ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (26: 1-36: 13)
المرحلة الثانية: من برية سيناء إلى قادش برنيع: (عد 33: 16-18) كانت مدة إقامة بني إسرائيل في برية سيناء، المحطة الأخيرة للمرحلة الأولى من رحلة خروجهم من مصر، نحو أحد عشر شهراً وعشرين يوماً. وفي خلالها تراءى لهم مجد الرب على جبل الله حوريب، وسمعوا صوته وهو يُخاطبهم من وسط الرعود والبروق والسحاب الثقيل الذي غطَّى الجبل، بينما كان صوت بوقٍ شديد جداً يتردَّد صداه في كل أنحاء البرية، والجبل كله يُدخِّن ويرتجف وصعد دخانه كدخان الأتون المتقد بالنار، وصوت البوق يزداد اشتداداً، وموسى يتكلَّم والله يُجيبه بصوت. ثم كلَّم الله الشعب بجميع كلمات الوصايا العشر. ولكن الشعب استعفوا من سماع صوت الرب لأنهم خافوا جداً، «وقالوا لموسى: تكلَّم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلَّم معنا الله لئلا نموت» (خر 20: 19). ثم صعد موسى على جبل سيناء وظل هناك أربعين نهاراً وأربعين ليلة مع الرب، حيث تسلَّم الوصايا العشر مكتوبة على لوحين من الحجر بأُصبع الله، وبعض فرائض الشريعة وأحكامها. كما تسلَّم جميع مواصفات خيمة الاجتماع، مسكن الله في وسط شعبه، وأمره أن يصنعها حسب المثال الذي أراه له على الجبل. وقبل أن يرحل الشعب من سيناء أتمَّ إقامة الخيمة في اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الثانية لخروجهم من مصر (خر 40: 2)؛ إلاَّ أنه في برية سيناء أيضاً، كانت السقطة الكبرى للشعب، عندما كان موسى على الجبل وغاب عنهم، فقد صنع لهم هارون العجل الذهبي وعبدوه قائلين: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (انظر خر 32). ولكن الله في سرده لمراحل رحلتهم التي أمر موسى بتسجيلها في سِفْر تذكرة أمامهم، لم يشأ أن يذكر شيئاً منها، لأنه كان يريد أن يريهم أنه قد صفح عن كل خطاياهم من أجل كثرة رحمته، ولا يعود يذكرها لهم. + «ثم ارتحلوا من برية سيناء ونزلوا في قَبْروت هَتَّأوَة. ثم ارتحلوا من قبروت هتَّأوة ونزلوا في حَضَيْرُوت» (عد 33: 17،16). «في السنة الثانية من الشهر الثاني في العشرين من الشهر، ارتفعت السحابة عن مسكن الشهادة. فارتحل بنو إسرائيل في رحلاتهم من برية سيناء، فحلَّت السحابة في برية فاران» (عد 10: 12،11). لأنه هكذا كان أمر الرب لهم أن لا يرتحلوا إلاَّ عند ارتفاع السحابة عن المسكن: «وإن لم ترتفع السحابة لا يرتحلون إلى يوم ارتفاعها» (خر 40: 37). ويُرجَّح أن حوباب صهر موسى رافقهم في ترحالهم بناء على طلب موسى منه (عد 10: 29). وقد استغرقت مسيرة الشعب في ترحاله من برية سيناء إلى برية فاران ثلاثة أيام، كما جاء في الأصحاح العاشر من سفر العدد: «فارتحلوا من جبل الرب مسيرة ثلاثة أيام، وتابوت عهد الرب راحلٌ أمامهم مسيرة ثلاثة أيام ليلتمس لهم منزلاً. وكانت سحابة الرب عليهم نهاراً في ارتحالهم من المحلة» (عد 10: 34،33). وكان موسى الراعي الأمين على رعية الله، يراقب بعيون مفتوحة وقلب مستعد كل تحرُّكات