دراسة كتابية |
|
|
ثانياً: الرحمة
1. الرحمة
Eleos:
الرحمة هي أحد أوجه المحبة الإلهية التي هي صفة الله العُظمى «الله محبة» (1يو 4: 16،8)، وتقترن بها الرأفة والشفقة واللطف والحنان واتساع القلب والقدرة على الغفران.
والله «غني في الرحمة» (أف 2: 4)، «رحمة الله هي كل يوم» (مز 52: 1)، كما في محبته. وهو يقول للإنسان: «محبة أبدية أحببتك، من أجل ذلك أدمتُ لك الرحمة» (إر 31: 3)، ورحمته هي إلى الأبد (مز 107: 10؛ 118: 1-5؛ وشواهد كثيرة أخرى)، و«إلى جيل الأجيال للذين يتقونه» (لو 1: 50)، كما فاهت أُم النور الحقيقي مريم.
والله يوصَف بأنه «أبو الرأفة وإله كل تعزية» (2كو 1: 3)، «إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء» (خر 34: 6)، «(غفور وحنَّان) رحيم، طويل الروح، وكثير الرحمة» (مز 103: 8؛ نح 9: 17)، «كثير الرأفة ورؤوف» (يع 5: 11)؛ ولا وجه للمقارنة بين رحمته ورحمة البشر «وقالت صهيون قد تركني الرب، وسيِّدي نسيني. هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها. حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساكِ. هوذا على كفَّيَّ نقشتك. أسوارك أمامي دائماً» (إش 49: 14-16).
+ ورحمة الله لا تتعارض مع حقِّه وعدله. فرحمته عادلة كما أن عدله رحيم؛ ومع هذا ففي كثير من الآيات تسبق الرحمة الحقَّ (العدل):
«الرحمة والحق معك» (2صم 12: 20)، «الرحمة والحق التقيا» (مز 85: 10)، «كل سُبل الرب رحمة وحق» (مز 25: 10)
+ والرب ذكر الرحمة تتوسط الحق والإيمان، فهي تحفظ الحق من القسوة والتصلُّب، كما تحفظ الإيمان من التعالي والانعزال والانكفاء على الذات والانزلاق إلى بغضة الآخر المختلف.
+ ورحمة الرب وأناته الجزيلة هي رجاء الخطاة الراجعين إلى الله:
«حي أنا، يقول الرب: إني لا أُسرُّ بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا» (حز 33: 11)، «لا يُحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر. لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يُجازنا حسب آثامنا، لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه. كبُعد المشرق عن المغرب أبعد عنا معاصينا. كما يترأَّف الأب على البنين يترأَّف الرب على خائفيه، لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن» (مز 103: 9-14)، «مَن هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه. لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسرُّ بالرأفة. يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في البحر جميع خطاياهم» (ميخا 7: 19،18)، «ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره، وليتُب إلى الرب فيرحمه، وإلى إلهنا لأنه يُكثر الغفران» (إش 55: 7)، «ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ» (مز 51: 1)، «رحمتك أفضل من الحياة» (مز 63: 3)، «فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسان» (2صم: 24: 14)؛ بل إن الرب الرحيم هو الذي يهب التوبة: «توبني فأتوب، لأنك أنت الرب إلهي» (إر 31: 18).
2. الرب يسوع نموذج الرحمة:
+
فهو شريك المتألمين والمتضايقين، ومَن قدَّم حياته من أجل خلاصهم:«ولما رأى الجموع تحنَّن عليهم، إذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها» (مت 9: 36)، «فلما خرج يسوع أبصر جمعاً كثيراً، فتحنَّن عليهم، وشفى مرضاهم» (مت 14: 14)، «وأما يسوع فدعا تلاميذه وقال: إني أشفق على الجمع، لأن الآن لهم ثلاثة أيام يمكثون معي وليس لهم ما يأكلون، ولستُ أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق» (مت 15: 32)، «فلما رآها (الأرملة التي فقدت وحيدها) تحنَّن عليها، وقال لها: لا تبكي. ثم تقدَّم ولمس النعش...» (لو 7: 14،13).
