفة من الوجهين البحري والقبلي.
وهكذا عُقد المجلس رسمياً في القلعة (قلعة صلاح الدين) في حضور ”مُعين الدين“ الوزير. وكما يقول كاتب ”سير البطاركة“: إنه ”جَرَت بينهم خُطوب ومنازعات“، ”وقد انفسد قلب البطريرك على الأساقفة، وقلوب الأساقفة عليه“.
وكان كاتب الجلسة (سكرتير المجلس) هو الشيخ الصفي ابن العسَّال أحد كبار علماء الأقباط في القرن الثالث عشر. وكان هو وإخوته المشهورين باسم ”أولاد العسَّال“ من كبار العلماء في عصرهم. وقد كلَّف مجمع الأساقفة المنعقد في القلعة الشيخ الصفيَّ بجمع القوانين اللازمة، فجمعها وضبطها وقابلها على الأصل اليوناني. وهي المعروفة باسم ”قوانين ابن العسَّال“.
? وإليك مقدمة محضر جلسة مجمع الأساقفة المنعقد في القلعة:
1 - بدأت قرارات هذا المجلس بالكلمات الآتية:
”نسخة خط (توقيع) الأب البطريرك أنبا كيرلس المذكور على المكتوب ما اشترطه على نفسه وعلى أساقفته، يكتب للإخوة الأساقفة، الرب يُبارك عليهم وعلى شعوبهم وكراسيهم، بالموافقة على هذا المكتوب وما ثبت فيه من الأمانة المستقيمة والسِّيَر المَرْضية والعوائد البيعية. ومَن خرج عنه وحاد عن شروطه، كان محروماً، مبعوداً، من فم الثالوث المقدس الآب والابن والروح القدس، ومن فم الثلاثمائة وثمانية عشر المجتمعين بنيقية، بطريركاً كان أو أسقفاً، أنا وأساقفتي، وليس له حظ مع المؤمنين. يُعيننا الله على ذلك، آمين. والسُّبح لله دائماً أبداً“.
2 - وكان ذلك المجمع المجتمع بالقلعة قدَّام الوزير ”مُعين الدين“ ومَن حضر مجلسه من الأساقفة والمسيحيين والمسلمين. ونُقلت النسخة الأصلية التي عليها خط (توقيع) الأب البطريرك والأساقفة، وهي بخط الأب الأسقف أنبا يوساب أسقف فوه وأعمالها.
3 - بسم الله الخالق الحي الناطق...
لما كان بتاريخ يوم السبت التاسع عشر من شهر صَفَر سنة ثمان وثلاثين وستماية الموافق الحادي عشر من توت سنة سبع وخمسين وتسعماية للشهداء الأطهار، حضر الأب البطريرك أنبا كيرلص بطريرك المدينة العُظمى الإسكندرية وما معها، ومَن ثَبَتَ خطُّه (توقيعه) في هذا المسطور من الأساقفة، والقسوس، ومشايخ الرهبان، والرؤساء المشايخ الأراخنة؛ وتقرَّر في أَمْر البيعة المقدسة الرسولية القبطية بكرسي الإسكندرية، أن يجري الأمر على ما يأتي بيانه: وهو أن يُلازِم القلاية البطريركية أسقفان عالِمان: أحدهما بولس البوشي الذي تقرَّر تقدمته أسقفاً على كرسي مصر (القاهرة)، والثاني أحد علماء أساقفة الوجه البحري، بالنَّوْبة (أي بالتناوب)، يحضر الاثنان المحاكمات، ولا يمنع البطريرك أحداً إلاَّ بالاتفاق معهما. ولا يُحلُّ من المنع إلاَّ ما وافقا على حلِّه، ولا يُصدِر كتاباً من القلاية بغير خط (توقيع) أحدهما وعلامة البطريرك فيه إلاَّ توقيع رقعة بموافقتهما عليه...
نقلاً عن: مخطوط النوموكانون، ورقة 261 ظهر،
المكتبة الأهلية بباريس، رقم 251 عربي.
+ وقد تقرَّر في هذا المجلس، بحضور الأب البطريرك كيرلس الثالث وأساقفة من الوجهين البحري والقبلي، أن يجري الأمر في البيعة المقدسة على ما سبق تقريره في مجمع الأساقفة المنعقد في كنيسة العذراء بحارة زويلة المنعقد قبل حوالي العام من هذا المجمع المنعقد في القلعة، وأضافوا إليه ما يلي:
1. الامتناع عن أَخْذ ”الشرطونية“ نهائياً.
