دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

من تاريخ كنيستنا
- 13 -
جهاد من أجل إعادة البناء
البابا بنيامين الأول
- 2 -

وبعد غياب ثلاث عشرة سنة، منها 10 سنين في عهد الإمبراطور البيزنطي هرقل، وثلاث سنين قبل الغزو العربي للإسكندرية؛ رجع البابا بنيامين إلى مقر كرسيه. فبدأ في الحال في إعادة البناء الذي تصدَّع منذ مجمع خلقيدونية والاضطهاد البيزنطي للأقباط، ثم التخريب الفارسي في غزوتهم القصيرة، فأخذ في جذب الذين أضلَّهم هرقل، فرجع منهم كثيرون.

تعمير الأديرة:

ثم وجَّه البابا بنيامين التفاته نحو الأديرة التي خرَّبها الفرس أثناء تملُّكهم لمصر واجتهد في إصلاحها، فرمم أديرة برية شيهيت، وبدأ بدير الأنبا بيشوي إذ وجد أن البربر كانوا قد خرَّبوه تماماً. ثم امتد بالبناء إلى بقية أديرة تلك المنطقة التي هي الحصن الحصين لإيمان الكنيسة، والخزانة الأمينة لحفظ تراث الآباء الذين سلَّموا الإيمان الرسولي من جيل إلى جيل.

على أن المباني الحجرية لم تكن تغني عمَّا ضاع من تراث أدبي كنسي نتيجة حريق الإسكندرية. وكان معروفاً في تلك الحقبة من التاريخ أن المكتبة الباباوية في الإسكندرية تحوي المراجع والوثائق الأصلية لكل قوانين الكنيسة وقرارات المجامع الكنسية. وإلى باباوات الإسكندرية كان يلجأ الآباء رؤساء الكنائس الأخرى في العالم يسألونهم عن النصوص الأصلية ومضاهاة ما عندهم من نسخ عليها. وليس من المعروف على وجه التحقيق مصير هذه المكتبة التي كان لها وجود تاريخي أيام البابا كيرلس الكبير قبل الغزو الفارسي ثم العربي بعد نياحته بأقل من مائتي عام. أما مكتبة دير الأنبا مكاريوس، فكانت في أمان حتى غارة البربر الخامسة سنة 817م التي كانت كارثة عليها، إذ أن معظم مخطوطاتها أُتلف أو تمزَّق أو حُمِل بواسطة البربر، والقليل الذي نجا حمله الرهبان إلى دير نهيا بالجيزة.

وما إن أتمَّ الرهبان تجديد دير الأنبا بيشوي وكنيسته، حتى كان رهبان دير الأنبا مكاريوس قد انتهوا من بناء كنيستهم الكبرى المسمَّاة في المخطوطات القديمة "القاثوليكا" أي الكنيسة الجامعة، فانتدبوا بعضاً منهم ليتوجَّهوا إلى الأنبا بنيامين ليرجوه أن يحضر إلى ديرهم ليُكرِّس هذه الكنيسة الكبرى التي كانت مبنية على 20 عاموداً من أجود أنواع الرخام القوطي، ومزيَّنة بالأيقونات الغنية الجميلة. فأتى معهم في اليوم الثاني من طوبة سنة 655م، حيث استقبله شباب الرهبان في السابع من الشهر حاملين سعوف النخل في أيديهم، ومن ورائهم الشيوخ الحاملين المجامر والصلبان، ثم توجَّهوا إلى الكنيسة وبدأ البابا بنيامين مع مساعديه في تدشين الكنيسة، وفي مخطوطة قديمة محفوظة بدير الأنبا مقار يروي البابا بنيامين قصة تكريس الكنيسة كما نقلها تلميذه أغاثو القس( ).

ومن أهم ما جاء في هذه المخطوطة القوانين المختصة بالصلاة في هذه الكنيسة، وبعض القوانين المختصة بالحياة الرهبانية، وتنبأ عن أيام صعبة ستمر بها الرهبنة في أيام فتور وبرود وارتداد.

على أن بعض المناظر والإعلانات الروحية ذُكِرَت في هذه القصة:

1 - فقد ذكر البابا بنيامين رؤياه العجيبة: "صدِّقوني، يا إخوتي، أنني نظرتُ مجد المسيح اليوم وقد ملأ القبة (الهيكل)، ونظرتُ بعيني الخاطئة الذراع غير المرئي واليد العالية، نظرت يسوع المسيح يمسح مائدة هذا الموضع المقدس". وهذه الرؤيا صادقة لأنها تتوافق مع إيمان الكنيسة بأن متمِّم الأسرار الكنسية هو الرب يسوع المسيح نفسه، وإن كان بيد وبواسطة كهنته وخدَّامه.

