ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (26: 1-36: 13)
1 - إعادة تنظيم إسرائيل (26: 1-27: 23) أ - الإحصاء الثاني (26: 1-65) النتائج المروِّعة للزنا الجسدي والزنا الروحي بعبادة إله آخر غير الله الحي: وهكذا تمَّ حُكْم الله على كل الجيل القديم الذي خرج من أرض مصر بالفناء، كقول الرب حينما انصاع إسرائيل لتشكيكات الرجال الذين تجسَّسوا أرض الموعد وعادوا ينشرون المخاوف بين الشعب، حتى أنهم رفضوا الخضوع لله والصعود للحرب وامتلاك أرض الموعد. فكان حُكْم الله عليهم هكذا: + "حيٌّ أنا يقول الرب: لأفعلنَّ بكم كما تكلمتم في أذنيَّ. في هذا القفر تسقط جثثكم، جميع المعدودين منكم حسب عددكم، من ابن عشرين سنة فصاعداً الذين تذمَّروا عليَّ. لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأُسكِننَّكُمْ فيها، ما عدا كالب بن يَفُنَّة ويشوع بن نون. وأما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة فإني سأُدخلهم، فيعرفون الأرض التي احتقرتموها. فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر، وبنوكم يكونون رعاةً في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تُفْنَى جثثكم في القفر. كعدد الأيام التي تجسَّستم فيها الأرض أربعين يوماً، للسنة يوم، تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي." (عد 14: 28-34) هذا الجيل القديم الذي حُرِم من دخول أرض الميعاد، كان يرمز إلى الإنسان العتيق الذي دُفن في المعمودية ليقوم الإنسان الجديد الذي يرث ملكوت السموات، لأنه "إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله." (يو 3: 5) إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد: كان أول إعداد للجيل الجديد لكي يرث أرض الموعد، هو إعادة تنظيم إسرائيل بداية بإعادة إحصاء الشعب إحصاءً جديداً لكلِّ مَن بلغ عشرين سنة فصاعداً من الرجال الخارجين للجند، وكان الرب قد أمر موسى قبل ذلك بنحو ثمانٍ وثلاثين سنة بإجراء مثل هذا الإحصاء، وهو المذكور في الأصحاح الأول من نفس السفر. وكان الغرض من الإحصاء الأول هو تحصيل الفدية عن كل ذكر من المعدودين. وهذه الفدية قدرها نصف شاقل من الفضة، وقد دُعِيَتْ "تقدمة الرب للتكفير" أو "فضة الكفَّارة"، وكانت تخصَّص لخدمة خيمة الاجتماع (انظر خر 30: 11-16؛ 38: 25). أما قصد الله من أمره بالإحصاء الثاني فكان: 1 - تعيين الرجال الصالحين للتجنيد حتى يستعدوا للحرب في مواجهة الشعوب المعادية في أرض الموعد. 2 - الاستعداد لتقسيم الأرض في كنعان حسب تعداد كل سبط. 3 - تعيين رؤساء الأسباط والعشائر تمهيداً لتنظيمهم عند ميراث الأرض. وقد تم إحصاء جميع الأسباط فيما عدا سبط لاوي الذي لم يُعطَ له نصيب بين أسباط بني إسرائيل، لأن الرب كان نصيبهم (تث 10: 9)، وقد تخصَّصوا لخدمة الرب وخدمة خيمة الاجتماع. لذلك فقد تمَّ تعدادهم وحدهم بنظام خاص: كل ذكر ابن شهر فصاعداً. وفيما يلي جدول يبيِّن إحصائية الاثني عشر سبطاً حسب ترتيب مجيئهم في التعداد بالمقارنة مع الإحصائية الأولى في برية سيناء: ملاحظات النقص الزيادة إحصاء عربات موآب إحصاء
سيناء السبط كـان
منه داثــان وأبيرام (عـد 16: 25-30). 2770 43730 46500 رأوبين كان
منه زمري (عد 25: 14). 37100 22200 59300 شمعون 5150 40500 45650 جاد السبط
الذي جاء منه المسيح حسب الجسد. 1900 76500 74600 يهوذا 9900 64300 54400 يسَّاكر 3100 60500 57400 زبولون 20500 52700 32200 منسَّى 8000 32500 40500 أفرايم 10200 45600 35400 بنيامين 1700 64400 62700 دان 11900 52400 41500 أشير 8000 45400 53400 نفتالي 61020 59200 601730 603550 المجموع الكلي 1820 النقص الكلي
يتضح من هذه الإحصائية أن الشعب لم يتكاثر خلال الثماني والثلاثين سنة التي انصرمت فيما بين الإحصائين إلاَّ يسيراً جداً، بل قد نقص العدد الكلِّي عن عدد التعداد الأول بمقدار 1820 نسمة. ويُلاحَظ أيضاً أنه لم يتزايد سبط مثل سبط منسَّى الذي كان قبلاً أقل الأسباط عدداً في التعداد الأول، ولكنه تضاعف في هذا التعداد. فهكذا يُبارك الرب القليل والضعيف فيصير كثيراً وقوياً. كما لم ينقص سبط مثل سبط شمعون الذي كان تعداده (59300) فصار (22200). ويُعلِّل البعض أن السرَّ في ذلك هو الوبأ الأخير الذي أصاب غالبيته هذا السبط بسبب زمري الذي كان من هذا السبط وانجذب وراء شهوته، بإباحته وتبجُّحه مُقدِّماً إلى إخوته المرأة المديانية، أمام عيني موسى وأعين كل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع، بينما كان الشعب كله يبكي وينتحب على الذين سقطوا بسبب الوبأ الذي أباد أربعة وعشرين ألفاً من الشعب. وفي هذا التعداد ذُكِرَت أسماء بعض رؤساء الأسباط الذين ماتوا بسبب مخالفتهم لأوامر الرب تأكيداً لحرمان الأشرار من الميراث في أرض الموعد، وهم: 1 - داثان وأبيرام اللذان ابتلعتهما الأرض مع قورح (عد 16)، فقد اغتصبوا الكهنوت وتذمَّروا على موسى وهارون. 2 - عير وأونان ابنا يهوذا: وكان عير شريراً في عيني الرب فأماته بلا نسل (تك 38: 7). وأما أخوه أونان فقد أفسد على الأرض لكي لا يُعطي نسلاً لأخيه، فنال ذات الجزاء (تك 38: 9). تعليمات الرب بخصوص تقسيم أرض الموعد بين الأسباط: + "ثم كلَّم الرب موسى قائلاً: لهؤلاء تُقْسَمُ الأرض نصيباً على عدد الأسماء. الكثير تُكثِّر له نصيبه، والقليل تُقلِّل له نصيبه، كلُّ واحدٍ حسب المعدودين منه يُعطَى نصيبه. إنما بالقرعة تُقسَمُ الأرض، حسب أسماء أسباط آبائهم يملكون، حسب القرعة يُقسَمُ نصيبهم بين كثير وقليل."
(عد 26: 52-56) هذه قواعد تقسيم أرض الموعد على أسباط بني إسرائيل، أعطاها الرب لموسى قبل نياحته، رغم أنه ليس هو الذي سيُجري التقسيم بل يشوع خليفته. فموسى، الذي يُمثِّل الناموس، لن يدخل أرض الموعد؛ ولكن يشوع، الذي كان رمزاً ليسوع المسيح ربنا، هو الذي سيقوم بقسمة الأرض على الجيل الجديد من إسرائيل الذي وُلد في البرية، والذي كان يرمز إلى الإنسان الجديد الذي سيرث الملكوت في العهد الجديد. أما التقسيم فسوف يكون على هذه الأسس: أولاً: حسب عدد أسماء الذكور من كل سبط، فالكثير يُكثَّر له، والقليل يُقلَّل له. ثانياً: يكون التقسيم بالقرعة، ليخرج لكل سبط المكان من الأرض الذي يأخذ نصيبه فيه. ثالثاً: لم يكن لسبط لاوي نصيب في الأرض، بل يعطيهم كلُّ سبطٍ مدناً من نصيبه. نصيب سبط لاوي: + "وهؤلاء المعدودين من اللاويين حسب عشائرهم: لجرشون عشيرة الجرشونيين، لقهات عشيرة القهاتيين، لمراري عشيرة المراريين... وكان المعدودون منهم ثلاثة وعشرين ألفاً، كل ذكر من ابن شهر فصاعداً، لأنهم لم يُعَدُّوا بين بني إسرائيل، إذ لم يُعْطَ لهم نصيب بين بني إسرائيل. هؤلاء هم الذين عدَّهم موسى وألعازار الكاهن حين عَدَّا بني إسرائيل في عربات موآب على أُردن أريحا."
(عد 26: 57-63) كان عدُّ الذكور في الأسباط الأخرى من ابن عشرين سنة فصاعداً باعتبار الصالحين للحرب. أما ذكور سبط لاوي فقد كان حصرهم من ابن شهر فصاعداً باعتبارهم مُكرَّسين لخدمة الرب وبيته المقدس. وقد اختارهم الرب ليكونوا فداءً عن أبكار بني إسرائيل (عد 3). لذلك فإنهم لم يُحصوا ضمن بني إسرائيل، "ولم يُعطَ لهم نصيب من بني إسرائيل"، لأن الرب كان نصيبهم (انظر تث 10: 9). وقد زاد عددهم في هذه الإحصائية بمقدار ألف ذكر عن إحصائية سيناء. ويُعلِّق العلاَّمة أوريجانـوس على قواعـد تقسيم الأرض لبني إسرائيل التي أعلنها الرب لموسى قائـلاً: [أما نحن فنقول عن تقسيم هذه الأرض وتمليكها (لبني إسرائيل)، إنها تشير إلى المظهر الأرضي، و"ظل الخيرات العتيدة" (عب 10: 1). وهي تُقدِّم نموذجاً للميراث السماوي الذي يترجَّاه المؤمنون والقديسون. وإنني أبحث في هذا الميراث الذي نترجاه عن ما هو المقصود من هؤلاء الذين هم كثيرون، وأولئك الذين هم أقل عدداً. فإني أجد أن الذين هم أقل عدداً هم أولئك المحسوبين أنهم أكثر تطويباً من الآخرين، لأنه قيل "واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدِّي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه" (مت 7: 13). أما أولئك الذين وصفهم بأنهم أقل عدداً فيضيف قائلاً: "ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدِّي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه" (مت 7: 14). وفي موضع آخر قيل: "أقليل هم الذين يخلصون" (لو 13: 23)؟ وأيضاً: "لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12)، وأليست المحبة لدى القليلين!؟ وفي الفُلْك الذي بناه نوح أيضاً، الذي أُعطيت مقاييسه من السماء، كان تصميمه بطوابق. وكان الطابق السفلي منه طوله ثلاثمائة ذراع، وعرضه خمسين (وارتفاعه ثلاثين). ولكن كلما ارتفع في الطوابق العليا كان الفلك يضيق وينقص في عدد الأذرع... والسبب في ذلك أن الطوابق السفلية التي تشمل مساحات واسعة وفسيحة كانت للحيوانات والقطعان، أما الطوابق العليا فكانت للطيور، أما القمة الضيقة فهي مكان الإنسان الناطق.](1) أما عن نصيب اللاويين الذين لم يعطوا ميراثاً في أرض الموعد، فيُعلِّق على ذلك العلامة أوريجانوس قائلاً: [إنه، بينما أعطت القرعة لكل واحد نصيبه (في الأرض) وُجد أُناس لم ينالوا، هؤلاء هم اللاويون، الذين كانوا بلا توقُّف يخدمون الرب ساهرين الليل في الاهتمام بخدمتهم. كل هؤلاء لا ينالون قرعتهم مع الآخرين، لأن نصيبهم ليس على الأرض؛ بل إنهم يحسبون أن الرب نفسه هو نصيبهم وميراثهم. إنهم يمثِّلون أولئك الذين لم تعطِّلهم عوائق الطبيعة الجسدية عن تجاوز كل أمجاد الأشياء المنظورة واضعين كل رجائهم في الرب وحكمته، مثبتين أعينهم نحو كلمته التي بنوا عليها كل حياتهم وكل أسلوب حياتهم. فإنهم لا يطلبون أي شيء جسدي ولا شيئاً محسوساً، لأنهم يشتاقون بالحق إلى الحكمة ومعرفة أسرار الرب: "وحيث يكون كنزهم هناك يكون قلبهم أيضاً" (مت 6: 21). وإذ ليس لهم ميراث على الأرض يرتفعون إلى فوق نحو السماء. هناك يكونون مع الرب إلى الأبد في كلمته وحكمته ومعرفته، يشبعون ويتلذَّذون بحلاوته، ويكون هو غذاؤهم ومأواهم وغناهم ومملكتهم. هذا هو نصيبهم وهذه هي ممتلكاتهم التي يعرفونها لأن الله هو ميراثهم الوحيد.](2) أما بين كل هؤلاء الذين أُحصوا في هذا التعداد الثاني، "لم يكن إنسان من الذين عدَّهم موسى وهارون الكاهن، حين عدَّا بني إسرائيل في برية سيناء، لأن الرب قال لهم: إنهم يموتون في البرية. فلم يبقَ منهم إنسان إلاَّ كالب بن يَفُنَّة ويشوع بن نون." (عد 26: 64و65) (يتبع) *********************************************** دير القديس أنبا مقار صدر حديثاً لأحد رهبان دير القديس أنبا مقار شرح سفر التكوين سفر البدايات 520 صفحة (من القَطْع الكبير) ************************************************
|