+ وهو صديق الغرباء والمنبوذين:
فيستجيب سريعاً لنداء قائد المئة لشفاء غلامه (مت 8: 13؛ لو 7: 10)، ويمتدح إيمان الكنعانية المتشبثة به لشفاء ابنتها (مت 12: 28)، ويتسع قلبه للسامرية (يو 4: 18)، ويلمس الأبرص ويشفيه (لو 5: 13)، ويُشير بالتقدير للسامري الأبرص الذي شفاه مع تسعة آخرين، وجاء وحده ليشكره (لو 17: 18). وكان نداء المحتاجين له: «ارحمني يا سيِّد» (مت 15: 22)، «يا سيِّد ارحم» (كيريي إيليسون) (مت 17: 15)، «ارحمنا يا سيد» (مت 9: 27؛ مت 20: 31،30).
+ وهو المُحب للعشَّارين والخطاة (مت 11: 19؛ لو 7: 34):
يدخل بيوتهم ويأكل معهم ويسعى لخلاصهم، غافراً خطايا التائبين: «يا زكَّا، أسرع وانزل، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك» (لو 19: 5)، وبالتالي «كان جميع العشَّارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه» (لو 15: 1)، وها هو بولس مُستعيداً مسيرته كواحد منهم يشهد: «أنا الذي كنتُ قبلاً مجدِّفاً ومضطهِداً ومُفترياً، ولكنني رُحِمتُ لأني فعلتُ بجهلٍ في عدم إيمان» (1تي 1: 13). وحتى مَن يسير نصف الطريق كالشاب الغني الساعي للحياة الأبدية «نظر إليه يسوع وأحبه، وقال له: يعوزك شيء واحد. اذهب بِعْ كل ما لك... فاغتمَّ على القول، ومضى حزيناً» (مر 10: 17-22)، وهو دائماً في انتظار عودة الخاطئ الشارد «وإذ كان لم يَزَل بعيداً (الابن الضال) رآه أبوه، فتحنَّن وركض ووقع على عنقه وقبَّله» (لو 15: 20). ومن أجل خلاص الخطاة قدَّم الرب حياته على الصليب: «مِن ثمَّ كان ينبغي أن يُشبه إخوته في كل شيء، لكي يكون رحيماً رئيس كهنة أميناً في ما لله، حتى يُكفِّر خطايا الشعب، لأنه في ما هو قد تألَّم مُجرَّباً يقدر أن يُعين المُجرَّبين» (عب 12: 18،17).
3. المؤمن والرحمة:
الرب جعل الرحمة، وجه المحبة اللامع، تتوسَّط الحق والإيمان. فهي تتصل بالاثنين وتصل بينهما. والقديس بولس في ثلاثيته: الإيمان والرجاء والمحبة، يرى المحبة الفضيلة العُظمى (1كو 13: 13)، مُصدِّقاً على قول الرب عن وصية المحبة إنها أعظم الوصايا (تث 6: 5؛ لا 19: 18؛ مت 22: 37-39؛ مر 12: 31،30؛ لو 10: 27).
+ وصايا الكتاب للبشر كثيرة بالرحمة على إخوتهم تشبُّهاً بالآب السماوي، وهي تجعل تمتُّعهم بالرحمة والغفران في الدينونة مرتبطاً بغفرانهم ورحمتهم للآخرين:
«لا تدع الرحمة والحق يتركانك. تقلَّدهما على عنقك. اكتبهما على لوح قلبك، فتجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس» (أم 3: 4،3)، «احفظ الحق والرحمة، وانتظر إلهك دائماً» (هو 12: 6)، «فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم» (لو 6: 36)، «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» (مت 5: 7)، «لأن الحُكْم هو بلا رحمة لمَن لم يعمل رحمة، والرحمة تفتخر على الحُكْم» (يع 2: 13)
+ الرحمة تحتوى الشفقة واللطف والرأفة والحنان خاصة إزاء الضعفاء:
«والنهاية كونوا... ذوي محبة أخوية، مُشفقين لطفاء» (1بط: 8)، «بهذا قد عرفنا المحبة، أن ذاك (الرب يسوع) وضع نفسه لأجلنا، فنحن يجب أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة» (1يو 3: 16)، «كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين متسامحين، كما سامحكم الله أيضاً في المسيح» (أف 4: 32)، «فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء ولا نُرضي أنفسنا. فليُرضِ كل واحد منَّا قريبه للخير لأجل البنيان، لأن المسيح أيضاً لم يُرضِ نفسه» (رو 15: 1)، «شجِّعوا صغار النفوس. أسندوا الضعفاء. تأنّوا على الجميع» (1تس 5: 14)، «مهتمين بعضكم لبعض اهتماماً واحداً، غير مهتمين بالأمور العالية، بل مُنقادين إلى المتضعين» (رو 12: 16)، «محتملين بعضكم بعضاً، ومسامحين بعضكم بعضاً، إن كان لأحد على أحد شكوى. كما غفر لكم المسيح، هكذا اغفروا أنتم أيضاً» (كو 3: 13).
