دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

 

بحث كتابي آبائي(*):

 
الاتحاد الزيجي بالمسيح
في سفر نشيد الأنشاد
-2-
 

تكلَّمنا في العدد الماضي (نوفمبر 2004، ص 15) عن التفسير السرائري لسفر نشيد الأنشاد على أساس أنه نبوَّة عن الزيجة الروحية بين المسيح والنفس البشرية أو بين المسيح والكنيسة، وباعتباره أيضاً رمزاً لانضمام النفوس إلى المسيحية. وكذلك تحدثنا عن الإشارات التي وردت في سفر نشيد الأنشاد عن طقس المعمودية. وسوف نستكمل في هذا المقال بقية التلميحات التي وردت في هذا السفر والتي تشير إلى المعمودية.
قطيع غنم الجزائز المغتسلة في المعمودية:

ولكن الآية التي تشير إلى المعمودية والأوسع انتشاراً بلا منازع هي: «أسنانُكِ كقطيع الجزائز (الغنم التي جُزَّ صوفها) الصادرة من الغُسْل (أي الصاعدة من ماء اغتسالها)» (نش 4: 2). فالقديس أمبروسيوس يحب هذه الآية ويقول عنها: ”هذا المديح ليس ضعيفاً، فالكنيسة تُقارَن بهذا القطيع من الغنم، إذ أنها تحوي في ذاتها الفضائل العديدة للنفوس التي خلعت في المعمودية خطاياها والتصقت بها“. وفي مكان آخر يقول أيضاً: ”مثل غنم شبعت في مراعٍ جيدة وتدفَّأت بحرارة الشمس واغتسلت في النهر وخرجت سعيدة ونظيفة؛ هكذا تخرج نفوس الأبرار من الحميم الروحي.“

والإشارة إلى أسنان العروس التي ذكرناها من قبل في آية سفر النشيد (4: 2)، يُفسِّرها القديس أمبروسيوس أكثر بأنها تعني أنه في سرائر العهد الجديد يكون ”المعمَّدون، كما أنهم يتطهَّرون في أجسادهم، فهم يحتاجون أيضاً بعد ذلك أن يتطهَّروا بطعام وشراب روحيَّين، كما أن المنَّ في العهد القديم جاء بعد ماء الصخرة حوريب“. فهو يتكلَّم هنا عن الإفخارستيا وقوتها لغفران الخطايا التي تُرتَكب بعد المعمودية.

ولا شكَّ أن القديس أوغسطينوس استعار هذا الرمز من القديس أمبروسيوس. فهو يُبرزه كمثال لكي يُظهر كيف أن عقيدةً مألوفةً تأسر القلوب عندما تُقدَّم خلف أحجبة سرية من المجاز أو الاستعارة، فهو مبدأ خطير ذلك الذي يُحوِّل رموز الكتاب المقدس إلى نظام رمزي حرفي. فهو يقول:

[إنني أسألكم: لماذا إذا تكلَّم إنسان عن خدَّام الله الصالحين الأمناء الذين يطرحون عنهم أثقال العالم ويأتون إلى حميم المعمودية، فإنه يفتن سامعيه أقل مما إذا عبَّر عن نفس الفكرة باستعمال كلمات سفر النشيد التي قيل فيها عن الكنيسة: «أسنانكِ كقطيع الجزائز الصادرة من الغُسْل» (نش 4: 2)؟ فالفكر واحد، ولكنني لا أعلم لماذا؟ فأنا أتأمل في القديسين بمسرة أكثر عندما أرى كأنهم أسنان الكنيسة التي تفصل البشر عن أخطائهم، كما أنني أجد مسرةً عارمةً عندما أرى كأنهم غنم مجزوزة قد طرحت عنها الانشغالات الدنيوية، صاعدةً من الاغتسال، أي من المعمودية.]

كما نجد ذلك عند العلاَّمة ثيئودوريت الذي لا يهتم بالمجاز إلاَّ قليلاً. فهو، إذن، تقليدٌ شائعٌ، إذ يقول:

[أعتقد أن العريس يقصد بقطعان الغنم أن نفهم أنهم أولئك الذين يتطهَّرون بالمعمودية، إذ أنهم كفُّوا عن خطاياهم حسب تعليم الرسول بولس الذي يتكلَّم عن «غسل الماء بالكلمة» (أف 5: 26). فالعريس يقول إن لكم أسناناً نظيفة ومتطهِّرة من كل خطأ في الكلام حتى أنكم تبدون مثل الذين حُسِبوا أهلاً لمعمودية الخلاص.]

