من مخطوطات الدير


تفسير سفر الرؤيا (الأبوغالمسيس)
للأنبا بولس البوشي أسقف مصر
(أي القاهرة القديمة)
- 9 -

الأصحاحان الثاني عشر والثالث عشر

من الرؤيا: قال: «ثم فُتح هيكلُ الله الذي في السماء، فظهر تابوت العهد في الهيكل، وكان رعودٌ وبروقٌ وأصواتٌ وزلزلةٌ وبَرَدٌ».
«وظهر في السماء آيةٌ عظيمةٌ، امرأةٌ لابسةٌ الشمس، والقمرُ تحت رجليها، واثنا عشر نجماً على رأسها، وهي حاملٌ تصيحُ وتتمخَّضُ لتلدَ.

وظهرت أيضاً آيةٌ أخرى في السماء، تنينٌ أحمر كبير، له سبعة رؤوس وعشرة قرون، وعلى رأسه سبعة أكاليل، وذَنَبُه جذب ثلثَ نجوم السماء إلى الأرض. ثم وقف التنين قبالة الامرأة التي تريدُ أن تلدَ، لكيما إذا ولدت يبتلعه. فولدت ابناً الذي يرعى الأمم بقضيب من حديد. فاختُطف الابنُ إلى السماء إلى الله حيث كرسيه. وهربت المرأةُ إلى القفر إلى الموضع الذي هيَّأه الله لها ليُبعدوها هناك ألفاً ومائتي وستين يوماً.

وصار في السماء قتالٌ: ميخائيل ومعه ملائكته يقاتلون التنين، والتنين يقاتلهم مع جنوده، فلم يقووا ولم يجد موضعاً في السماء. فأُلقي الحيةُ العظيمةُ العتيقةُ التي تُسمى الشيطان، الذي يُضلُ جميعَ العالم، وملائكتُه أيضاً أُلقوا معه أسفل على الأرض. وسمعتُ صوتاً عالياً يقول: الآن قد صار الخلاصُ والقوةُ والمُلكُ لله والسلطان لمسيحه، لأنه ألقى المُضرب (المشتكي) إلى أسفل على الأرض الذي ينمُّ في الإخوة (أي يشتكي ضدهم) وينمُّ أمام الله الليل والنهار، لأنهم غلبوه بدم الحمل وكلام الشهادة، ولم يحبوا أنفسهم حتى الموت. فلذلك تفرح السموات وجميع سكانها، والويل للأرض والبحر لأن الشيطان نزل إليها بغضب كثير، عالماً أن زمانه يسيرٌ.

فلما رأى التنينُ أنه قد أُلقيَ على الأرض، طلب الامرأةَ التي ولدت الابـن الذ كر، وأُعطيت المرأة جناحين عظيمين كمثل نسر، فطارت بهما إلى البرية لتُبعَد هناك زماناً من وجه الحية. وأن الحيةَ ألقت من فيها نهرَ ماءٍ على المرأة لتغرقها فيه، ففتحت الأرضُ فاها وابتلعت النهرَ الماءَ الخارج من فم التنين. وأن التنينَ غضبَ على المرأة ومضى ليُقاتل بقية زرعها (أي أولادها) الحافظين وصية الله وشهادة يسوع المسيح» (رؤ 11: 19- 12: 17).