+ الرحمة تقتضي مشاركة المتألِّمين والمُجرَّبين:
«بكاءً مع الباكين» (رو 12: 15)، «اذكروا المُقيَّدين كأنكم مُقيَّدون معهم، والمُذلِّين كأنكم أنتم أيضاً في الجسد» (عب 13: 3).
+ الرحمة تضبط الغضب والانتقام، وتساند التسامح، وطرح الإساءة، والتعفُّف عن الإدانة، وعدم التشدُّد والقسوة مع المخطئين؛ بل الأخذ بيدهم وإنقاذهم، فكلنا تحت الآلام:
«لا تنتقموا لأنفسكم، أيها الأحباء، بل أعطوا مكاناً للغضب... فإن جاع عدوك أطعمه، وإن عطش فاسْقِه... لا يغلبنَّك الشر بل اغلب الشر بالخير» (رو 12: 19-21)، «انظروا أن لا يُجازي أحدٌ أحداً عن شرٍّ بشر. بل كل حين اتبعوا الخير بعضكم لبعض وللجميع» (1تس 5: 15)، «فلا نُحاكم أيضاً بعضنا بعضاً» (رو 14: 13)، «لا تدينوا لكي لا تُدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون» (مت 7: 1)، «مَن أنت الذي تدين (عبد) غيرك، هو لمولاه يثبت أو يسقط» (رو 14: 4؛ يع 4: 12)، «أيها الإخوة، إذا انسبق إنسان فأُخِذ في زلة ما فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظراً إلى نفسك لئلا تُجرَّب أنت أيضاً» (غل 6: 1)(2).
وفي مَثَل العبد الرديء الذي سامحه سيده، ولكن العبد لم يرحم رفيقه المدين له وألقاه في السجن، فدانه سيده قائلاً: «أفما كان ينبغي أن ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا» (مت 18: 32). وختم الرب المثل قائلاً للكل: «فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته» (مت 18: 35).
+ الرحمة قرين محبة القريب، وهي تنعكس في عمل الخير وخدمة الفقير والمسكين التي تُفرح قلب الله أخي الفقراء والمحتاجين، وتكشف عن تقوى المؤمن:
«مَن يرحم الفقير يُقرض الرب (!) وعن معروفه يُجازيه» (أم 19: 17)، «أليس هذا صوماً أختاره حلَّ قيود الشر... أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخِل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك، حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك... حينئذ تدعو فيُجيب الرب... ويقودك الرب على الدوام...» (إش 58: 6-11)، «وأما مَن كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه. يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق» (1يو 3: 16-18).
+ في العلاقات الإنسانية، الرحمة تفترض الترفُّع عن التشهير بالمخطئ أو اغتيابه واتخاذه مادة للكلام، وعدم الضغط على المهزوم لتحطيمه، والتوقُّف عن حصار المعتذر الشاعر بخطئه، وإنما مسامحته لئلا يتصلَّف وتأخذه العزَّة بالإثم ويتراجع عن الحق.
في الرحمة بالضعفاء، والإحسان للمحتاجين، ومشاركة المتألِّمين، والشفقة على الساقطين، ومسامحة المسيئين؛ نحن نتشبَّه بالسيِّد إله المحبة. فهل هناك نعمة أعظم من أن نكون مثله؟!
(يتبع)
دكتور جميل نجيب سليمان
(1) وردت كلمة ”أثقل“ في الترجمة العربية الحديثة بمعنى: ”أهم“ ما في الناموس. وفي الأصل اليوناني كلمة barÚtera بمعنى: ”أغلى جداً“، أو ”أكثر ثمناً“، أو ”الأعظم في القيمة“.
(2) كان القديس موسى الأسود دائماً يذكر ماضيه المظلم الذي سامحه به المخلِّص، فكان يأبَى أن يُشارك في محاكمة أحد من الإخوة.