ثـانياً: المرحلة التالية من مسيرة الشعب في البرية فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (10: 11-25: 18) 1 - بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (10: 11-12: 16) ج - مريم وهارون يتكلَّمان على موسى (12: 1-16) رأينا كيف كان ارتحال بني إسرائيل من جبل الرب خلف تابوت العهد، يتقدَّمهم عمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً، بينما كان موسى يسير أمامهم كقائد متيقظ يضرع بلا فتور من أجلهم أمام الله قائلاً: "قُم يا رب فلتتبدَّد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك"، وعند توقُّفهم كلما حلَّ التابوت في أي موضع كان يقول: "ارجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل". فما أجمل هذه المسيرة نحو أرض الموعد، يحدوهم الرجاء في سرعة الوصول إلى الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. ولكن كلَّ تقدُّم في الطريق نحو تحقيق الهدف المقدس في المسير نحو الله، لابد أن تحيط به التجارب وتكتنفه الضيقات التي يثيرها إبليس عدو الخير. وهكذا بمجرد تحرُّكهم نحو أرض الموعد بدأت التجارب التي دخلها الشعب بشكواه وتذمُّره على الرب، وكأنه قد أصابهم ضيق عظيم. فكان هذا أول اختبارٍ لهم في بداية مسيرتهم وتابوت الرب في وسطهم مُعلناً عن حضرته معهم ومسرَّته بمرافقتهم. ولكنهم فشلوا في أول امتحان لهم، وتوالت سقطاتهم، ولم يكتفوا بالتذمُّر والشكوى؛ بل اشتعلت فيما بينهم شهوة الأطعمة التي كانوا يأكلونها في مصر، وطلبوا أن يأكلوا لحماً معلنين تذمُّرهم على المنِّ الذي عافته نفوسهم. لم يسلم موسى من نيران هذه التجربة، فقد ضاق ذرعاً بتذمُّرهم لما رأى بكاءهم، وأعلن للرب عدم قدرته على تحمُّلهم، وطلب من الرب أن يُعيِّن له مَن يُشاركه في حمل أثقالهم. واستجاب الرب لموسى وعيَّن له سبعين رجلاً من شيوخ إسرائيل الذين اختارهم موسى من شيوخ الشعب وحكمائه، وأخذ الرب من الروح الذي على موسى ووضع عليهم. التجربة التالية تصيب ذوي القامات العالية: لم تنجُ مريم النبية ولا هارون رئيس الكهنة من الدخول في بوتقة التجارب، فلم يشفع فيهما علوّ قاماتهما الروحية، لأنهما تجرَّآ على النميمة والكلام ضد أخيهما موسى بسبب المرأة الكوشية التي اتخذها زوجة له. فيبدو أن موسى كان قد تزوَّج بامرأة كوشية - أي من نسل كوش الابن البكر لحام (تك 10: 6) - ربما بعد وفاة زوجته الأولى صفورة ابنة كاهن مديان التي كان قد تزوَّجها أثناء تغرُّبه في مديان. ومن المرجَّح أن تكون هذه المرأة من الشعوب التي صادفها موسى في ارتحاله مع شعبه في البرية، وربما كانت من اللفيف الذي خرج مع بني إسرائيل من مصر (خر 12: 38، عد 11: 4). ومهما كان أصل هذه المرأة التي تزوَّج بها موسى، فليس لأحد أن يلومه إلاَّ ضميره باعتباره رجل الله، الذي شهدت له أعماله وصلته القوية بالله. فإن كانت نميمتهما ضد أخيهما بسبب زواجه بامرأة غريبة الجنس، بينما كان من الأنسب أن يتزوَّج من بنات شعبه؛ فليس هناك أي تحذير من الرب من جهة مصاهرة الكوشيين ونظرائهم، بل كان تحذيره لهم من