نبدأ بالحديث عن أول أسرار الكنيسة السبعة، وهو سر المعمودية المقدسة. ولكن قبل أن نتحدث عن هذا السر، لابد أن نوضِّح للقارئ الإطار الذي سنتكلَّم فيه عن الأسرار الكنسية حتى لا يكون السر الكنسي مجرد ممارسة مقطوعة ومنفصلة عن هذا الإطار. هذا الإطار هو ”الكنيسة جسد المسيح“. ففي الكنيسة جسد المسيح نحن نتعمَّد لكي نصير أعضاء أحياء بالحياة الجديدة التي لجسد المسيح. وفي هذه الحياة الجديدة ننال عمل المسيح الخلاصي الذي تمَّ مرة واحدة ومن أجل الجميع على الصليب وفي القيامة والصعود، من مغفرة لخطايانا تأهيلاً لهذه الحياة الجديدة؛ إلى تحقيق شخصي لكل ما أتمَّه المسيح للطبيعة البشرية ككلٍّ على الصليب وفي القيامة والصعود، حينما مات وقام وصعد بنا سرِّياً وتدبيرياً، وأدخلنا إلى حضرة الآب القدوس مُطهَّرين مُبرَّرين متقدِّسين. هذه الشركة والاتحاد بالطبيعة البشرية من جانب ابن الله الكلمة التي تمَّت في سرِّ التجسُّد، تمَّت بمشيئة وإرادة الابن الوحيد وبفعل التجسُّد الذي تمَّ بمبادرة فردية من الآب وبدون مشيئة أو طلب منا. هذه الشركة تتحقَّق على مستوى أشخاصنا في أسرار الكنيسة وبإرادة الإنسان البشري التي يُسميها المسيح ”الإيمان“، الذي ليس هو فقط مجرد تصديق وقبول ما عمله المسيح من أجلنا في القديم؛ بل هو بالإضافة إلى هذا، التسليم والخضوع لعمل الروح القدس الذي يحلُّ فينا في كل سرٍّ، ليُتمم فينا شخصياً هذه الشركة والاتحاد بالمسيح في أعماله الخلاصية التي يُتممها فينا يوماً فيوماً من خلال الأسرار، وذلك بالممارسة التي نتمِّمها في كل سر من أسرار الكنيسة. وهكذا نكون مُهيَّئين لحلول أكثر وامتلاء مستمر من الروح القدس: يقول الأب متى المسكين في كتابه ”الباراكليت - الروح القدس في حياة الناس“، في فصل الحلول بالأسرار: [وهكذا تصير هياكلنا روحية مهيَّأة ومقدسة لحلول أكثر وامتلاء من الروح، حتى أن الرب يقول إنه يأتي «وأتعشَّى معه» (رؤ 3: 20)، وفي موضع آخر يقول: «إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 23)، لأن الهيكل البشري إذا تقدَّس بفعل الأسرار بعمل نعمة الروح القدس، فإنه يصير موضعاً لله يستريح فيه... فنحن بالأسرار نصير منزلاً مهيَّأً لسُكنى الله. والروح القدس لا يكف عن أن يُعطينا في كل سر تقديساً ونمواً غير منظور](1). لذلك، فإن ممارستنا للأسرار ليست مجرد ممارسة روتينية لإرضاء الضمير، أو لننال ”بركة“، أو لنظهر أننا مسيحيون، أو ...، أو ... إلى آخر هذه الإحساسات والتبريرات التي يظنها البعض في أنفسهم، دون أن يكونوا عارفين بعظمة النِّعَم وسموِّها التي ننالها بالأسرار، وأعظمها: ”سُكنى الله فينا“، و”امتلاؤنا المستمر من الروح القدس“. دور الإرادة والوعي والمشيئة لمفهوم السرِّ الكنسي: وهكذا يقول الأب متى المسكين إنه يلزم أن تكون الإرادة واعية لمفهوم السر، وتكون المشيئة حاضرة باشتياق للخلاص، وإلاَّ لا يحدث حلول من النعمة إطلاقاً. ولكن لا يظن أحد أيضاً أو يفتخر بأن النعمة تنسكب علينا في الأسرار عن استحقاق منا (لذلك دائماً يُصلِّي الكاهن ويطلب لنا ”أن نكون مستحقين“ لنوال هذا السر أو ذاك)، ولا عن إرادة الإنسان فقط؛ وإنما يلزم أن تتلاقى معاً: إرادة الإنسان مع إرادة الله الذي يريد أن يجمع الناس تحت جناحيه: «كم مرة أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا» (مت 23: 37)، ويتلاقى اشتياق الإنسان للخلاص مع إرادة الله للخلاص: «الذي يريد أن جميع الناس يخلصون» (1تي 2: 4)، ومع إرادة الروح القدس ليملأنا: «امتلئوا بالروح» (أف 5: 18). - لذلك نحث ونوجِّه نظر الآباء الكهنة والخدَّام أن يوعُّوا الشعب في كنائسهم دائماً إلى هذه المفاهيم عن الأسرار الكنسية، ليجني المؤمنون الفائدة الحقيقية من ممارستهم لها. ويسبق هذا الملء للنفس، استنارة الإنسان بكلمة الله: وهنا تبرز أهمية استنارة الإنسان بكلمة الله التي تُتلى علينا بقراءة الإنجيل قبل إجراء السر الكنسي، ذلك لأن تفتُّح الوعي الروحي للمصلِّي يؤهِّله أن يتقبَّل السرَّ الكنسي، إذ يُهيئ مشيئته ويُحرِّضها على الاشتياق للخلاص. فحلول الروح القدس في ذهن الإنسان بسماعه كلام الإنجيل الذي يُتلى قبل صلوات الأسرار، هو أساس لحلول الروح القدس في هيكل الإنسان بالأسرار للتقديس(2). - لذلك فحضور المؤمنين خدمة الأسرار منذ بدايتها، تؤهِّلهم لسماع الإنجيل المقدس، وبالتالي تنير ذهنهم بحلول الروح القدس فيهم، لتهيئتهم بالتالي لحلول الروح القدس بالسرِّ الكنسي ليعمل عمله ويُعطي عطاياه حسب كل سرٍّ كنسي يناله المؤمنون. - وليت الآباء الكهنة والوعَّاظ والخدَّام يوعُّون المؤمنين دائماً في عظاتهم وتعليمهم إلى الصلة الجوهرية لقداس الكلمة (حيث تُتلى الرسائل وأعمال الرسل والإنجيل على مسامع المؤمنين) مع قداس المؤمنين، دون أن يكون حثُّهم للمؤمنين على سبيل الأمر والفرض، بل بالشرح والإقناع؛ متفادين الإلزام عن طريق العقوبات بعدم التناول، بل مستخدمين برهان الروح والقوة لكي يكون كلامهم بقوة الله وليس بحكمة الناس (1كو 2: 5،4)، فيؤتي ثماره وهي إقبال المؤمنين بفرح إلى الكنيسة. + وقبل أن نبدأ في الحديث عن سر المعمودية نذكر المراجع الهامة عن الأسرار التي يجب أن تكون أمام ذهن القارئ دائماً ونحن نتكلَّم عن أسرار الكنيسة السبعة لتكتمل الفائدة: + الباراكليت - الروح القدس في حياة الناس. + العنصرة - يوم الخمسين. + المعمودية - الأصول الأولى للمسيحية. + الإفخارستيا - عشاء الرب. وكلها كتب للأب متى المسكين الذي أُعطِيَ نعمة خاصة لإنارة أذهان المؤمنين لأعماق معاني الأسرار الكنسية كما استعلنها له الله بالروح القدس، وباستلهام كتابات آباء الكنيسة الأبرار وتعاليمهم المقدسة. +++++++++++ ++++++ +++ سر المعمودية أول أسرار الكنيسة المقدسة هو سر المعمودية. وهو بمثابة الباب المؤدِّي إلى ملكوت النعمة، أي الكنيسة بكل الأسرار المقدَّمة فيها، وهو المدخل إلى اشتراك المؤمن في باقي الأسرار السبعة. ومنذ ما قبل تأسيس سر المعمودية، أشار الرب يسوع في حديثه مع نيقوديموس إلى الضرورة المطلقة للمعمودية من أجل الخلاص: «الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولَد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (يو 3: 3). ولما تحيَّر نيقوديموس وسأل رب المجد: «كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ» (يو 3: 4)؟ ردَّ عليه الرب قائلاً: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 3: 5). وعمَّق الرب مفهوم الولادة من فوق ومن الماء والروح، فقال له: «المولود من الجسد جسدٌ هو (الولادة الأولى من بطن الأُم الجسدية)، والمولود من الروح هو روح (الولادة الثانية من بطن الكنيسة الأُم الروحية)» (يو 3: 6). وأما إعلان تأسيس هذا السرِّ الواهب نعمة الحياة الجديدة، فقد حدث بعد قيامة الرب من بين الأموات، حينما تراءى لتلاميذه وقال لهم إنه قد نال من الآب كل سلطان في السماء وعلى الأرض، وأكمل قائلاً: «فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20،19). ويُلاحَظ هنا عدة ملاحظات تختص بسرِّ المعمودية وكافة الأسرار في الكنيسة: 1. إن إعلان تأسيس سرِّ المعمودية تمَّ بعد قيامة المسيح ونواله كل سلطان من الآب لإعطاء الحياة الجديدة الأبدية للبشر، انطلاقاً من قيامته المجيدة من بين الأموات، حاملاً البشرية الجديدة في جسده. 2. إن الاستنارة بكلمة الله لازمة ومقترنة مع الاستنارة بمعمودية الماء والروح. 3. إن حضور المسيح الشخصي في أسرار الكنيسة بإجرائها وممارساتها مستمر دائماً كضمان أبدي لفيض نعمة الحياة الجديدة على البشر إلى الأبد. ثم أضاف المسيح إلى هذا (في إنجيل مرقس): «مَن آمن واعتمد خَلَصَ، ومَن لم يؤمن يُدَنْ» (مر 16: 16)، ما يُبيِّن ويؤكِّد أن أسرار الكنيسة ليست فروضاً أو ممارسات روتينية، بل يجب أن يسبقها ويتخلَّلها الإيمان - كما أوضحنا في مقدمة هذا المقال - كما أن عدم الإيمان هو مدعاة للدينونة، لأن الذي عُرضت عليه البشارة بهذا الغِنَى في محبة الله وبهذه الحياة الأبدية الجديدة، ولكنه لم يؤمن أو كان إيمانه ميتاً؛ يكون قد حَكَمَ على نفسه بأنه يريد أن يظل مولود الجسد الذي من التراب وإلى التراب يعود. الإيمان هنا ليس هو مجرد أن يكون الإنسان مسيحياً بالميلاد أو يمارس الأسرار كروتين أو كفرض أو كممارسة واجبة؛ بل الإيمان مع المعمودية هو البقاء والمكوث في جدَّة الحياة الجديدة بوعي المؤمن لأبعاد هذه الحياة، وبامتلائه المستمر من الروح القدس، غير معوِّق للروح أن يملأه ويملأه ويملأه، مُستعلناً ثمار الروح القدس واضحة جليَّة كرائحة المسيح الزكية للذين خلصوا بالإيمان والمعمودية، وللذين تعوَّق وتأخَّر خلاصهم لعدم إيمانهم. فهذا القانون موضوع للمؤمنين - لا لكي يدينوا الذين لم يؤمنوا - بل لكي يمتحنوا أنفسهم دوماً: هل هم في الإيمان حقاً وليس بالاسم، وذلك بأن يكون المسيح حياً وحاضراً فيهم بالروح القدس المتجدِّد مِلْؤه والمتكاثرة ثماره فيهم، فيكونوا نوراً وملحاً ورائحة زكية للذين خلصوا ولكن فَتَرَ إيمانهم أو فَنِيَ، وللذين لم يؤمنوا ولكن لم يروا أمامهم نوراً وملحاً ورائحة زكية للمسيح يجذبهم إلى الخلاص بالمسيح. استعلان تأسيس سر الولادة الجديدة من الماء والروح: أما استعلان وبدء ممارسة سرِّ المعمودية فقد تمَّ بالتحديد بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين، لأن المعمودية هي أصلاً الولادة من الروح القدس إلى الحياة الجديدة الأبدية. ففي يوم العنصرة، يوم الخمسين، حينما حلَّ الروح القدس على التلاميذ المجتمعين في العِلِّية في أورشليم، وبعد أن تكلَّم القديس بطرس لجموع اليهود المجتمعين في أورشليم، سأله المستمعون ماذا ينبغي عليهم أن يفعلوا ليخلصوا من حالة الموت الأبدي الذي يعيشون تحت سلطانه كأولاد الجسد، أجابهم القديس بطرس قائلاً: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس» (أع 2: 38،37). وفي نفس سفر أعمال الرسل، نجد حالات معمودية كثيرة حدثت بواسطة الرسل بعد امتلائهم من الروح القدس. فالقديس بطرس عمَّد كورنيليوس (الأصحاح العاشر)، والرسول بولس عمَّد ليديا وكل أهل بيتها (الأصحاح 16)، والسجَّان وكل أهل بيته، وحالات أخرى كثيرة تملأ سفر أعمال الرسل. معنى سر المعمودية: إن الجانب السرائري للنعمة المعطاة في المعمودية، يُشار إليه في آيات الإنجيل التي ورد ذكرها سابقاً. فالمعمودية هي ”ولادة جديدة“ أو ”خلقة جديدة“، وهي تُنال من أجل خلاص الإنسان كما ورد في وعد المسيح: «مَن آمن واعتمد خَلَص» (مر 16: 16). وبهذا المعنى تُسمَّى المعمودية أيضاً: «غَسْل (أو حميم) الميلاد الثاني» (تيطس 3: 5). وكلمة ”الميلاد الثاني“ تعني في نفس الوقت ”الخلقة الجديدة“، كما تُسمَّى ”تجديد الروح القدس“ في نفس آية رسالة تيطس 3: 5. كما تبرز معاني أخرى للنعمة المعطاة في المعمودية، حيث يشير الرسل في رسائلهم إلى أننا في المعمودية ”نتقدس“، ”نتطهَّر“، ”نتبرَّر“، ”نموت للخطية“ حتى يمكننا أن نسلك في جدَّة الحياة، ونحن ”نُدفَن مع المسيح“ و”نقوم معه“: «أَحَبَّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يُقدِّسها، مُطهِّراً إيَّاها بغسل الماء بالكلمة» (أف 5: 26،25)، ويقول ”بالكلمة“ أي بالكلمات التي تُتلى في صلوات المعمودية التي تجعل المسيح حاضراً يُعمِّد المؤمنين ويُقدِّسهم ويُطهِّرهم بيد الكاهن. وفي الرسالة الأولى لكورنثوس، يقول القديس بولس الرسول: + «لكن اغتسلتم، بل تقدَّستم، بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا» (1كو 6: 11). وفي الرسالة إلى أهل رومية، يقول القديس بولس الرسول: + «فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة» (رو 6: 4). الجانب الشخصي للمعمودية: يوضِّح هذا الجانب القديس بطرس الرسول الذي يدعو المعمودية: «... المعمودية تنجِّيكم الآن، لا بإزالة وسخ الجسد، بل بعهد صادق النية مع الله بقيامة يسوع المسيح» (1بط 3: 21 - الترجمة العربية الجديدة). فالمعمودية هي دخول شخصي في عهد الله الجديد مع البشر. - ومن خلال المعمودية، ينضم المؤمن إلى الكنيسة، ويصير مواطناً وعضواً متحداً بالجسد السرِّي السرائري للمسيح، الذي يتكون بسرِّ المعمودية (ويُستعلن جديداً في اجتماع المؤمنين حول سر الإفخارستيا وتناولهم منه). - كما ينال المعمَّد مغفرة عن خطاياه السالفة، إن كان بالغاً؛ أما إن كان طفلاً فعن آثار ونتائج خطية أبوينا الأوَّلين آدم وحواء، المسمَّاة الخطية الجدِّية، التي هي دخول الخطية إلى العالم، ثم الموت الأبدي، وأيضاً من خطاياه الشخصية، باعتبار أن ليس أحد بلا خطية حتى ولو كانت حياته يوماً واحداً على الأرض. (يتبع)
|
|||
(1) كتاب: ”الباراكليت - الروح القدس في حياة الناس“، الطبعة الرابعة 2002، صفحة 40. (2) كتاب: ”الباراكليت - الروح القدس في حياة الناس“، الطبعة الرابعة 2002، صفحة 39. |