+ التفسير: لما ذَكَرَ يوحنا الإنجيلي بروح النبوَّة أمر السبعة أبواق إلى انقضاء العالم، أعاد الأمر إلى زمانه. ثم ابتدأ يتكلَّم في تدبير التجسُّد وبُنيان الكنيسة، كما قلنا أولاً. فقال: «إن هيكل الله فُتح في السماء، وظهر في الهيكل تابوت العهد»، عَنِيَ سر تجسد الإله الكلمة الأزلي. «وكان رعودٌ وبروقٌ وأصواتٌ وزلزلةٌ وبَرَدٌ على الأرض»، عَنِيَ أنه كان خوفٌ عظيم على الشيطان وجنوده في تجسد الرب. ثم قال: «نظرتُ آيةً أخرى عظيمةً من السماء، امرأة لابسة الشمس والقمر تحت رجليها واثني عشر نجماً إكليلاً على رأسها»، فسَّر بعضُ المفسِّرين أنها الطوبانية سيدتنا مرتمريم والدة الإله؛ وبعضٌ آخر من أكابر أئمة الدين فسَّروا أنها الكنيسة. وليس في هذا خُلف (أي خلاف). (فهناك) أشياءٌ كثيرة تجيء على السيدة (العذراء) لأجل التجسُّد، لأن الربَّ تجسد منها بجسد كامل ذي نفس عاقلة نُطقية، مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية، وبه أكمل التدبير. وقد تجيء تلك الأشياء أيضاً على الكنيسة المقدسة الجامعة الرسولية لأجل بنيان الجماعة، لأن الأُمة تُسمى امرأة كما في حزقيال النبي (الأصحاح 16)، والأُمة هي الجماعة، والجماعة هي الكنيسة بلا شك. فقوله: «لابسة الشمس» عَنِيَ شمس البر المسيح (ملا 4: 2)، الذي لبسه جماعة المؤمنين بالمعمودية، كما يقول الرسول: «أنتم الذي انصبغتم بالمسيح للمسيح لبستم، ليس في ذلك يهودي ولا شعوبي (أُممي)، ولا ختان ولا غرلة، ولا عبد ولا حر، بل الكل وفي الكل المسيحُ» (غل 3: 27). «والقمر الذي تحت رجليها»، فسَّره المعلِّمون أنه يوحنا المعمدان، الذي عمَّد بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا، وأنذر بمعمودية الروح القدس ذي الكمال (مر 1: 4-8). وكان واسطة بين العتيقة والجديدة (أي بين العهدين القديم والجديد)، آخر الناموس والأنبياء وأول المرسلين، كما قال: «إني رسول أمامه» (يو 3: 28)، وعَنِيَ «تحت رجليها»، أنه سهَّل السبيل المستقيم، كما هو مكتوب: «هوذا أنا مُرسل ملاكي أمامك ليُسهِّل سُبُلك قدامك» (إش 40:4؛ لو 1: 17). «والاثني عشر نجماً»، هم الموالي السادة الرسل آباؤنا الأطهار الأفاضل التامين رؤساء أئمة المسكونة. وقوله: «إكليل على رأسها»، لأنهم بالحقيقة أكاليل البيعة وضياؤها بعد المسيح، ومجدها الذين أسَّسوها وأقبلوا بجماعتها إلى الإيمان، حتى أنها سُمِّيَت الكنيسة الجامعة الرسولية. وقوله: «حامل تتمخض تريد (أن) تلد»، (وذلك) تَنَبُّؤاً على أولاد البيعة أنهم يكثرون في كل الأقطار.

«والتنين الذي وقف قبالتها»، هو الشيطان الذي لم يَزَل مُناصِباً للبيعة. وذكر أن بصعود الابن الأزلي إلى السماء، صار لنا نحن الغلبة أن نهرب من مكائد العدو إذا شئنا إلى أرض برية، ليس فيها ماء ولا مرعى للأوجاع الرديَّة، عندما نُلقي عنا الأفعال العالمية المنسوبة لهذا الدهر الحاضر الزمني، ونقصد الذي للمستأنف (أي الدهر المزمع أن يكون) الأبدي. وذكر سقوط الشيطان وأنه قد بعد من الله وملائكته الأطهار، وأُعدَّ له العذاب المؤبد في آخر الزمان. فلهذا قصد الكنيسة وأبناءها الأبطال الشجعان ليُحاربهم. فأما البيعة «فأُعطيت جناحين عظيمين جداً»، أعني العتيقة والحديثة والتعاليم المحيية التي من الله ورسله وأنبيائه وأصفيائه. فلهذا نَمَت وعَلَت على جبل الله إلى الأبد. وقوله: «زمان ونصف زمان»، عَنِيَ الألف وخمسمائة سنة الذين بقوا للعالم، وكَمُلَ المكتوب في الزبور: «مثل ندا حرمون المنحدر على جبل صهيون» (مز 133: 3). حرمون فسَّروه بالعُلو، والندا افتقاد نعمة الروح القدس، وجبل صهيون هي البيعة المقدسة.

