دراسة كتابية


عن الإيمان والأعمال
القديسان بولس ويعقوب، هل هما ضدَّان؟
-4-

ثانياً: الإيمان والأعمال في رسائل القديس بولس
- 3 -

ملخص ما نُشر:

كمدخل لهذه الدراسة، بدأنا بتحديد معنى كل من الإيمان، الأعمال، النعمة، الخلاص (عدد سبتمبر 2008، ص 31)؛ ثم عرضنا لاختبار القديس بولس الخلاصي بالمقارنة مع اختبار التلاميذ، وكيف كان عمل النعمة ساطعاً في تحوُّله الحاد عن ماضيه الناموسي المُناوئ للإيمان بالرب والكرازة بإنجيله (عدد أكتوبر 2008، ص 36). ومن هنا كانت كرازته عن ”بدء الخلاص“ بالنعمة للكل، يهوداً وأُمماً، بواسطة الإيمان بدون أعمال الناموس (عدد نوفمبر 2008، ص 29). وبعده تبدأ أعمال الإيمان تُشرق كثمار طبيعية لـ ”حياة الخلاص“ (هذا المقال).

3 - في ”حياة الخلاص“، الإيمان يعمل:

كما رأينا، فإن موقف القديس بولس من أعمال الناموس لم يكن موقفه وحده، وإنما كان موقف الكنيسة كلها وأعمدتها بمَن فيهم القديس يعقوب نفسه (كاتب رسالة يعقوب) الذي رأس مجمع أورشليم (أع 15). فبأعمال الناموس «لا يتبرر جسد ما» (رو 3: 20؛ غل 2: 16)، ولا فضل لليهودي على أُممي، فالله ليس لليهود فقط (رو 3: 29)، وليس عنده محاباة (رو 2: 11). كما أن الخاطئ الأُممي الذي لم يعرف الرب بعد هو كالشجرة الجافة فلا ثمر هناك أو بر ليتقدَّم به، فالنعمة هي «المُخلِّصة لجميع الناس» (تي 2: 11).

ولكن القديس بولس - كسائر رسل المسيح المُنادين بإنجيل الخلاص - يُعلِّمون كسيِّدهم أن يكون للمؤمنين، الذين نالوا الخلاص وذاقوا الموهبة السمائية؛ ثمرهم للقداسة (مت 13: 23؛ مر 4: 20؛ لو 8: 15؛ رو 6: 22).

وإذا لم يكن للأعمال الصالحة من موضع قبل الولوج من باب الخلاص الذي نناله فقط بعمل نعمة الله الغنية المجانية، فإنه ما أن تقبل النفس المسيحَ ويبدأ المؤمنون بالمعمودية ”حياة الخلاص“ كـ «خليقة جديدة» (2كو 5: 17؛ غل 6: 15)؛ فمن الطبيعي أن تظهر منهم ”ثمار الروح“، علامات هذه الحياة، كراجعين «من ظلمات إلى نور» (أع 26: 18)، صائرين «أبناء النور» (1تس 5: 5)؛ و«كأنوار في العالم» (في 2: 15) يُلبُّون صوت سيدهم الذي أوصاهم «فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويُمجِّدوا أباكم الذي في السموات» (مت 5: 16،14).

فأعمال المؤمن، هي الشهادة أن الحياة الجديدة تنبض وتتحرك وتتسع وتمتد إلى آفاق أعلى مع كل يوم، وكل اختبار ومحنة، وكل نمو في النعمة وفي الإيمان والمحبة ومعرفة الله (كو 1: 10؛ 1تس 3: 12؛ 2تس 1: 3).

والقديس بولس، الذي ينفي أعمال الناموس وأعمال البر الذاتي قبل معرفة المسيح والإيمان به (لأن هذا ينتقص من عمل النعمة الكافية بذاتها)، هو نفسه القديس بولس الذي تحفل رسائله بإلزام المؤمنين بالشهادة لصدق إيمانهم بكل عمل صالح وخضوع إرادتهم لقيادة الروح بالتوبة والجهاد ومقاومة الشر، واحتمال الآلام من أجل المسيح، والحث على السهر والحذر كل الحياة، والتطلُّع إلى الوطن السماوي (مما سنورده فيما بعد).