مصاهرة الكنعانيين (خر 34: 11-16). أمـا مــريم النبية التي قادت جوقة التسبيح مع النساء الإسرائيليات يوم العبور العظيم للبحر الأحمر، ونطقت بالروح بتلك التسبحة الخالدة للرب قائلة: "رنِّموا للرب فإنه قد تعظَّم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر" (خر 15: 21)، وكذلك هارون الذي كان مختاراً من الرب ليتكلَّم بكلام الرب نيابة عــن موسى، وقد مُسح رئيس كهنة للرب ليكهن أمامه مُقدِّماً الذبائح عن الشعب؛ فإنهما رغم علوِّ قامتهما الروحية، ورغم أنهما استحقا أن يُدعيا نبيَّين، لأنهما بالرؤيا استُعلن لهما الرب، وفي الحلم كان يكلِّمهما، إلاَّ أنهما بإدانتهما لأخيهما موسى وقولهما لبعضهما البعض: "هل كلَّم الرب موسى وحده، ألم يُكلِّمنا نحن أيضاً"؟! معتبرين نفسيهما في مساواة موسى، فقد سقطا في الغرور والكبرياء وخطية الإدانة ضد موسى رجل الله. أما موسى، الذي لاحظ تغيُّرهما من نحوه، فلم يتغيَّر قلبه من نحوهما، إذ "كان حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض". وربما كان كلام مريم وهارون عن موسى في السرِّ، ولكن الرب الذي يكشف الأعماق ويعرف كل خبايا القلوب، فقد سمع كلامهما؛ وفي الحال دعا الثلاثة: موسى وهارون ومريم للمثول أمامه عند خيمة الاجتماع. إن سكوت موسى واحتماله إزاء تحديات مريم وهارون، جعل الرب لا يسكت بل أظهر حق عبده موسى ودافع عنه وأعلن لهم مكانته الأثيرة عنده. + "فنزل الرب في عمود سحاب ووقف في باب الخيمة، ودعا هارون ومريم، فخرجا كلاهما." (عد 12: 5) ونزول الرب هنا يعني حلول مجده، ربما بنور ساطع أبهى من نور الشمس. وقد وقف عمود السحاب "في باب خيمة الاجتماع"، أي عند مدخل الخيمة، وليس فوق التابوت في قدس الأقداس عندما كان يتراءى لموسى وهارون، لأن الموقف هنا موقف محاسبة للمخطئ وليس استعلان أسرار وتوجيهات. لذلك، فقد دعا الرب هارون ومريم إليه، فتقدَّما كلاهما نحو عمود السحاب، وبدأ الرب في توبيخهما قائلاً: + "إن كان منكم نبيٌّ للرب، فبالرؤيا أَستَعلِن له، في الحلم أُكلِّمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي. فماً إلى فم وعياناً أتكلَّم معه لا بالألغاز، وشِبْه الرب يُعاين. فلماذا لا تخشيان أن تتكلَّما على عبدي موسى؟!" (عد 12: 6-8) هنا يُعلن الرب حقيقةً هامة في علاقة الرب بأنبيائه ومختاريه. فإن كان كثيرون يُدعَوْن أنبياءَ للرب، فليس الجميع على قدم المساواة في قُربهم منه، "لأن نجماً يمتاز عن نجم في المجد" (1كو 15: 41). فالله قد "كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة" (عب 1:1)، وقد ميَّز الله موسى عن باقي الأنبياء بأن كلَّمه فماً إلى فم وعياناً تكلَّم معه لا بالألغاز. أي أنه كان يسمع صوت الله يُخاطبه بنفسه، وكان يرى مجد الله عندما حلَّ على جبل سيناء وغطَّاه السحاب، ودعا الرب موسى من وسط السحاب، فدخل موسى في وسط السحاب وظل مع الرب في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلةً (انظر خر 24: 12-18). ولم يكن كلام الرب معه بالرموز والأمثال، ولم تكن رؤيته لمجد الرب