دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

دراسة الكتاب المقدس

 

 

سفر التثنية

سفر توصيات موسى الوداعية

لبني إسرائيل

- 6 -

تكلَّمنا في العدد السابق (نوفمبر 2007، ص 13) عن تمهيد ومقدمة عامة عن ظروف الحديث الأول الذي ألقاه موسى النبي على بني إسرائيل (1: 1-5).

وهنا نبدأ في عرض هذا الحديث الأول الذي يتضمن ”ما عمله الله لشعبه إسرائيل“.

ويُمثِّل هذا الحديث الخلفية التاريخية للعهد الذي أبرمه الله مع شعبه، مُستعيداً الأحداث الماضية التي مرَّ بها الشعب منذ خروجه من أرض مصر حتى اللحظة التي كان يُخاطبهم فيها بهذا الحديث، متأمِّلاً فيها ومستخرِجاً العِبَر والدروس المستفادة منها، ومُبيِّناً لهم مدى العناية الإلهية الفائقة والحماية التي شمل الله بها شعبه، مع توقيع العقوبة الصارمة التي كانت تتبع كل عصيان ومخالفة (تث 1: 6- 4: 43). ويمكن تقسيم هذا الحديث الأول إلى النقاط الآتية:

1 - سرد تاريخي عن أعمال الله العظيمة معهم منذ كلَّمهم الله في حوريب وحتى وصولهم إلى بعل فغور (1: 6- 3: 29). ويشمل هذا السرد ما يأتي:

أ - من حوريب بجبل سيناء حتى تجسُّس أرض الموعد ومحاولة الغزو الفاشلة بسبب عصيان أمر الله (1: 6-46).

ب - من قادش إلى موآب، والاستيلاء على شرق الأردن (2: 1- 3: 29).

أ - من حوريب بجبل سيناء حتى تجسُّس أرض الموعد ومحاولة الغزو الفاشلة

بسبب عصيان أمر الله (1: 6-46):

بدأ موسى حديثه الأول بقوله:

+ «الرب إلهنا كلَّمنا في حوريب قائلاً: كفاكُم قُعُودٌ في هذا الجبل. تحوَّلوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من العَرَبة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. انظر قد جعلتُ أمامكم الأرض، ادخلوا وتملَّكوا الأرض التي أقسم الربُّ لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يُعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم» (تث 1: 6-8).

يبدأ موسى حديثه بسرده ما حدث في حوريب الواقعة في برية سيناء، ذلك الموضع الذي اختبروا فيه أعظم وأقدس اختباراتهم، وهو سماعهم لصوت الله يتكلَّم معهم مباشرة بلا وسيط، والذي عبَّر عنه موسى لهم قائلاً: «هل سمع شعبٌ صوت الله يتكلَّم من وسط النار كما سمعتَ أنت وعاش؟ أو هل شرع الله أن يأتي ويأخذ لنفسه شعباً من وسط شعب بتجارب وآيات وعجائب وحرب ويد شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة مثل كل ما فعل لكم الرب إلهكم في مصر أمام أعينكم. إنك قد أُريتَ لتعلم أن الرب هو الإله. ليس آخر سواه. مِن السماء أَسمعك صوته ليُنذرك، وعلى الأرض أراك ناره العظيمة وسمعتَ كلامه من وسط النار» (تث 4: 33-36).

ففي جبل حوريب ببرية سيناء، سمع الشعب صوت الرب ورأى عجائبه، وتسلَّم الشريعة بما فيها الوصايا العشر. وفي حوريب تمَّ إعطاؤهم مواصفات خيمة الاجتماع حسب المثال الذي رآه موسى على الجبل. وهناك أيضاً بُنيت خيمة الاجتماع، مسكن الله مع الناس. وأمضوا في حوريب نحو سنة إلاَّ عشرة أيام، وهي المدة التي قضوها هناك منذ وصولهم إلى سيناء في اليوم الأول من الشهر الثالث من السنة الأولى لخروجهم من أرض مصر (خر 19: 1)، حتى اليوم العشرين من الشهر الثاني من السنة الثانية للخروج (عد 10: 11)، عندما كلَّمهم الرب الإله قائلاً: «كفاكُم قُعُودٌ في هذا الجبل». وكانت علامة الرب لهم لارتحالهم من حوريب، هو ارتفاع عمود السحاب عن خيمة الاجتماع (عد 10: 11).