فالإيمان(1) عند القديس بولس هو الإيمان بدون أعمال الناموس للدخول إلى خلاص المسيح. وبالسير في طريق الخلاص يصير الإيمان بفعل الروح عاملاً بالمحبة وتُعلِن عنه ثماره، التي لم تَعُد هي أعمال الناموس أو البر الـذاتي؛ وإنما أعمال الإيمان بـالمسيح (1تس 1: 3) التي هي إفراز الحياة الجديدة والتزاماتها.

القديس بولس هو رسول «الإيمان العامل بالمحبة» (غل 5: 6)، وليس عدو الأعمال (على إطلاقها) كما يدَّعي البعض. وهو يقصد ما يقول، لأن اقتران الإيمان بالمحبة يضمن ألاَّ يصير الإيمان آلياً جامداً جافاً، أو ينحدر إلى التعصُّب ورفض الآخر وكراهيته، كما كان ”شاول“ قبل أن تدركه محبة المسيح ونعمته، وكما يفعل المتطرِّفون في أيامنا هذه «وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكي ليس لي محبة، فلستُ شيئاً» (1كو 13: 2). فالمحبة هي تكميل الناموس (رو 13: 10)، وهي التي تبقى بعد الإيمان والرجاء، ولن تسقط أبداً (1كو 13: 8).

4 - القديس بولس وأعمال الإيمان:

قبل أن نسوق نماذج من توجيهات القديس بولس في رسائله للمؤمنين، لممارسة حياة مسيحية نشطة تحفل بالعبادة والأعمال الحسنة والجهاد ورفض الخطية، نورد الملاحظات التالية:

- إن القديس بولس يختم رسالته إلى رومية - التي أكَّد فيها على أن بدء الخلاص (التبرير) هو بالنعمة وحدها مع الإيمان بدون أعمال الناموس - بأصحاحات أربعة (12-15) عن سلوك المؤمنين، الذين اختبروا الخلاص، كما يحق لإنجيل المسيح.

- وفي أصحاح واحد من رسالته إلى فيلِبِّي يكتب القديس بولس عن مراحل الخلاص الثلاث، فيشير في الجزء الأول إلى التبرير بدون أعمال الناموس مُقدِّماً نفسه نموذجاً لمَن توفرت فيه كل صفات اليهودي الملتزم وأعماله، وكيف تخلَّى عن كل ميراثه الناموسي لكي يربح المسيح (في 3: 4-11)، وأن هذا لم يَعْنِ بالنسبة له نهاية المطاف بل بدايته والسير في طريق الخلاص بخوف ورعدة، ساعياً «... نحو الغرض، لأجل جعالة دعوة الله العُليا في المسيح يسوع» (في 3: 12-14) (التقديس).

وفي الختام يوجِّه القلوب إلى الخلاص الأخير (التمجيد): «فإن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها ننتظر مخلِّصاً هو الرب يسوع، الذي سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» (في 3: 21،20).

- بل إنه في آية واحدة (رو 6: 22) يتكلَّم عن كل مراحل الخلاص: «وأما الآن إذ أُعْتِقتم من الخطية وصرتم عبيداً لله (التبرير)، فلكم ثمركم للقداسة (التقديس)، والنهاية حياة أبدية (التمجيد)».

- وفي الأصحاح الثاني الشهير من رسالته إلى أفسس، بعد أن يتكلَّم القديس بولس عن الخلاص بالنعمة بدون أعمال الناموس (2: 1-9)، ينتقل مباشرة إلى الحديث عن أعمال الإيمان التابعة فيقول إننا: «... مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة» (أف 2: 10).

- وفي الفضائل الثلاث الشهيرة: الإيمان والرجاء والمحبة، يَقرِن القديس بولس كُلاًّ منها (وليس الإيمان وحده) بما يكشف فاعليتها وديناميتها. فهو يكتب لمؤمني تسالونيكي: «متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائكم ربنا يسوع المسيح» (1تس 1: 3)؛ فالعمل قرين الإيمان، والتعب قرين المحبة، والصبر قرين الرجاء.