تابوت العهد، وهو يلهج بهذه الصلاة عند ارتحال التابوت: «قُم يا رب، فلتتبدَّد أعداؤك، ويهرب مبغضوك من أمامك». وعند حلوله في أي موضع كان يُصلِّي قائلاً: «ارجع يا رب، إلى ربوات ألوف إسرائيل» (عد 10: 36،35). وقد استخدمت كنيسة العهد الجديد نفس هذه الطلبات في صلواتها التي يقولها الكاهن أثناء تقديمه البخور حول المذبح قائلاً: [قُم أيها الرب الإله، ولتتفرَّق جميع أعدائك، وليهرب من قدَّام وجهك كل مُبغضي اسمك القدوس. أما شعبك فليكن بالبركة ألوف ألوف وربوات ربوات، يصنعون إرادتك المقدسة]. وهنا يتجاوز الوحي أيضاً عن قصد ذِكر الموضع الذي دُعِيَ اسمه ”تبعيرة“ بالعبرية أي ”اشتعالاً“، لأن نار الرب اشتعلت في الشعب الذين تذمَّروا، فأحرقت النار بعضاً منهم في طرف المحلة. ولما صرخوا إلى موسى، صلَّى إلى الرب، فخمدت النار (عد 11: 2). ولكن، لم تكد النار أن تخمد، حتى بدأ تذمُّر جديد من جماعة من الشعب دعاها الكتاب ”اللفيف“، وهم المصريون الدخلاء الذين خرجوا مع بني إسرائيل من مصر، وربما كانوا من المصريين الذين تزوَّجوا من إسرائيليات أو لعلَّهم من الشعوب الذين انضموا إليهم أثناء عبورهم في البرية مثل بني مديان. وقد كان تذمُّرهم من أجل شهوة الأطعمة قائلين: «مَن يُطعمنا لحماً. قد تذكَّرنا السمك الذي كنَّا نأكله في مصر مجاناً (من النيل)، والقثاء والبطيخ والكُرَّاث والبصل والثوم» (عد 11: 5،4). ويبدو أن تذمُّرهم انتشر كالعدوى بين جميع الشعب، حتى أن موسى سمع «الشعب يبكون بعشائرهم، كل واحد في باب خيمته. وحَمِيَ غضب الرب جداً» (عد 11: 10). فصغرت نفس موسى جداً وطلب الموت لنفسه، لأنه لا يقدر وحده أن يحمل نير هذا الشعب. فعيَّن له الرب سبعين شيخاً من إسرائيل ليحملوا معه ثقل الشعب. كما وعد الرب موسى بأن يُعطي الشعب لحماً ليأكلوا حتى يُتخموا، لا يوماً واحداً بل شهراً من الزمان حتى يخرج من أنوفهم. ثم هبَّت ريح من قِبَل الرب «وساقت سلوى من البحر وألقتها على المحلة... فقام الشعب كل ذلك النهار وكل الليل وكل يوم الغد، وجمعوا السلوى... وإذ كان اللحم بعد بين أسنانهم قبل أن ينقطع، حَمِيَ غضب الرب على الشعب. وضرب الرب الشعب ضربةً عظيمة جداً. فدُعِيَ اسم ذلك الموضع ”قبروت هتَّأوة“، لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا» (عد 11: 20-34). فهذا الاسم معناه: ”قبور الشهوة“ أو ”قبور الشهوانيين“. وقد تجاوز الرب أيضاً ذِكْر هذه الحادثة التي لا تُنسى في سرده لمحطات رحلتهم إلى أرض الموعد، وانتقل منها مباشرة إلى ذِكْر المحطة التالية ”حضيروت“. فقد وصلوا إليها بعد تركهم لقبروت هتَّأوة. وفيها تكلَّمت مريم وهارون على أخيهما موسى بالنميمة، فضرب الرب مريم بالبَرَص. وأقاموا بها سبعة أيام على الأقل، لأن مريم حُجـِزَت سبعة أيام خارج المحلة: «ولم يرتحل الشعب حتى أُرجـِعَت مريم. وبعد ذلك ارتحل الشعب من حضيروت ونزلوا في برية فاران» (عد 12: 16،15). و”حضيروت“ معناها ”قُرى“، وربما تكون مشتقَّة من كلمة ”حَضَر“ بالعربية. ويرى