دعوة لتجديد العهد مع الله للذين فقدوا حرارة الروح الأولى - 11 - طعام الأقوياء (تكملة لِمَا سبق) |
|
|
يُعلِّمنا القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية أننا يلزم أن نُقدِّم في إيماننا فضيلة (2بط 1: 5)، لأن الدليل على صدق إيماننا بالمسيح هو استعلان وجوده فينا بظهور فضائله في حياتنا. لذلك نجده يقول لنا أيضاً في رسالته الأولى: «وأما أنتم فجنس مختار، كهنوت ملوكي، أُمَّة مقدَّسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب» (1بط 2: 9).
فالذين آمنوا بالمسيح صاروا جنساً مختاراً، منسوباً للمسيح، لأن «كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 12)؛ كما أنهم نالوا كهنوتاً ملوكياً «لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح» (1بط 2: 5)؛ وصاروا أُمَّة مقدَّسة وشعب اقتناء: «فلستم بعد غرباء ونُزُلاً، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله» (أف 2: 19). وقد صار هذا كله لنا لكي نُخبر بفضائل الذين دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب: «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع، لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10).
وقد استعرضنا في مقالاتنا السابقة معنى الفضيلة في صورها المتعددة التي اكتشفناها في التطويبات التي استهل بها الرب يسوع موعظته على الجبل. وعرفنا من قولٍ للقديس مقاريوس الكبير كيف أنه ينبغي علينا أن نجاهد ونتعب ونجتهد في جميع الفضائل، ونؤمن ونسأل الرب أن يؤهِّلنا لنكون شركاء الطبيعة الإلهية في القداسة التي للروح القدس، الذي إذ يُطهِّرنا من أقذار الشر، يكون لنا في القيامة ما يستر أجسادنا المُقامة ويُغطي عورتنا، ويُحيينا فنستريح في ملكوته السماوي إلى الأبد (انظر عظته 5: 13).
إلاَّ أن القديس بطرس في مقولته هذه: «قدِّموا في إيمانكم فضيلة»، يلفت أنظارنا إلى أن هناك فضائل أخرى لازمة وحارسة لحفظ أية فضيلة في مسيرتها إلى أن تصل إلى المحبة الكاملة الصافية والخالية من كل شائبة، والمنسكبة في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا. لذلك أضاف قائلاً: «وفي الفضيلة معرفة...». فالمعرفة، إذن، هي أول فضيلة حارسة لسائر الفضائل الأخرى التي سبق ذكرها.
فما هي هذه المعرفة
التي تحرس الفضيلة وتصونها؟
كلمة ”معرفة“ باليونانية = gnîsij، وهي تُترجم بالعربية إلى كلمتين: معرفة أو علم. كما أن هناك كلمة يونانية أخرى تعني المعرفة الكاملة أو التمييز أو البصيرة أو الفطنة وهي: ™p…gnwsij وقد استخدمها بولس الرسول في رسائله 16 مرة، كما استخدمها بطرس الرسول في رسالته الثانية 4 مرات.
المعرفة المقصودة هنا، إذن، لا تعني مجرد العلم أو المعرفة gnîsij التي يملأ الإنسان بها عقله، والتي يستقيها من كثرة قراءة الكتب والعلوم بأنواعها المختلفة، لأن «العلم ينفخ، ولكن المحبة تبني» (1كو 8: 1). كما يقول أيضاً بولس الرسول: «إن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلستُ شيئاً» (1كو 13: 1).
والرب يسوع له المجد أعطى الويل للناموسيين الذين كانوا علماء ومتفقهين في الناموس، لأنهم أخذوا مفتاح المعرفة، فلا هُم دخلوا والداخلون منعوهم، إذ قال لهم: «ويل لكم، أيها الناموسيون، لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم» (لو 11: 52). هذه هي المعرفة التي قال عنها أيضاً بولس الرسول: «وأنا لما أتيت إليكم، أيها الإخوة، أتيت ليس بسمو الكلام والحكمة، منادياً بشهادة الله. لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلاَّ يسوع المسيح وإيَّاه مصلوباً... وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المُقنع، بل ببرهان الروح والقوة، لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله» (1كو 2: 1-5).
ورغم أن المعرفة الروحية التي يقصدها الرسول ليست بسمو الكلام والحكمة، ولا هي بكلام الحكمة الإنسانية المُقنع، إلاَّ أنها ليست أقل حكمةً من حكمة العالم، و«العلم الكاذب الاسم الذي إذ تظاهر به قوم، زاغوا من جهة الإيمان» (1تي 6: 20)، إذ يقول بولس الرسول: «لكننا نتكلَّم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يُبطلون، بل نتكلَّم بحكمة الله في سرٍّ، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر، لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد» (1كو 2: 6-8).