لم يكن قد مضى على خروجهم من مصر سوى أقل من سنة. وهوذا الرب يستحثهم على الارتحال لدخول الأرض التي وعدهم بها. فبالرغم من كل التعزيات والخبرات المقدسة التي نالوها في حوريب، إلاَّ أن الله يريدهم أن يتحوَّلوا عنها ويرتحلوا منها لكي يدخلوا إلى خبرات أعظم ويرثوا بركات أكثر. فالله لا يريدنا أن نقبع ونستريح راضين بما أخذناه من بركات روحية، غير راغبين في الامتداد إلى ما هو قدَّام، وكأن لسان حالنا يقول: «يا رب، جيد أن نكون ههنا» (مت 17: 4)، ولكنه يرجو لنا دائماً أن ننمو ونمتد ناظرين إلى الجعالة العُليا والمجد العتيد أن يُستعلَن فينا.

إذن، فقد كان قصد الله أن يُدخِلهم أرض كنعان ويُورِّثهم الأرض التي وعد بها آباءهم مباشرة بعد أن أكمل لهم عهده الذي أبرمه معهم في جبل سيناء وسلَّمهم شريعته، وأعطاهم خيمة الاجتماع لكي تكون مسكناً له في وسطهم. لذلك قال لهم بعد ذلك مباشرة:

+ «كفاكُم قُعُودٌ في هذا الجبل. تحوَّلوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من العَرَبة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. انظر قد جعلتُ أمامكم الأرض، ادخلوا وتملَّكوا الأرض التي أقسم الربُّ لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يُعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم».

كان أمر الرب لهم بعد أقل من سنة من خروجهم من مصر، أن يرتحلوا لكي يرثوا الأرض التي وعد بها آباءهم إبراهيم وإسحق ويعقوب (انظر تك 12: 7؛ 15: 8؛ 17: 8،7؛ 26: 4؛ 28: 13). وهو يصف لهم هنا مدى اتساع هذه الأرض التي كانت تُسمَّى أولاً أرض كنعان، ولكنها أصبحت تضم حينذاك ”جبل الأموريين“ الذين احتلوا المنطقة جنوبي فلسطين وكان لهم هناك فيها خمسة ملوك عندما جاء يشوع لامتلاكها (يش 10: 5)، ثم ما يلي ذلك ابتداءً من ”العربة“: وهي المنحدر الكبير الذي يجري فيه نهر الأردن، و”أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات“: ويُقصد بها فلسطين بوجه عام، وهي الأراضي التي كان يسكنها الكنعانيون، والمنطقة الممتدة من حدود لبنان الشرقية حتى نهر الفرات.

تكاثـُر الشعب وتضاعُف الحِمل على موسى، وتعيينه رؤساء للشعب لمعاونته:

+ «وكلَّمتكم في ذلك الوقت قائلاً: لا أقدر وحدي أن أحملكم. الربُّ إلهكم قد كثَّركم. وهوذا أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة. الربُّ إله آبائكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة ويُبارككم كما كلَّمكم. كيف أحمل وحدي ثقلكم وحِملكم وخصومتكم؟ هاتوا من أسباطكم رجالاً حكماء وعقلاء ومعروفين فأجعلهم رؤوسكم. فأجبتموني وقلتم: حسنٌ الأمر الذي تكلَّمتَ به أنْ يُعمَل. فأخذتُ رؤوس أسباطكم، رجالاً حكماء ومعروفين وجعلتهم رؤوساً عليكم، رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات وعُرفاء لأسباطكم. وأمرتُ قضاتكم في ذلك الوقت قائلاً: اسمعوا بين إخوتكم واقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه ونزيله. لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء. للصغير كالكبير تسمعون. لا تهابوا وجه إنسان لأن القضاء لله. والأمر الذي يَعسِرُ عليكم تُقدِّمونه إليَّ لأسمعه. وأمرتكم في ذلك الوقت بكل الأمور التي تعملونها» (تث 1: 9-18).