2. ما ورد في المقدِّمة السابق نشرها، أن يُلازم القلاية البطريركية أسقفان عالمان.
3. أن تتولَّى كل كنيسة إدارة أوقافها بمصر (مصر القديمة) والقاهرة وثغر الإسكندرية.
4. أن تُختَصَر القوانين التي وُضعت في سنتي 955ش / 1239م، 956ش / 1240م.
5. تحريم على الرهبان الذين يخدمون في العالم بحِلٍّ حتى آخر أيام البابا يوأنس (السابق للبابا كيرلس الثالث)، أن يقوموا بمناولة النساء من جسد الرب ودمه.
6. خمسة قوانين لدوام السلامة والاتفاق ما بين البابا كيرلس الثالث ومجمع الأساقفة والشعب القبطي، وتنظيم العلاقات بينهم.
7. قوانين أخرى بخصوص رجوع نظارة الأديرة إلى الأساقفة الذين تقع في إيبارشياتهم هذه الأديرة.
8. منع تكريس أحد في غير كرسيه، والانتقال من كرسي إلى آخر، والتدخُّل في اختصاص الكراسي.
9. عدم تدخُّل البطريرك في اختصاص الأساقفة، وعدم خروج الرهبان من أديرتهم.
10. قوانين تختص بمحاكمة الأساقفة، وطقس الإيغومانسية، وفي المعمودية، والزواج، والوصية، وغيرها من قوانين الأحوال الشخصية، والطقوس.
نكوص الأب البطريرك عن تنفيذ مقررات
المجمع، واعتزاله في دير الشمع:
كان الملك ”العادل“ شاباً مستهتراً لا يُقدِّر المسئولية إلى حدِّ أن الشعب ثار عليه واضطره إلى التنازُل عن الحُكْم بعد سنتين من ارتقائه، فخَلَفَه أخوه المُسمَّى ”الصالح“.
وكانت السنتان اللتان حَكَم فيهما الملك ”العادل“ مليئة بالقلاقل، وبالرغم من قِصَرها، فقد وجد فيها الأب البطريرك كيرلس الثالث فرصة للخروج عن حُكْم المجمع والعودة إلى سياسته، وهي تحصيل ”الشرطونية“.
فعاتبه الأساقفة ورجَوْا منه احترام القوانين الكنسية. ولكنه لم يُصْغِ لهم. فثار الشعب بقيادة راهب اسمه ”بطرس“ كان يتمتع بمكانة ممتازة لدى الأقباط والمسلمين على السواء، وهو المُسمَّى ”السُّنِّي“، وهو أيضاً قسيس كنيسة ”أبو سرجة“.
فقام هذا القسيس بمجهودات ضد الأب البطريرك، الأمر الذي كان سيُؤدِّي إلى أن يكون البطريرك على وشك الوقوف أمام حُكَّام البلاد لمحاكمته. لكن الأساقفة لم يسمحوا بوقوف باباهم أمام الحُكَّام المدنيين.
وبعد أن ضاق الأساقفة ذرعاً من ذلك السلوك الممقوت بنكوص البطريرك عن تنفيذ مقررات المجامع الأسقفية؛ صمَّموا على خلعه، وأخبروا الأمير بذلك.
فقال لهم: ”وهل يجوز عندكم خلع البطريرك؟“. فأجابوه: ”يجوز إذا ارتضى هو بذلك“.
فاجتمعوا في كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة حيث تشاوروا معاً، واتفقوا على أن يقصد إليه الأنبا بولس البوشي (رفيقه في الرهبنة، والذي رُسِمَ أسقفاً لمصر القديمة بموجب قرار مجمع القلعة).
فذهب إليه هذا الأسقف، ورجا منه الاعتزال في أحد الأديرة ريثما تهدأ هذه العاصفة. فاستمع له الأب البطريرك، وقَصَدَ دير الشمع.
نياحة الأب البطريرك كيرلس الثالث:
وفي يوم 14 برمهات سنة 959ش/1243م، تنيَّح الأب البطريرك كيرلس الثالث بعد أن قضى في رئاسة الكهنوت سبع سنوات و8 شهور و23 يوماً، ودُفِنَ في دير الشمع.
+ ومِن مؤلَّفات البابا كيرلس الثالث التي تركها: كتاب ”المعلِّم والتلميذ“ الذي يحوي كتاب ”الاعتراف“.