2 - كما ذكر أنه رأى القديس الأنبا مقار، وقد حضر (بروحه) تكريس كنيسته، وقد تراءى للأنبا بنيامين هكذا: "إذ بي أرى واحداً منهم ووجهه يُضيء جداً، يسطع منه بريق، في وسط الكهنة. وكنتُ أتأمله وقتاً طويلاً، ولم أكن أعلم أنه هو العظيم أنبا مقار أب هذا الجبل الذي أتى وقت تكريس الكنيسة". وظن البابا بنيامين في لحظة أنه راهب فاضل قديس، فقال لنفسه: "إذا أراد الرب وخلا كرسي، فإني أجعله أباً عليه... لأنه هوذا أب الشعب وراعي الخراف، لأن هذا الرجل قديس، ويليق به هذا الأمر، وهذه الأُبوَّة (رتبة الأسقفية) تصلح للكاملين بهذا المقدار".

وتقول المخطوطة على فم البابا بنيامين: "وفيما كنت أتفكَّر بهذه الأمور وفي ذلك القديس، إذا بشاروبيم ذي ستة أجنحة وقد ظهر مقابلي وقال لي: "يا أسقف، لماذا تخطر هذه الأفكار في قلبك؟ هذا هو أبو مقار أب البطاركة والأساقفة، هذا هو لابس الروح أب الرهبان كلهم الذي لهذا الجبل"". وهذه الرؤيا تبيِّن بجلاء شركة أرواح آباء البرية المؤسِّسين الكبار مع أولادهم سكان الأديرة على مدى الأجيال في عباداتهم مراقبينهم ومعضدينهم في جهادهم وصِدق سعيهم. كما أن العالم السمائي (يمثله الشاروبيم) يفحص كل ما يخطر على قلوب الرعاة تجاه سكان البراري، ويردُّونهم إلى حقيقة الحياة الرهبانية الملائكية.

3 - ثم تذكر المخطوطة قصة غريبة ذات معنىسامٍ جداً عن أن هذا الشاروبيم قال للبابا بنيامين هذا القانون (ويقول البابا بنيامين إن هذا القول كان يطنُّ في مسامعي وقد خِفْتُ منه). قال الشاروبيم: "إذا سلك أولاده (أولاد الأنبا مقار) الطريق المستقيم وسعوا السعي الملوكي الذي مشى فيه أنبا مقار والذي علَّمه لهم، فإنهم يدخلون معه في طريق الملك ويفرحون معه في دهر الأنوار. وإذا لم يسمعوا منه ولم يتبعوا وصاياه، فليس لهم معه نصيب، لكنه يطردهم من قطيعه ولا يكون لهم نصيب في ميراثه". وهنا تذكر المخطوطة على فم البابا بنيامين: "فأجاب البار أنبا مقار بتحنُّن ومحبة لبنيه: "يا سيدي لاتقطع على أولادي بهذا، لكن إذا بَقِيَ في العنقود حبة واحدة، قيل: "إنه لا يهلك"، لأن بركة الرب تكون فيه، وأنا أؤمن بالمسيح حبيب نفسي أنه إذا وجد في أولادي وصية واحدة لله التي هي محبة الإخوة بعضهم لبعض، والرأفة لكل أحد أو وصية أخرى من الوصايا، أو يرفعوا عيونهم إلى السماء إلى المسيح ملكنا يسوع مرة في كل يوم، فأنا أؤمن بصلاحه أنه لا ينسى تعبهم بل يُخلِّصهم من العذاب الأبدي، لأن محبة الرب تُسهِّل التوبة للخاطئ ولا تريد أن الخاطئ يموت في خطيته، بل يرجع ويحيا بالتوبة"".

وقد أمَّن البابا بنيامين على أن هذا هو فعلاً الأنبا مقار، لأنه محب لأولاده بالحقيقة. وقال: "هذا هو مقار الحقيقي المكرَّم عند الله والناس" (وفي سيرة القديس أنبا مقار، أنه سمع صوتاً من السماء يقول: "طوباك يا أنبا مقار لأنك شابهت سيدك وتستر على الخطاة"، وذلك بعد أن سَتَرَ على خطية أحد الإخوة تمهيداً لحثِّه على التوبة وإصلاح الحياة).