يكتنفها الغموض إلاَّ بالقدر الذي لا يمكن أن يحتمله موسى. فعندما طلب موسى من الرب قائلاً: "أرني مجدك"، أجابه الرب قائلاً: "أجيز كل جودتي قدامك، وأُنادي باسم الرب قدامك. وأتراءف على مَن أتراءف، وأرحم مَن أرحم. وقال: لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر 33: 18-20). وهذا هو معنى قوله: "وشِبه الرب يُعاين". وبعد أن كشف الرب لمريم وهارون عن عِظَم كرامة موسى كنبي أمامه، لكونه أميناً في كل بيت الرب، راعياً شعبه بكل أمانة وصدق، أعلن غضبه الشديد عليهما لعدم خشيتهما أن يتكلَّما على عبده موسى. معاقبة مريم بالبرص وصلاة موسى لأجلها: + "فحَمِيَ غضب الرب عليهما ومضى. فلما ارتفعت السحابة عن الخيمة، إذا مريم برصاء كالثلج. فالتفت هارون إلى مريم وإذا هي برصاء. فقال هارون لموسى: أسألك يا سيدي لا تجعل علينا الخطية التي حمقنا وأخطأنا بها. فلا تكن كالميت الذي يكون عند خروجه من رحم أُمه قد أُكِلَ نصف لحمه." (عد 12: 9-12) لقد كــان غضب الـرب على هـارون ومريم عظيماً، حتى أنــه بمجرد ارتفاع السحابة عن الخيمة كعلامــة على ارتفاع الرب وتركه للمكان، إذا بمريم قد صارت برصاء كالثلج. لأنه على قدر تقدُّم الإنسان في المعرفة والنعمة، على قدر ما يكون غضب الله على ما يبدر منه من أخطاء لا تليق بما تحصَّل عليه من نعمة وموهبة. وقد عاقب الرب مريم بهذا المرض لكي تشعر بعِظَم خطيتها وتندم على ما بدر منها وتُقدِّم التوبة اللائقة بخطيتها. وقد ذكر الوحي شريعة البَرَص في سفر اللاويين (أصحاح 13 و14)، وأمر بأن يُعزل الأبرص سبعة أيام باعتباره نجساً إلى أن يبرأ من برصه؛ هكذا الخطية تنجس النفس البشرية إلى أن يتوب عنها الإنسان فيبرأ من نجاستها. ولكن لماذا عاقب الرب مريم النبية ولم يعاقب هارون بنفس المرض على نفس الخطية التي اشترك فيها مع مريم؟! ربما لأن مريم هي التي بدأت بالنميمة ضد موسى، وربما لأن هارون كان رئيساً للكهنة، وكان بحكم مسئوليته في خدمة الكهنوت لا يمكن أن يُصاب بهذا المرض الذي يحرمه من الخدمة التي استؤمن عليها، فاكتفى الرب بأن يُعاقب مريم أخته أمام عينيه ويراها على هذه الحال، فتكون هكذا أعظم مُبكِّتٍ على خطيته. وهذا ما حدث بالفعل، فبمجرد رؤية هارون لأخته وقد صارت برصاء كالثلج، صرخ مستنجداً بموسى: "أسألك يا سيدي لا تجعل علينا الخطية التي حمقنا وأخطأنا بها". لقد انسحق هارون جداً أمام أخيه موسى ودعاه بقوله: "يا سيدي" معترفاً بسمو مكانته عند الله، واعترف بخطئه وحماقته هو وأخته التي اقترفاها ضده، طالباً منه الصفح والغفران. كما طلب منه أن يُصلي من أجل أختهما مريم لكي يشفيها الرب من برصها، "فلا تكن كالميت الذي يكون عند خروجه من رحم أُمه قد أُكِلَ نصف لحمه". لأن البَرَص مرض خطير يُشوِّه جسم الأبرص ويأكل أجزاء منه، وكأنـه يموت تدريجياً. كما أنه بعزله عن الناس وابتعاده عنهم كإنسان نجس يجعله في عداد الموتى. لذلك طلب هارون من أجل أخته حتى لا يُشوِّهها البرص وتصبح كالجنين الذي يولد من بطن أُمه ناقص الأعضاء. موسى يتشفع من أجل شفاء مريم: + "فصرخ موسى