بدأ موسى يشعر بزيادة الحِمل عليه لأول مرة حينما زاره يثرون حماه، ورآه يجلس من الصباح إلى المساء ليقضي للشعب، فنصح موسى بأن ينظر من جميع الشعب معاونين أُمناء يُقيمهم عليهم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات، فيقضون للشعب كل حين. أما الدعاوي العسيرة فتُعرض عليه (خر 18: 13-27).

ويُعلِّق القديس أغسطينوس على ذلك قائلاً:

[أَلَم يتكلَّم الله مع موسى؟ ومع ذلك فإنه بحكمة عظيمة وتحرُّر تام من نزعة الكبرياء، تقبَّل خطة حميه الغريب الجنس، لتدبير شئون الأمة العظيمة التي عُهِدَ إليه بخدمتها! لأن موسى عَلِمَ أن خطة حكيمة كهذه مهما كان الذهن الذي تفتَّق عنها، وجب أَلاَّ تُعزَى إلى الرجل الذي نصح بها، بل إلى ذاك الذي هو الحق، الذي هو الله الذي لا يعتـريه تغيير](1).

أما المرة الثانية التي أحس فيها موسى بثقل المسئولية المُلقاة على عاتقه، فقد كانت حينما تذمَّر الشعب على موسى وبكوا قائلين: «مَن يطعمنا لحماً... والآن قد يبست أنفسنا، ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن... فلما سمع موسى الشعب يبكون... فقال موسى للرب: ... لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جميع هذا الشعب لأنه ثقيل عليَّ... فقال الرب لموسى: اجمع إليَّ سبعين رجلاً من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنهم شيوخ الشعب وعرفاؤه، وأَقْبـِل بهم إلى خيمة الاجتماع، فيقفوا هناك معك. فأنزل أنا وأتكلَّم معك هناك، وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم، فيحملون معك ثقل الشعب، فلا تحمل أنت وحدك» (عد 11: 4-17).

ويُعلِّق العلاَّمة أوريجانوس على ذلك قائلاً:

[قال الكتاب: إن الله أخذ من الروح الذي على موسى وأعطى منه للسبعين شيخاً. ولما حلَّ عليهم الروح تنبَّأ الجميع (عد 11: 25)... فموسى والروح الذي كان عليه يمكن تشبيهه بمصباح ذي لمعان شديد الإضاءة ومنه أضاء الله سبعين مصباحاً آخرين، وهكذا انتشر لمعان المصباح الأول على السبعين مصباحاً الآخرين دون أن ينقص شيء من لمعان المصباح الأصلي...](2).

لقد نما الشعب وتكاثر جداً حتى صار عدده يربو على الثلاثة ملايين نسمة، وتمَّ فيه وعد الرب لإبراهيم حينما قال له: «انظر إلى السماء وعُدَّ النجوم إنْ استطعتَ أن تعدَّها. وقال له: هكذا يكون نسلك» (تك 15: 5). وها قد تحقَّق الوعد، لذلك كرر لهم موسى هذا القول: «الرب إلهكم قد كثَّركم، وهوذا أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة. الرب إله آبائكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة ويُبارككم كما كلَّمكم».

ولكن موسى - أمام هذه الكثرة - ابتدأ يحس بعبء المسئولية المُلقاة على عاتقه في حمل هذا الشعب الغفير مع كثرة تذمُّراته ومتطلباته وخصومته. فطلب من الجماعة أن يختاروا من بينهم رجالاً حكماء من كل سبط فيجعلهم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات. وكانت وصيته لهم في ذلك الوقت أن يقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه، قائلاً: «لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء، للصغير كالكبير تسمعون. لا تهابوا وجه إنسان، لأن القضاء لله» (تث 1: 17).