- على أن القديس بولس في حثِّه المؤمنين على الالتزام بحياة القداسة وكل ما تتضمنه، يؤكِّد في نفس الوقت على دور النعمة الإلهية في كل نواحي حياة الإيمان، عملاً وخدمةً وعبادةً وجهاداً وتوبةً واحتمالاً للتجارب، بحيث يتوارى الشعور بالذات ويسود عمل الروح القدس في النفس.

فالنعمة التي بدأت الخلاص هي التي تُكْمِل حياة الخلاص إلى النهاية، وكل أعمال الحياة الجديدة هي بالتالي هبة النعمة وتدبير الله وثمر الروح القدس، حتى ليصبح نسبتها إلى الذات تجاوزاً للحق الإلهي واختلاساً لمجد الله.

وعلى خُطَى السيِّد الذي قال: «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» (يو 15: 5)، «لأنكم لستم أنتم المتكلِّمين بل روح أبيكم الذي يتكلَّم فيكم» (مت 10: 20)، «غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله» (لو 18: 27)، «متى فعلتم كل ما أُمرتم به، فقولوا إننا عبيد بطَّالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا» (لو 17: 10)؛ هكذا يكتب معلِّمنا القديس بولس في هذا المجال:

+ «لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها» (أف 2: 10).

+ «تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة» (في 2: 13،12).

+ «وإله السلام ليُكمِّلكم في كل عمل صالح لتصنعوا مشيئته، عاملاً فيكم ما يُرضي أمامه بيسوع المسيح» (عب 13: 21).

+ «وربنا نفسه يسوع المسيح والله أبونا... يُعزِّي قلوبكم ويثبِّتكم في كل كلام وعمل صالح» (2تي 2: 17،16).

+ «واثقاً بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً، يُكمِّل إلى يوم (مجيء) يسوع المسيح» (في 1: 6).

+ «فإننا نحن عاملان مع الله، وأنتم فلاحة الله، بناء الله» (1كو 3: 9).

+ «وكل ما عملتم بقول أو فعل، فاعملوا الكل باسم الرب يسوع، شاكرين الله والآب به» (كو 3: 17).

+ «لأننا لسنا نعلم ما نُصلِّي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنَّات لا يُنطَق بها» (رو 8: 26).

+ «لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا» (رو 5: 5).

+ «وأما ثمر الروح، فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفُّف» (غل 5: 23،22).

+ «ليس الغارس شيئاً ولا الساقي، بل الله الذي يُنْمِي» (1كو 3: 7).

+ «فقال لي: تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكْمَل... لأني حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي» (2كو 12: 10،9).

+ «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس... فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق، ولابسين درع البر، وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام، حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تُطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة. وخذوا خوذة الخلاص، وسيف الروح الذي هو كلمة الله» (أف 6: 11، 14-17).

+ «فتقوَّ أنت يا ابني بالنعمة التي في المسيح يسوع» (2تي 2: 1)

(يتبع)

دكتور جميل نجيب سليمان

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis
(1) الإيمان الحقيقي كما يقولون ليس اسماً بل فعل Action Verb [وبنفس القياس، فالمحبة يجب أن تكون عاملة وعملية: «يا أولادي لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق» (1يو 3: 18)]. وهذا ينطبق أيضاً حتى عند بدء الخلاص. فالإيمان هنا - الذي يوصف بأنه بغير أعمال الناموس - لم يكن رغم ذلك ساكناً سلبياً passive، وإنما نشطاً فاعلاً (بعمل النعمة) في تسليمه الكامل وثقته وطاعته لمخلِّصه حتى ليشبه توجُّه مَن يُلقي بنفسه في الماء، وهو لا يعرف السباحة، واثقاً أن هناك مَن سيلتقطه ويعبر به الأمواج [محمولاً على الأذرع الأبدية (تث 33: 27)، أو على أجنحة النسور (خر 19: 4) كما يقول الرب]. ?? ?? ?? ?? 36 - مجلة مرقس ديسمبر 2008 مجلة مرقس ديسمبر 2008 - 35