بعض علماء الكتاب أنها ”عين خضرة“ التي تقع شمال جبل سيناء بنحو ستة وثلاثين ميلاً. + «ثم ارتحلوا من حَضَيْرُوت ونزلوا في رِثـْمَة» (عد 33: 18). تقع رِثـْمَة في برية فاران التي وصلوا إليها بعد أن ارتحلوا من حضيروت. ويبدو أن اسمها مشتقٌّ من شجر الرِّثـْم الذي يكثر فيها. وواضح أنه بوصولهم إلى برية فاران صاروا قريبين لأرض كنعان، أرض الموعد التي كانوا يحلمون بها منذ خروجهم من مصر، فقد كانت برية فاران في أقصى الجنوب من أرض كنعان، التي ظلوا يتوقون إليها طوال السنتين اللتين سلكوا خلالها كل ذلك القفر العظيم. ويحكي موسى النبي، في بداية سفر التثنية - كما ذكرنا سابقاً في شرحنا للأصحاح الثالث عشر من سفر العدد - هذه الحقبة من رحلة بني إسرائيل قائلاً: + «ثم ارتحلنا من حوريب (في جبل سيناء) وسلكنا كل ذلك القفر العظيم المخوف... فقلتُ لكم: ... انظر، قد جعل الرب إلهك الأرض أمامك. اصْعَد تملَّك كما كلَّمك الرب إله آبائك. لا تخف ولا ترتعب... فأخذتُ منكم اثني عشر رجلاً، رجلاً واحداً من كل سبط. فانصرفوا وصعدوا إلى الجبل وأتوا إلى وادي أشكول وتجسَّسوه. وأخذوا في أيديهم من أثمار الأرض ونزلوا به إلينا وردُّوا لنا خبراً، وقالوا: جيدةٌ هي الأرض التي أعطانا الرب إلهنا. لكنكم لم تشاءوا أن تصعدوا وعصيتم قول الرب إلهكم، وتمرمرتم في خيامكم وقلتم: الربُّ بسبب بُغضته لنا قد أخرجنا من أرض مصر ليدفعنا إلى أيدي الأموريين لكي يُهلكنا. إلى أين نحن صاعدون؟ قد أذاب إخوتنا قلوبنا قائلين: شعبٌ أعظم وأطول منا، مدن عظيمة مُحصَّنة إلى السماء، وأيضاً قد رأينا بني عناق هناك. فقلتُ لكم: لا ترهبوا ولا تخافوا منهم... وسمع الرب صوت كلامكم، فسخط وأقسم قائلاً: لن يرى إنسانٌ من هؤلاء الناس من هذا الجيل الشرير الأرض الجيدة التي أقسمتُ أن أُعطيها لآبائكم، ما عدا كالب بن يَفُنَّة، هو يراها وله أُعطي الأرض التي وطئها ولبنيه، لأنه قد اتَّبَع الرب تماماً. وعليَّ أيضاً غضب الرب بسببكم قائلاً: وأنت أيضاً لا تدخل إلى هناك. يشوع بن نون الواقف أمامك، هو يدخل إلى هناك، شدِّده لأنه هو يَقسِمها لإسرائيل. وأما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة وبنوكم الذين لم يعرفوا اليوم الخير والشر، فهم يدخلون إلى هناك ولهم أُعطيها وهم يملكونها. وأما أنتم فتحوَّلوا وارتحلوا إلى البرية على طريق بحر سوف» (تث 1: 19-40). وهكذا يتضح أنه عند قادش (التي تعني مقدس) كانت نقطة التحوُّل الفاصلة في تاريخ رحلة بني إسرائيل نحو أرض الموعد، التي جاءت بعد تجسُّسهم للأرض وعصيانهم لأمر الرب لهم بأن يصعدوا لتملُّكها. وإذ عصوا أتاههم في البرية ثمانية وثلاثين سنة أخرى حتى مات كل الجيل الذين لم يطيعوا أمر الرب وشكُّوا في قدرته على نصرتهم على أعدائهم. ولكن الرب هنا، في سرده لمحطات رحلتهم في البرية لم يذكر هذه الحادثة ولا اسم المحطة بل تجاوزها، وكأنه لم يشأ أن يُذكِّرهم بها بعد أن مات أغلب الجيل الذي تسبَّب في هذه المأساة. المرحلة الثالثة: من قادش برنيع إلى عصيون جابر: (عد 33: 19-35) ذُكِرَت محطات كثيرة في هذه المرحلة لم يأتِ ذكرها من قبل في سفر العدد ولا أتى ذِكْرها فيما بعد في سفر التثنية سوى بعض المحطات القليلة مثل: مسيروت وبني يعقان وحور الجدجاد ويطبات (عد 33: 30-33؛ انظر تث 10: 7،6؛ 19: 6). وهذه هي فترة التيه العظيمة التي استغرقت ثمانية وثلاثين سنة، عادوا فيها إلى البرية على طريق بحر سوف، بعد أن وصلوا بالقرب من أرض الميعاد عند قادش في الطرف الشمالي الشرقي من برية فاران (التي تُدعى الآن هضبة التيه، وهي تُدعى أيضاً برية صين). المرحلة الرابعة: من عصيون جابر إلى قادش ثانيةً: + «ثم ارتحلوا من عِصيون جابر ونزلوا في برية صين وهي قادش» (عد 33: 36). عاد بنو إسرائيل للمرة الثانية إلى قادش، التي تُدعى أيضاً برية صين - كما ذكرنا سابقاً - وكان وصولهم إليها في الشهر الأول من السنة الأربعين لخروجهم من مصر (عد 20: 1). وقد حدث أثناء وجودهم في قادش للمرة الأخيرة عدة أحداث هامة: أولاً: موت مريم أخت هارون وموسى (عد 20: 1)، ودُفنت هناك. ثانياً: تذمَّر الشعب على موسى وهارون بسبب انعدام الماء في تلك البرية، قائلين: «لماذا أصعدتمانا من مصر لتأتيا بنا إلى هذا المكان الرديء؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان، ولا فيه ماء للشرب!» (عد 20: 5) ثالثاً: سقط موسى وهارون على وجهيهما أمام الرب في خيمة الاجتماع، طالبَيْن النجدة أمام تذمُّر الشعب. فأمر الرب موسى بأن يأخذ العصا ويجمع الجماعة هو وهارون أخوه، ويُكلِّما الصخرة أمام أعينهما أن تُعطي ماءها. فهي الصخرة ذاتها التي سبقت أن أعطتهم ماءً من قبل. ولكن موسى وهارون، بسبب ضيقة نفسيهما أمام الشعب المتمرِّد، لم يُمجِّدا الرب أمام أعين بني إسرائيل؛ بل انفعلا مقابل تذمُّرهم ونطقا قائلَيْن: «أَمِن هذه الصخرة نُخرج لكم ماء؟ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها» (عد 20: 11،10). وقد سبق أن ذكرنا في شرحنا للأصحاح العشرين من سفر العدد(1) أن الرب غضب على موسى وهارون، لأنهما لم يُمجِّدا الرب أمام الشعب بشكِّهما في قدرته على إعطاء الصخرة ماءها بمجرد أن يُكلِّماها، وحرمهما من الدخول بالشعب في أرض الموعد. وقد ظلَّت هذه الحادثة توخِز ضمير موسى حتى آخر أيامه، ولم تغرب عن ذاكرته قط، حتى أنه ذكرها للشعب في نهاية حياته قائلاً: «وعليَّ أيضاً غضب الرب بسببكم قائلاً: وأنت أيضاً لا تدخل إلى هناك» (تث 1: 37). كما ذُكِرَت في سفر المزامير هكذا: «وأسخطوه على ماء مريبة حتى تأذَّى موسى بسببهم، لأنهم أَمَرُّوا روحه حتى فرَّط بشفتيه» (مز 106: 33،32). رابعاً: كان الشعب على حدود بلاد أدوم، حيث كان يسكن بنو عيسو أخي يعقوب. فأرسل موسى إلى ملك أدوم يستأذنه بمرور الشعب في أرضه لكي يُكمِّلوا مسيرتهم إلى أرض الموعد. ولكن ملك أدوم أَبَى أن يسمح لهم بمجرد المرور في أرضه، بل هدَّدهم بالخروج لمحاربتهم. (يتبع) |
||||
(1) انظر: دراسة الكتاب المقدس، عدد أبريل عام 2005، ص 16. |