ثم يسترسل قائلاً عن مصدر هذه الحكمة: «ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله، التي نتكلَّم بها أيضاً لا بأقوال تعلِّمها حكمة إنسانية، بل بما يُعلِّمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات» (1كو 2: 13،12).
فمعرفة العالم مصدرها عدو الخير الذي من البدء أراد أن يفصل الإنسان عن الله عن طريق المعرفة المُضِلَّة، بأن دعاه أن يُخالف الله ويتعدَّى وصيته ويأكل من الشجرة المُحرَّمة، ”شجرة معرفة الخير والشر“، لكي يصير كالله عارفاً الخير والشر، وبهذا لا يحتاج إلى الله ويظنُّ في نفسه أنه قادر أن يستقل عن الله ويعيش بدونه.
فما هي المعرفة، إذن، التي يطلب القديس بطرس الرسول أن نُقدِّمها في الفضيلة؟ وكيف نُقدِّم في الفضيلة معرفة؟
المعرفة المقصودة هنا، إذن، هي المعرفة التي يُعلِّمها الروح القدس، «حكمة الله في سرٍّ، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا».
هذه المعرفة هي التي قال عنها بولس الرسول أيضاً لتلميذه تيموثاوس: «وأما أنت فاثبت على ما تعلَّمت وأيقنت عارفاً مِمَّن تعلَّمت. وإنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تُحكِّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. كل الكتاب هو مُوحَى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً ومتأهِّباً لكل عمل صالح» (2تي 3: 14-17).
إذن، فالكتب المقدسة هي مصدر المعرفة الصحيحة، وهي ضرورية جداً للخلاص، لأنها قادرة أن تُحكِّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع، وهي نافعة للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر. من أجل هذا كانت طلبة بولس الرسول دائماً في كل رسائله من أجل الذين كرز لهم ببشارة الملكوت هي هكذا:
+ «وهذا أُصلِّيه أن تزداد محبتكم أيضاً أكثر وأكثر في المعرفة وفي كل فهم، حتى تُميِّزوا الأمور المتخالفة، لكي تكونوا مخلِصِين وبلا عثرة إلى يوم المسيح» (في 1: 10،9).
+ «لا أزال شاكراً لأجلكم ذاكراً إيَّاكم في صلواتي، كي يُعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته، مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غِنَى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدَّة قوَّته؟» (أف 1: 16-19)
+ «من أجل ذلك نحن أيضاً منذ يوم سمعنا لم نزل مُصلِّين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي، كما يحقُّ للرب في كل رِضى، مثمرين في كل عمل صالح، ونامين في معرفة الله» (كو 1: 10،9).
+ «أشكر إلهي كل حين ذاكراً إيَّاك في صلواتي، سامعاً بمحبتك والإيمان الذي لك نحو الرب يسوع ولجميع القدِّيسين، لكي تكون شركة إيمانك فعَّالة في معرفة كل الصلاح الذي فيكم لأجل يسوع المسيح» (فليمون 6،5،4).
+ «إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح، كي لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم، بحيلة الناس، بمكرٍ إلى مكيدة الضلال» (أف 4: 14).
هكذا يتبيَّن لنا مقدار حرص بولس الرسول وغيرته وشوقه أن يتحصن أولاده بالمعرفة الروحية اللازمة لخلاصهم، لكي يُميِّزوا الأمور المتخالفة، ولكي لا يكونوا فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكرٍ إلى مكيدة الضلال، ولكي تستنير عيون أذهانهم ليعلموا المجد المذَّخر لهم في المسيح، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدَّة قوَّته، لكي نمتلئ من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي. فالفضيلة بدون معرفة أو تمييز أو إفراز تكون مُعرَّضةً للانحراف. لذلك حذَّرنا آباء الرهبنة من الضربات اليمينية والشمالية في ممارسة الفضيلة بدون إفراز. لأننا بنعمة الإفراز نحيا، وبروح الحكمة والإعلان في معرفة الله نحارب الشرير وننتصر عليه: «إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية، بل قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنوناً وكل علوٍّ يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح» (2كو 10: 5،4)؛ فبهذا وحده نقدر أن نفضح كل حِيَل العدو وننجو من تجاربه. وأوضح مثال لذلك هو نصرة الرب يسوع في التجربة على الجبل.