قال: «والحية ألقت مِن فيها نهرَ ماءٍ لتُغرق المرأة»، عَنِيَ كثرة التعاليم الفاسدة التي ألقاها الشيطان على الكنيسة ليُغرق بها التعاليم الرسولية. قال: «ففتحت الأرضُ فاها وابتلعت النهر الماء الخارج من فم التنين»، عَنِيَ بالأرض: الرعية، كما تقدم التفسير. ففتحت فاها النقي بالتعليم الروحاني قِبَالة التعاليم الشيطانية وغارت به (أي) أنزلته (إلى) العمق، وثبت منار الكنيسة وصحة التعاليم الرسولية من الإيمان بالثالوث الأقدس الواحد في اللاهوت، وتجسَّد ابن الله الأزلي بجسد كامل ذي نفس عاقلة ناطقة، وصَنَعَ العجائبَ الباهرة، وقَبِلَ الآلامَ وهو هذا الفاعل الواحد له الأمرين جميعاً: صُنع العجائب، وقبول الآلام. تألم بالجسد ومات وهو غير متألم ولا مائت بلاهوته. الذي يعلو كل الآلام ويعطي الحياة. ولم يفترق لاهوته عن ناسوته في قبول الآلام ونزول القبر. وحيث (إن) الجسدَ متحدٌ به، حُسِبَ له ذلك من حيث الاتحاد لا من حيث الاستحالة (أي التحوُّل أو التغيير). وقام من (بين) الأموات وصعد إلى السموات فوق الملائكة والرؤساء والقوات، حيث شرف عظمته التي لم يَزَل فيها بلاهوته. وإنما عَنِيَ بالصعود، أي أنه أصعد الجسد الذي كان ساقطاً في الهاوية (أي جسد البشرية المتحد به) إلى ذلك الشرف العظيم باتحاده بلاهوته الأبدي. وأرسل على رسله موهبة الروح القدس المتساوي معه والآب في اللاهوت. وهذا لم يصح في الكنيسة (أي لم يستمر وينتشر في الكنيسة) إلا بعد تعب كثير وجهاد شديد قبالة القوم الأردياء.

ثم قال: إن «العدو غضب على المرأة ومضى ليُقاتل زرعها الحافظين وصايا الله وشهادة يسوع المسيح»، عَنِيَ حيث غلب (أي أراد أن يُتلف) أساس الرسل الأطهار، فبدأ يُعاند المجاهدين في حفظ الوصايا الإلهية، المصدِّقين بألوهية الرب يسوع المسيح، الذين يرجون ملكوته المؤبدة، وعلى ذلك الرجاء الصالح يعملون الفضيلة، ويُبطلون الرذيلة، ولكن الرب يسوع المسيح لا يتخلَّى عنهم، بل يعضدهم ويقويهم حتى يكملوا سعيهم كالمكتوب، له المجد إلى الأبد، آمين.