العودة لمهام الرعاية وتثبيت المؤمنين:

وعاد البابا بنيامين إلى مقر كرسيه وانهمك في تثبيت المؤمنين وتعمير الكنائس التي خرَّبها الغزاة من كل نوع. وفي هذه الأثناء كان المسيحيون في البلدان الأخرى ما زالوا منشغلين بالمجادلات الغبية ولم يتعلَّموا من كارثة الغزو الفارسي ثم العربي، والتي كانت بسبب انقسامهم حول الأمور العالية التي تعلو على إمكانيات عقولهم الصغيرة. ولما اشتد النقاش بين الأساقفة حول موضوع عويص: "هل للمسيح مشيئة واحدة أم مشيئتان"؟ رأى الإمبراطور أن يدعو إلى عقد مجمع في القسطنطينية لبحث هذا الموضوع، ولكن طبعاً لم يكن للكنيسة القبطية مندوبون فيه، ولم يُسمع لها صوت ولا رأي فيه؛ بل حضره البطريرك الخلقيدوني قيرش الذي سلَّم مصر لأيدي العرب، وترك البلاد نهائياً إثر توقيع المعاهدة بينه وبين عمرو بن العاص الذي هيَّأ الفرصة للأنبا بنيامين ليتسلَّم مقاليد رياسته ويعيش في مقر كرسيه بالإسكندرية.

وحسناً لم يحضر بابا الكنيسة القبطية هذا المجمع حتى يتفرَّغ للمِّ أشتات رعيته وإعادة إعمار ما تهدَّم من معابدهم وأديرتهم.

أغاثو تلميذ البابا بنيامين:

كان يعيش مع البابا بنيامين إنسان مملوء نعمة وحكمة اسمه "أغاثو". وكان قساً في الكنيسة. وفي زمن الإمبراطور هرقل كان يتزيَّا بزي العلمانيين في مدينة الإسكندرية ويطوف ليلاً بيوت الأرثوذكسيين المختفين من اضطهاد البطريرك الخلقيدوني قيرش، وذلك ليُثبِّتهم ويقضي حوائجهم ويناولهم من الأسرار المقدسة، وفي النهار كان يحمل على كتفه قفة فيها آلات النجارة ويتظاهر أمام المضطهدين بأنه نجار حتى لا يعترضوا سبيله. ومكث هكذا 10 سنوات يقوم بهذه الخدمة الفدائية الخفية، فحَفَظَ للكنيسة أبناءها وقادتها إلى حين رجوع البابا بنيامين إلى مقر كرسيه.

فلما عاد البابا إلى كرسيه، أقامه وكيلاً له في تدبير البيعة، وعلى الأخص أنه أصيب في سنتيه الأخيرتين بمرض في رجليه أقعده عن العمل، فخدمه أغاثو هذا خلال هاتين السنتين خدمة الابن البار بأبيه المحبوب.

رسامة مطران لإثيوبيا وإرساله مع راهب قديس:

كما قام البابا بنيامين برسامة مطران جديد لإثيوبيا وأرسله إلى هناك ومعه راهب اسمه تكلا هيمانوت عُرف بقداسته وتقواه، وقد أدَّى خدمات جليلة للشعب الإثيوبي، ولا زال الإثيوبيون يكرِّمونه ويجلُّونه حتى هذا اليوم، ويقولون إنه أول مَن أسَّس الرهبنة الإثيوبية في بلادهم، وهو شفيع إثيوبيا وملوكها ورؤسائها.

انتقال البابا بنيامين إلى دار الخلود:

وقد أبدى القديسون عطفهم على هذا البابا المجاهد الصبور، فشفعوا فيه لدى الآب السماوي ضارعين إليه أن ينقله سريعاً من دار الشقاء إلى دار البقاء، فتقبَّل الله منهم هذه الشفاعة وأرسل إلى صفيِّه بنيامين البابا أثناسيوس الرسولي (الذي عانى مثله النفي بعيداً عن مقر كرسيه)، وبصحبته قديسَيْن آخرَيْن. فظهر له ثلاثتهم في حلم وبشـَّروه بقرب انتقاله إلى بيعة الأبكار.

وما إن انبلج فجر تلك الليلة حتى فاضت روح الأنبا بنيامين بين يديِّ الآب. وكان انتقاله في اليوم الثامن من شهر طوبة المبارك (17 يناير)، وهو ذات اليوم الذي كان قد كرَّس فيه هيكل الأنبا مقار الكبير في شيهيت، فتحقَّقت بذلك نبوَّة الشاروبيم الذي أبلغه بذلك يوم تكريس الكنيسة، وكان ذلك عام 656م. وبهذا قضى 39 عاماً على الكرسي المرقسي (617-656م).

(يتبع)