وهنا تظهر خطورة مهمة القاضي، لأنه يأخذ عمل الله ومهمته في القضاء بين الناس، «لأن القضاء لله». فالله لا يطيق الظلم ولا الظالم، وقد سبق وأوصى في أحكامه التي جاءت في سفرَي الخروج واللاويين:

+ «لا تُسِئْ إلى أرملة ما ولا يتيم. إن أسأتَ إليه فإني إن صرخ إليَّ أسمع صراخه، فيحمى غضبي وأقتلكم بالسيف. فتصير نساؤكم أرامل وأولادكم يتامى» (خر 22: 22-24).

+ «لا تُحرِّف حق فقيرك في دعواه. ابتعد عن كلام الكذب، ولا تقتل البريء والبار، لأني لا أُبرِّر المذنب» (خر 23: 7،6).

+ «لا ترتكبوا جوراً في القضاء. لا تأخذوا بوجه مسكين ولا تحترم وجه كبير، بالعدل تحكم لقريبك» (لا 19: 15).

وكما أوصى موسى القضاة في العهد القديم أن يحكموا بالعدل وحذَّرهم من الظلم وأن لا يأخذوا بالوجوه، كذلك أوصت الكنيسة رعاتها بذلك. فقد جاء في تعاليم الآباء الرسل:

[لأن الكهنة وحدهم قد استؤمنوا على أن يكون لهم سلطة القضاء، لأن لهم قد قيل: «اقضوا بالحق» (تث 1: 16)، وأيضاً «اقضوا قضاء الحق واعملوا إحساناً ورحمة كل إنسان مع أخيه» (زك 7: 9). أما أنت فلم يُعهَد إليك بذلك؛ بل على العكس، فإنه قد قيل لأولئك الذين لم ينالوا كرامة الخدمة والرعاية: «لا تدينوا لكي لا تُدانوا» (مت 7: 1)](3).

كما قيل أيضاً بخصوص الأساقفة في تدبيرهم لرعيتهم:

[ينبغي أن يكون الأسقف غير ناظر للوجوه، فلا يُبالغ في التوقير أو الإطراء للأغنياء بخلاف الحقيقة، ولا يتعالى على الفقير أو يحتقره... لأن الله يقول لموسى: «لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء، للصغير كالكبير تسمعون، لا تهابوا وجه إنسان لأن القضاء لله» (تث 1: 17؛ وانظر أيضاً لا 19: 15)... لأن الرب يسوع يقول: «فتِّشوا الكتب... وهي التي تشهد لي» (يو 5: 39). وأيضاً: «لأن موسى كتب عني» (يو 5: 46). ولكن، ينبغي عليه - فوق كل شيء - أن يُميِّز بعناية بين القانون الأساسي والأحكام الإضافية، ويُبيِّن أيّاً منها هي الأحكام المعيَّنة للمؤمنين، وما هي الأحكام التي تربط غير المؤمنين، لئلا يقع أحد تحت هذه القيود. فكُن حريصاً، إذن، أيها الأسقف، أن تدرس جيِّداً الكلمة، لكي تكون قادراً على توضيح كل شيء بدقة، ولكي يمكنك أن تُغذِّي شعبك بالتعاليم الغزيرة، وتنيرهم بنور الناموس، لأن الله يقول: «استنيروا بنور المعرفة، طالما أُتيحت لنا الفرصة» (هو 10: 12 حسب السبعينية)](4).

(يتبع)

(1) NPNF, 1st series, Vol. II, on Christian Doctrine, Preface, p. 7.

(2) Origen, On Numbers, Hom. 6:2 (PG 12,608).

(3) Const. of The Holy Apostles, Book II, Sec. IV,XXXVI (ANF, Vol. VII, p. 314).

(4) Const. of The Holy Apostles, Book II, Sec. IL,V (ANF, Vol. VII, p. 397).