إلى الرب قائلاً: اللهم اشفِها. فقال الرب لموسى: ولو بصق أبوها بصقاً في وجهها أَمَا كانت تخجل سبعة أيام. تُحجَز سبعة أيام خارج المحلة، وبعد ذلك تُرْجَع." (عد 12: 13و14) لم يذكر موسى إساءة أخته ولم يحقد عليها، بل صلَّى من أجلها في الحال طالباً لها الشفاء مُطبِّقاً بذلك وصية الرب يسوع التي أوصانا بها في العهد الجديد: "صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (مت 5: 44). فأثبت موسى بذلك أنه "كان حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض"، كشهادة الوحي عنه. ورغم أن الرب قد استجاب لصلاة موسى من أجل أخته، إلاَّ أنه إذا أدَّب أب أولاده عندما يخطئون إليه فبصق في وجههم، أَمَا كانوا يخجلون ويتوارون عنه ولو إلى سبعة أيام؛ لذلك أمر الرب بأن تُحجَز مــريم خارج المحلة سبعة أيام حسب شريعته المقدسة التي تسري على كل أبرص (لا 13: 46)، وبعد ذلك تُعاد إلى المحلة، لأن ناموس الرب يجب أن يُطبَّق على الجميع بلا استثناء. وكان حجزها خارج المحلة درساً لجميع الشعب على عدالة الله وعلى عاقبة الخطية ونتائجها، ودليلاً على تكريم الرب لقديسيه وخدَّامه الأمناء. + "فحُجزت مريم خارج المحلة سبعة أيام، ولم يرتحل الشعب حتى أُرجعت مريم. وبعد ذلك ارتحل الشعب من حضيروت ونزلوا في برية فاران." (عد 12: 15و16) حُجزت مـريم خـارج المحلة سبعة أيام بناء على أمـر الرب ثم أُرجعت، ولابــد أنـــه قـُدِّمت عنها الذبائح حسب شريعة البرص، وأُجريت لها الطقوس التي تُجرى على مَن صاروا أطهاراً من المرض. ومن الواضح أن مسيرة الشعب قد تعطَّلت أسبوعاً بسبب خطية مريم وهارون، إذ كان عليهم أن ينتظروا حتى تنضم مريم إلى الرَّكْب، ثم ارتحلوا إلى حضيروت التي كانوا قد جاءوا إليها بعد أن تركوا قبروت هتأوة أي "قبور الشهوة". وحضيروت معناها "قُرى"، وقد أقاموا بها أياماً قليلة. ويرى بعض علماء الكتاب أنها "عين خضرة" التي تقع شمال جبل سيناء بنحو ستة وثلاثين ميلاً، فقد اكتشف علماء الآثار أحجاراً مرصوصة في هيئة دوائر تدل على نزول قبائل من الرعاة في ذلك المكان حيث ضربوا خيامهم هناك. ومن حضيروت نزلوا في برية فاران، ومعناها "موضع المغاير"، وهي برية شاسعة في أقصى جنوبي فلسطين بالقرب من قادش برنيع. تعليقات الآباء على زواج موسى بالمرأة الكوشية، ونميمة مريم وهارون ضد أخيهما: يُعلِّق العلاَّمة أوريجانوس على ذلك قائلاً: [التعليم الأول الذي أستخرجه منه هو تعليم نافع وضروري، وهو أن لا تحتقر أخاك، ولا تفتح فاك لتشتم قريبك. ولا أقول فقط عن القديسين بل أي مَن كان... ففي المزامير نرى أن الله يغضب بنفس الطريقة ضد هذه الخطية عندما يقول: "تجلس تتكلَّم على أخيك، لابن أُمك تضع معثرة" (مز 50: 20)، وفي مزمور آخر نتعلَّم أن هذا الأمر يُحزن الله أكثر من كل شيء، إذ يقول: "الذي يغتاب صاحبه سرًّا هذا أقطعه." (مز 101: 5)]( ) كما يُعلِّق على زواج موسى من المرأة الكوشية قائلاً: [إن مريم هي رمز الشعب البدائي، وموسى يُمثِّل شريعة الله، وهو الذي تزوَّج من امرأة كوشية مُنبئاً بقبول الأمم.]( ) (يتبع) |