ونحن نرى في خلفية هذه النصوص دمجاً كُليًّا لسفر النشيد في ليتورجية الدخول للإيمان يتجاوز التفسيرات الخاصة.

والقديس كيرلس الأورشليمي أيضاً يُفسِّر هذا النص بمعني يرمز إلى سرِّ المعمودية، وإن كان يُعطي رمزاً مختلفاً، فيقول:

[إن النفس التي كانت أولاً أَمَة مستعبَدة، تقبل الآن الرب نفسه كعريس، وهو إذ يتقبَّل الوعد المُخلص للنفس يهتف: «ها أنتِ جميلةٌ يا حبيبتي، ها أنتِ جميلة... أسنانكِ كقطيع الجزائز... كل واحد مُتْئِمٌ (أي توأم)» (نش 4: 1و2). فهو يتكلَّم عن الأسنان بسبب الاعتراف بالإيمان من قلب مستقيم، ويتكلَّم عن التوائم بسبب النعمة المتضاعفة التي تُعطَى بواسطة الماء والروح.]

فيتضح يقيناً أن هذا النص ينطبق على المعمودية، وأن هذا الانطباق يُفسَّر بطرق مختلفة. فالمعمودية هنا لا يُشار إليها بالغسل بل بالتوائم التي تُلمِّح عنها بقية الآية.

ثوب المُعمَّدين الأبيض:

عندما يخرج المُعمَّد الجديد من الجرن يرتدي ثوباً أبيض ترحب به جماعة المؤمنين. والقديس أمبروسيوس يُظهِر لنا المُعمَّد وهو متألِّقٌ ببريق النعمة المرموز إليها بالثوب الأبيض اللامع، وهو خارجٌ من جرن المعمودية وتُحييه الملائكة المذهولة، فيقول:

[ترتدي الكنيسة بهذه الأثواب التي استلمتها في حميم الولادة الثانية وهي تُردِّد: «أنا سوداء، ولكنني جميلة يا بنات أورشليم» (نش 1: 4). سوداء بسبب حالة الإنسان، وجميلة بسبب النعمة. سوداء بسبب مجيئها من وسط الخطاة، وجميلة بسر الإيمان. وإذ ترى بنات أورشليم هذه الأثواب يسيطر عليها الذهول فتقول: «مَن هذه الطالعة وهي بيضاء كلها» (نش 8: 5 سبعينية)؟ لقد كانت سوداء، فكيف صارت فجأة بيضاء؟]

إن الملائكة لا يمكنها أن تحتمل البريق المشعّ من المعمَّدين الجُدُد، وهذا يُذكِّر القديس أمبروسيوس بمشهد الصعود، فيقول:

[عندما صعد المسيح تردَّدت الملائكة. لقد احتارت قوات السماء عندما رأت ذاك (أي ابن الله) وهو في الجسد صاعداً إلى السماء، وقالت: «مَن هو ملك المجد هذا»؟ وبينما كان آخرون يقولون: «انفتحي أيتها الأبواب الدهرية، فيدخل ملك المجد»، كان غيرهم يقولون: «مَن هو ملك المجد هذا»؟ وتجدون في إشعياء أيضاً أن قوات السماء محتارةً قائلةً: «مَن ذا الآتي من أدوم بثياب حُمْر من بُصْرَة، هذا البهي بملابسه... ما بال لباسه مُحْمَرٌّ في بهاء ثوبه الأبيض» (إش 63: 1و2 حسب النص)؟]

إننا نلمح هنا تعجُّب الملائكة من صعود المسيح إلى أبيه القدوس بعد قيامته بجسده المتجلِّي ببريق مجده. وهكذا فإن سر الدخول إلى الإيمان (المعمودية) يُعتبر صورة للمسيح القائم والصاعد إلى أبيه. والقديس أمبروسيوس يُقدِّم هذا السر باعتباره مشاركةً في الصعود فيقول:

[النفس المُعمَّدة في لبن تصعد إلى السماء. والقوات السماوية تتعجب منها قائلةً: ”مَن هذه الطالعة ملتحفةً بالبياض مستندةً على حبيبها (الذي هو كلمة الله)؟ إنها قد مُنحت حق الدخول إلى الأعالي“!]

(يتبع)