+ من الرؤيا: قال: «ووقفتُ على رمل البحر ونظرتُ إلى وحش صاعد من البحر، له عشرة قرون وسبعة رؤوس، وعلى رأسه إكليل، ومكتوبٌ على رأسه اسم تجديف. وكان هذا الوحش الذي رأيتُه يشبه الفهد، ورجلاه رجلا نمر، وفمه كفم الأسد. ثم أعطاه التنين قوته وسلطانه وكرسيه. وأحد رؤوسه كمثل مَن قد ضُرب بضربة الموت. ثم إن ضربة الموت عولجت، والأرضُ كلُّها تعجبتْ خلف الوحش، وسجدوا للتنين لأنه أعطى الوحش سلطانه. ثم إنهم سجدوا للوحش قائلين: مَن مثل هذا الوحش، ومَن يقدر على قتاله. ثم إنه أُعطي فماً يتكلم بالعظائم والتجديف، وسلطانه اثنان وأربعون شهراً. وفتح فمه بالتجديف على الله ومظلته (أي مسكنه)، وعلى ساكني السماء. وأُعطي سلطاناً على كل سبط ولسان وشعب وأُمة أن يسجد له سكان الأرض، أولئك الذين ليس اسمهم مكتوب في سفر الحياة مع الخروف الذي ذُبح منذ إنشاء العالم. مَن له أُذنان سامعتان فليسمع. مَن يذهب إلى السبي فليُسبى، ومَن يُقتل بالسيف فليُقتل، ومَن له صبر وإيمان القديسين طوباه» (رؤ 13: 1-10).

+ التفسير: بعد ما ذكر يوحنا الإنجيلي جهاد الكنيسة في الانشقاقات التي حدثت، وكون العدو اجتهد أن يُبطل ما وضعه الرسل الأطهار مع الشدة والاضطهاد الذي لحق أولاد الكنيسة منه، وكيف التجأوا إلى الله بحرارة الإيمان وخلصوا؛ ذكر بعد ذلك الوحش الصاعد من البحر، ثم ذكر كيف يتسلَّط على الأسباط (الشعوب) المختلفي الألسن (اللغات)، لأن بالحقيقة لم يكن سبطٌ إلا ولحقه منه ضائقة، وذلك كله لأجل خطايانا وقلة محبتنا في بعضنا بعض.

وكون البيعة ضاددت بعضها بعض، وأعضاء السيد المسيح المقدسة الذين هم شعبه النقي، الذين اشتراهم بدمه الكريم، لم يبقوا في أُلفة واحدة مجتمعين كما كانوا، فلأجل ذلك تخلَّت عنهم المعونة السمائية التي من دونها لا تكون نجاة. فضرب التنين ذَنَبَه وقذف سُمَّه وسلَّط الأُمة الغريبة. وقوله: «ويتكلم بالعظايم والتجديف»، عَنِيَ أنه خارجاً عن العتيقة والحديثة، ومَن يخضع له، ليس اسمه مكتوب في سفر الحياة. ثم طوَّب ومَدح الذين لهم قوة إيمان وصبر إلى المنتهى، لأنه عيَّن ورمز أن لابد أن يقتل منهم ويسبي منهم.

+ من الرؤيا: قال: «ورأيتُ وحشاً آخر صاعداً من البحر، له قرنان كالخروف، وهو يتكلم كالتنين، ويجعل السلطان للوحش الأول. وجعل الأرض وسكانها يسجدون للوحش الأول الذي برئ من ضربة الموت، ليصنع آيات عظام، ويُحدر ناراً من السماء قدام البشر ليُضل الناس سكان الأرض من أجل الآيات التي يصنع قدام الوحش. ويقول لسكان الأرض أن يصنع عليهم صورة الوحش ليقتل كل مَن لا يسجد لصورة الوحش. ويجعل على كل كبير وصغير وغني ومسكين وحُر وعبد اسمَه على يد كل واحد منهم اليُمنى أو جبهته كتابة الوحش، ولا يقدر أحد (أن) يبيع أو يشتري إلا من في جبهته كتابة الوحش أو اسمه. هذا هو موضع الحكمة، فمَن له فهم فليحسب عدد اسم الوحش وعدده 666» (رؤ 13: 11-18).

+ التفسير: عَنِيَ إذا جمعتَ الحروف وتَعِدُّ كل حرف بذاته فُراداً، ثم يضاف الجميع، فتكون هذه: mametioc pe pefran.

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis