+ «وُجـِدَ كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي» (إر 15: 16). الاستنارة في فهم الإنجيل: يقول أبونا متى المسكين: ”عندما دخلت الرهبنة (في دير الأنبا صموئيل) في سنِّ 30 سنة، بَدَأتُ أسهر على لمبة جاز نمرة 5، وكنتُ أحاول التقليل من إضاءة الشريط حتى لا يُستنفد الجاز، لأن تمويني في الشهر كان فقط ملء زجاجتين من الجاز، وكنتُ أريد أن أسهر كل ليلة. فقلتُ: يا رب، أعطني نعمة. وصلَّيتُ كثيراً حتى انفتح الإنجيل أمامي وصرتُ أستوعب كثيراً، فوجدتُ نور الإنجيل ومجده بقدرٍ كبير جداً فارتعبتُ. ثم شعرتُ بقوة الإنجيل وسلطانه في نفسي وعلى حياتي. فبعد أن أحسستُ بقوة التغيير تسري في جسمي وقلبي بصورة جارفة كل يوم، بدأتُ أبكي كثيراً، لماذا؟ لأنني قلتُ: يا رب، الإنجيل مليء بالذخائر، ومجرد آيات قليلة أخذتُ منها الكثير جداً، فمتى أنتهي من الكتاب بعهديه؟ فبدأتُ أحزن في نفسي وأكتئب وأدركتُ أنه بهذا المستوى فأنا محتاج إلى 100 أو 200 سنة بذهنٍ صافٍ جديد، وأنت عالم، يا رب، إن الذهن لن يمكث معي كثيراً، فإن عبدك يطلب منك يا سيدي أحد أمرين: إما أن تُطيل في عمري، أو تعطيني ذهن شاب لكي أستوعب الإنجيل كله، لأن حرام أنه يكون أمامي 10-12 سنة بعد سن الثلاثين، ثم يبدأ الذهن ينطفئ! يا ليتك تعطيني استيعاباً كثيراً جداً حتى تُعوِّضني فأستوعب في شهر ما كنتُ أستوعبه في سنة أو سنتين، وبغير ذلك سأكون حزيناً جداً. أريد أن أفرح بالإنجيل، وأخاف أن ينتهي عمري ولا أكمل استيعاب هذا الإنجيل بجماله...“! ”طبعاً تعرفون أنني تأملتُ في الإنجيل كله في العهدين وشبعتُ كثيراً إلى أقصى حدٍّ. وهذا هو سبب البركة في حياتي، وهو سبب عزائي، وهو الذي كان سَنَدي، وهو نوري وخلاصي، وكل كلمة وجدتُ فيها بهجةً لي. أفتح الإنجيل في أي موضع فأجد النور أمامي، عندما أكون مُتعباً أفتح الإنجيل فأجد راحتي تسبقني“. وفي إحدى الجلسات قال أيضاً: - ”من كثرة تأملي في كلمة الله، بدأ الإنجيل ينفتح أمامي آية وراء آية، شيء لا نهاية له. فقد ذُقتُ معنى قول داود النبي: «كلمتك حلوة في حلقي، أفضل من العسل والشهد في فمي» (مز 119)؛ إذ صارت كلمة الله أحلى من العسل والشهد، وهذا الطعم في فمي لم يُفارقني قط مدة من الزمن كأنني أكلتُ صفيحة عسل! أقول لكم ذلك لكي أؤكِّد لكم أن كلمة الله مذاقها بالفعل على المستوى الحسِّي أحلى من العسل، هذا ما اختبرتُه بنفسي“(2). ”والآن أُعْلمكم كيف كان ردُّ المسيح الحلو الطيب عليَّ؟ كان ردُّه أنه أعطاني هذه وتلك: أي طول العمر والذهن الذي يستوعب. لم أظن أن ذهني سيظل يستوعب أكثر من عشر سنوات، ولكنه أعطاني بسِعَة جداً، من سن 30 سنة حتى الآن. وها أنا كما ابتدأتُ في الإنجيل تماماً بعافيتي هي هي في ذهني وروحي. صدِّقوني أن الرب من حنانه لم يرضَ أن قلبي يشيخ، فإنني أقرأ كما كنت زمان بقوة روحية كما ابتدأتُ في الإنجيل“(3). ويقول أبونا متى المسكين في موضع آخر: ”كان الإنجيل هو أمنيتي التي خرجتُ من أجلها من العالم. كنتُ في العالم مشغولاً، وكنتُ أودُّ أن أهدأ لأقرأه بفهم وبوعي، وكان عملي يغطي يومي كله من 7 صباحاً إلى 11 مساءً. كنتُ أقول ربما أهدأ السنة القادمة، وتنتهي تلك السنة والتي بعدها، وهكذا كان الزمن يتآكل أمامي، ثم قلتُ: يستحيل أن العالم يغلبني، فلابد أن أتمتع بالمسيح والإنجيل. يستحيل أن يأخذ العالم مني شبابي والـ 24 ساعة كل يوم! عندما كنتُ أغيب عن عملي قليلاً، كان الناس يقومون بثورة، لأن عملي - كما تعلمون - كان متَّصلاً بالجمهور. فكيف أهرب وأنا عليَّ واجبات؟ فكنتُ حزيناً، ولكن كلما ازدادت واجباتي كلما كنتُ أتيقن بضرورة الخروج من العالم“. ”كانت أمنيتي الوحيدة أن أُعطي المسيح الـ 24 ساعة في اليوم كله، فظللتُ أصلِّي حتى فكَّني الرب من العالم وذهبتُ إلى الدير. وبدأتُ أقرأ في كتابي المقدس في العهدين وأتمتع، وازدادت قراءاتي من 30 إلى 50 أصحاح في اليوم، فحقَّقتُ شيئاً من فرحتي بالإنجيل. ولكن قابلتني مشكلة أحزنتني فبكيتُ، إذ أنني لما ابتدأتُ بسفر التكوين ووعيته جداً، وكنتُ أخطط بالأحمر تحت الآيات المهمة، حتى بَدَأتْ الآيات تدخل في حياتي؛ وجدتُ أن الذي حصَّلته كان قليلاً جداً! ثم أمسكت بسفر التكوين مرة ثانية، وأحضرتُ كراسةً وقلماً لم يكن يوجد غيرهما في الدير، لأن الاتصال كان مقطوعاً وأنا قطعته بيديَّ، فلا أحد يبعث لي خطابات، ولا أردُّ على أحد ولا صلة لي بإنسان قط؛ فقطعتُ كل الصلات لكي أتمتع بالرب، وليس كحالة مَرَضية أو عزوف عن الدنيا أو كراهية للناس؛ لا، فكما ترونني فإنني أحب الناس، ولكنني لم أَدَعْ شيئاً يعوقني إطلاقاً عن حبي الكامل للمسيح، وعن استيعابي للكتاب المقدس“. ”في البداية، كما قلتُ لكم، وجدتُ صعوبة كبيرة جداً، لأن الكتاب المقدس كبير جداً: العهد القديم شيء مهول، وهكذا العهد الجديد. وافترض، يا رب، أنني سأعيش كثيراً، فكم سيكون عمري؟ أنا دخلت الدير سنة 1948، وكان عمري 30 سنة، ولكنني أحتاج إلى عمر متوشالح لكي أتمتع بكل آية في العهدين. فقد انفتح قلبي للإنجيل جداً وصارت كل كلمة ترنُّ فيَّ، وكل آية لها حلاوتها ورونقها. وربما تشعرون عندما أتكلم بمقدار شغفي بالكلمة! ولما طلبتُ من الرب، إما أن يُطيل عمري، أو يفتح بصيرتي؛ فأما اقتراح طول العمر فقد استبعدته جانباً، لأنني منذ أول شهر بدأتُ أضعف جداً (من قلة الغذاء بالدير)، وبدأت أتعب وأنهج لأقل مجهود. فقلتُ: يا رب، العمر غير مضمون، ولكنني أتوسل إليك أن تُعطيني بصيرة، وإذا بالرب يتحنن ويُعطيني العمر حتى اليوم، وكذلك انفتاح البصيرة، كليهما“(4). الإنجيل وقرابتي لأهل بيت الله: ”في بداية رهبنتي عندما انفتح لي الإنجيل قليلاً قليلاً، فيا لفرحتي عندما وجدتُ أن المسيح يُكلِّمني من خلال الآية، ويشير على عيوبي وخطاياي وضعفي. فكنتُ أشعر أثناء قراءتي أن الكلام مُوجَّهٌ إليَّ. فبدأتْ حياتي تتقوَّم، وكل غلطة كانت تظهر لي كنتُ أُصحِّح نفسي، فوجدتُ أنها فرصة. وهكذا انتبه ذهني وتيقظتْ روحي إلى أن حياتي وخلاصي وإصلاح حياتي وتقويتها وتجديدها هو من خلال الإنجيل. صرتُ أصلِّي كثيراً قبل أن أقرأ الإنجيل وأقول: يا رب هذا هو الإنجيل الذي كُتب لي وظل مكتوباً ولم يَضِعْ حتى وجدته من وراء الزمن ووصل إليَّ. إنني أشكرك جداً أني حصلتُ عليه وهو مطبوع أيضاً. لقد كُتِبَت كل الأسفار من أجلي، فهل يُعقَل أن أموت ويبقى سفر لم أقرأه؟ مستحيل، يا رب، فلابد أن أقرأ الكتاب كله لأنه مكتوب لي“. ”وعندما أقرأ عن إبراهيم وسيرته أقول إن هذا هو أبي. تصوَّر أن يكون إنسان تائهاً عن أسرته ثم وجدها وقيل له: هذا هو أبوك، وهذا هو عمك، وهذا هو جدَّك... إلخ. يا فرحتي! لقد وجدتُ أسرتي هذه التي بَدَأت من أول آدم. ما أكثر ما بكيت على آدم لما أخطأ! ده أبويا! فبدأتْ هذه الصلة تصير واقعية وأشعر فعلاً به، لأن دمي هذا من آدم! أتؤمنون بذلك؟ إنك لم تأتِ به من فراغ، فهذا الدم واللحم، هذه الحياة والنفَس منه، فأنا حفيد آدم. فبدأتُ أتعرَّف عليه من خلال قصته المكتوبة، وأخاطبه وأرثي لضعفه وسقوطه، وأتقبَّل سقطته لأنها سقطتي أنا، ليس في ذلك شك“! ”وبعد ذلك أفرح بالخلاص، وأعبُر أيضاً من سفر إلى سفر وأتعرَّف على أهل بيت الله الذين هم أهلي: «فلستم إذاً بعد غرباء ونُزُلاً بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله» (أف 2: 19). فإن كنتم أعضاء الأسرة وأهل بيت الله، فماذا يكون إبراهيم بالنسبة لكم؟ إنه أبونا ولو لم يَرَنا: «إبراهيم الذي هو أبٌ لجميعنا» (رو 4: 16). من أين عرفتُ كل ذلك؟ لم أكن أعرف إلاَّ قليلاً، ولم يكن عندي وقت، إنما كان عندي حبٌّ للإنجيل، فما أقرأه يُزيد من اشتياقي، فلما دخلت إلى العمق وبدأت أقرأ عرفتُ، عرفتُ أنني لستُ غريباً بل عضوٌ في بيت الله! فقلتُ: إذن، أنا لي حقوق ولابد أن أتعرَّف على عائلتي. يـا سلام، يا أحبائي، قضيتُ ليالٍ في كل حادثة من أحداث الإنجيل، وكنتُ أتحسس موضعي فيها كما في مراحل حياة إبراهيم، وفي عبودية يعقوب وعمله كأجير سنة وراء سنة؛ وأنا - صدِّقوني - كنتُ معه أعمل كأجير، ولا أستطيع أن أُصوِّر لكم - إلاَّ إذا صوَّر لكم المسيح - مقدار كوننا مدعوِّين أن نسير مسيرة الكتاب المقدس كله ونستمتع بها“! ”ابتدأتُ أتعرَّف على الكتاب المقدس كله موقفاً موقفاً وآية وآية، فوجدتُ أنه كله مكتوبٌ لأجلي. وصدقوني أنني وجدتُ أن لي مكاناً في سفر التكوين وسفر الخروج، بل وفي جميع الأسفار! وكل أب وكل قديس كان لي معه صلة ولو حتى أحل سيور حذائه، فأمشي وراءه أتحسَّس قرابتي منه ولا أقول إنها قرابة شديدة لأنني لستُ أهلاً أن أحل سيور حذاء أي واحد منهم. ولكن بالحق، فقد قوبل شعوري بكل ترحاب من كل قديس ومن كل سفر، فوجدتُ أن لي مكانة في الإنجيل وفي العهد القديم الذي كنتُ أشعر قبل ذلك أنني تائه فيه وليس لي موضع. وبعد ذلك فرحتُ بميراثي الثمين جداً الذي هو "الكلمة". فالكلمة ميراث غني، ميراث الحياة: «كلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثاً مع جميع المقدسين» (أع 20: 32)“(5). وفي موضع آخر يؤكِّد أبونا على أن هذه الخبرة الإنجيلية في تعرُّفه على أهل بيت الله وميراث كلمة الله، هي الملكوت السماوي الذي نعيشه منذ الآن، فيقول: ”بدأنا نقرأ الإنجيل بعهديه بإخلاص شديد جداً وبتقوى، فوجدنا أن كل وعود الله التي جاءت بصورة عملية ومادية في العهد القديم، والتي جاءت بصورة عملية وروحية خالصة في العهد الجديد، إنما هي حقيقة واقعة وملموسة وراء كل آية. فكل آية وكل أصحاح وكل قصة تحمل فينا عهداً صريحاً من الله أنه كما كان هكذا يكون إلى دهر الدهور. على هذا الإيمان دخلنا في صفاء روحي شديد للغاية ورجاء قوي لدرجة أنني بعد أن بدأت وحدي، بدأ الآباء (يقصد أولاده الروحيين) يأتون بعد سبع سنوات ويأخذون ما أخذتُه. وقد اعتقدتُ أنني بدأتُ أعيش في ملكوت الله في الحال. فالملكوت ليس شيئاً مستقبلياً (أو أُخروياً) كما يعتقد الكثيرون، إنما هو حقيقة واقعة مُعاشة رأيتها بعينيَّ وتحقَّقتُ منها؛ إذ أن الحياة الحاضرة يمكن أن يُستعلَن فيها كل أسرار الله وصدق مواعيده بالنسبة للملكوت. لقد انفتح كل شيء أمامي، وأول ما انفتح هو سر الإنجيل“(6). (يتبع) |
|||
(1) اقتباسات من كلامه المُسجَّل وأحاديثه مع الآباء الرهبان وضيوف الدير. (2) عن كلمة في جلسة مع بعض الرهبان في 20/6/1981. (3) عن كلمته: ”كيفية قراءة الإنجيل“، مُسجَّلة في 31 أغسطس 1973، وحتى بلوغه السابعة والثمانين (آخر سنة في حياته) ظل يكتب ويتأمل في الإنجيل بنفس القوة والنعمة التي بدأ بها. (4) عن كلمته: ”تأثير الإنجيل في حياته الرهبانية“ في أربعاء أيوب سنة 1974. (5) عن كلمته: ”تأثير الإنجيل في حياته الرهبانية“ المسجَّلة في أربعاء أيوب سنة 1974. (6) عن حديث له مع وفد كنيسة السويد، مُسجَّل بتاريخ 20/3/1980. |