فعندما تقدَّم الشيطان من الرب يسوع ليُجرِّبه، مستغلاً صومه وجوعه، قال للرب: «إن كنتَ ابن الله، فقُلْ لهذه الحجارة أن تصير خبزاً». فكان الردُّ من كلمة الله ينبوع المعرفة والإفراز: «مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله» (مت 4: 4؛ تث 8: 3). ولما غلبه الرب في التجربة الأولى، أتاه الشيطان بتجربة تتناسب مع وضعه كمنتصر استطاع أن يتغلَّب على الجوع دون أن يستخدم سلطانه كابن الله لإشباع جوعه، فقال للرب: «إن كنتَ ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك» (مت 4: 6؛ مز 91: 12،11). فغلبه الرب أيضاً بما هو مكتوب، وذلك بقوله: «مكتوب أيضاً: لا تُجرِّب الرب إلهك» (مت 4: 7؛ تث 6: 16).
ولكن العدو أيضاً لم يكفَّ عن تجربته، لأن الفضيلة دائماً تُصاحبها التجارب، فالعدو لا يترك الإنسان الذي يسعى في طلب البر والفضيلة وحفظ وصايا الله دون أن يُجرِّبه ويعرض عليه كل غِنَى الدنيا وسلطان العالم ومجده. لذلك فما أشد حاجة الإنسان إلى التسلُّح بمعرفة الكتب المقدسة، والإفراز في هذه المعرفة، «لمعرفة سرِّ الله الآب والمسيح، المذَّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم» (كو 2: 3)، «لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح» (2كو 4: 6).
من أقوال القديسين:
ويُحكَى عن القديس أرسانيوس معلِّم أولاد الملوك أنه ذهب مرة ليأخذ مشورة شيخ مصري من جهة أفكاره. فرآه أحدهم فقال له: ”يا أبا أرسانيوس، كيف يكون هذا وأنت بعلمك الغزير لكل علوم اللاتينية والرومية تسأل هذا الفلاح الأُمِّي عن أفكارك؟“. فأجابه: ”لقد تثقَّفتُ بكل علوم اللاتينية واليونانية، ولكني لم أتعلَّم بعد الألفافيتا التي أتقنها هذا الأُمِّي (وهو يقصد طريق الفضيلة)“ (بستان الرهبان، فقرة 102).
وقال العلاَّمة إيفاجريوس للقديس أرسانيوس: ”كيف أننا نحن الذين تعلَّمنا بكل هذا التعليم والحكمة لم نقتنِ شيئاً (من الفضائل)، بينما هؤلاء المصريون غير المثقفين قد اقتنوا الكثير من الفضائل؟“. فقال له القديس أرسانيوس: ”نحن فعلاً لم نحصل على شيء مِمَّا تعلَّمناه في العالم، بينما هؤلاء المصريون غير المثقفين قد اقتنوا الفضائل بجهادهم“.
ويقول المؤرخ سوزومين في تاريخ الرهبنة: ”إنهم لا يُظهِرون الفضائل بالمحاججة، ولكن بالممارسة“.
كما قيل عن القديس أنبا أنطونيوس إنه عندما سُئل عن أي الفضائل هي الأقدر على حفظ الإنسان من جميع مصائد العدو، أجاب: ”إن الإفراز هو الذي يُعلِّم الإنسان كيف يسير في الطريق المستقيم الملوكي، وكيف يحيد عن الطريق الوعرة! إن الإفراز يُعلِّم الإنسان كيف لا يُسرق من الضربة اليمينية بالإمساك الجائر المقدار، وكيف لا يُسرق أيضاً من الضربة الشمالية بالتهاون والاسترخاء. إن الإفراز هو عين النفس وسراجها. كما أن العين هي سراج الجسد. وبخصوص الإفراز حذَّر الرب قائلاً: «احذر لئلا يكون النور الذي فيك ظلاماً». فبالإفراز يفحص الإنسان مشيئاته وأقواله وأفعاله. وبالإفراز أيضاً يفهم الإنسان الأمور ويُميِّز جيِّدها من رديئها، ويتأكَّد له ذلك من الكتب المقدسة“ (بستان الرهبان، فقرة 32).
أما مار إسحق فيُحذِّر أيضاً من المعوِّقات التي تحرم الإنسان من نعمة المعرفة والإفراز قائلاً: ”معرفة الله لا تسكن في جسدٍ مُحب للراحة. وأيُّ إنسان يحب جسده لا يؤهَّل لمواهب الله“، ”التواضع بإفراز هو بمعرفة الحق، ومعرفة الحق هي ينبوع الاتضاع“ (نفس المرجع السابق).
ويؤكِّد ذلك مار أفرام بقوله: ”بدء الصالحات وكمالها هو حدُّ الاتضاع بمعرفة حقيقية، لأن المعرفة مقترنة بالاتضاع... كذلك النفس إن لم تتغذَّى بالصلاة والمعرفة الروحانية فهي مائتة“ (نفس المرجع السابق).
(يتبع)
دير القديس أنبا مقار
بنك كريدي أجريكول مصر ــ فرع النيل هيلتون