بحث تاريخي


دير راهبات السيدة العذراء مريم
بحارة زويلة
(2)

الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي
أستاذ الآثار والفنون القبطية
ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس

3. وصف الرحالة ألفريد بتلر (1882م)

لكنيسة العذراء الأثرية:

عندما وفد هذا الرحالة إلى مصر دارسًا ومسجلًا للتاريخ، ألَّف كتابه الكنائس القبطية القديمة في مصر حيث تحدث بين سطوره عن كنائس حارة زويلة والأديرة الملاصقة لها، مؤكدًا على أن مستوى الكنيسة كان لدى زيارته لمصر تحت مستوى الشوارع المحيطة بها بحوالى 14 قدمًا وطولها حوالي 18 مترًا. ويوجد بالكنيسة اثنا عشر عمودًا قديمًا، ست منها على كل من جانبي الصحن الأوسط، هذا بخلاف أعمدة فيNarthex أي الجزء الغربي من الكنيسة، وأشار كذلك إلى رؤيته لستائر في غرب الكنيسة، مما يشير إلى وجود قسم للرجال في الشرق. أمَّا الجزء الغربي فخُصص للسيدات. وأكد ألفريد بتلر على أن عادة وجود سيدات في الطابق العلوي للكنيسة تعود إلى عصر القديس أوغسطينوس، أمَّا وجودهن بالقسم الغربي من الصحن فكان معروفًا من القرن العاشر الميلادي تقريبًا. كما أوضح بأنه يوجد على الأجنحة عشرة أعمدة بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه توزيعها غير منتظم. ويوجد أيضًا أمام الخورس عدد أربعة أعمدة. وبذلك يكون الإجمالى للأعمدة الموجودة هو خمسة وثلاثون عمودًا.

وأضاف هذا الرحالة أيضًا: "إن الصحن على شكل (قبو) محمولة جدرانه على أعمدة ممتدًّا من الشرق إلى الغرب وتحمل جدرانه أعمدة وفوق هذه الأعمدة توجد عروق خشبية عريضة رابطة، مبني فوقها عقود صغيرة مفرغة للتخفيف من ثقل الجدران. كما توجد عروق خشبية سميكة بعرض الكنيسة لتحزيمها. ولا يوجد خورس منفصل بالمعنى الواضح فهو يفتح هناك على سائر الصحن والأجنحة بعرض الكنيسة كلها. وعلى جانبي الصحن نجد جناحين. أحدهما الخارجي من الجهة الجنوبية وهو ضيق جدًّا. يليه جناح عرض 3 قدم في طرفه الغربي ولكنه مفتوح في وسطه ثم أعرض في طرفه الشرقي".

كما أوضح ألفريد بتلر أن عمارة الكنيسة الأصلية احتوت على أربعة هياكل بالإضافة للهيكل الأوسط الرئيسي، أي هيكلين على كل من جانبَيه. وتبقى منها في عصره ثلاثة هياكل فقط، وتغطي الهيكل الأوسط قبة أعلى من قبو الصحن وتزينها زخارف على شكل دلايات مثقوبة في الحجر أمام تجاويف معينة أو ما يُعرف بالمقرنصات. وفي جوانب ثلاث من القبة، توجد نوافذ ملونة متأثرة بالطراز البيزنطي. كما يُرى اثنان منها برأس مستديرة فوق عمود تنصيص.

ووفقًا لما دونه ألفريد بتلر، فإن الحنية الشرقية الكبيرة للهيكل الأوسط بها دَرَج به ست درجات رخامية. كما وجد في وسط هذه الحنية الكبيرة بقايا خزف قديم دمشقي. وعثر في وسطها كذلك على عرش البطريرك. أمَّا باقي جدران الهيكل أي الجدارين الشمالي والجنوبي، فكانا مغطيان بقرميد مؤرخ من القرن الثامن عشر أو التاسع عشر الميلادي تقريبًا.

كما عثر ألفريد بتلر في الجدار الشمالي على لوحٍ أو قطعة من الحجر الجيري الأبيض مستخدمة في بناء الجدران يظهر بها حدود دلفين بين ثلاث مجموعات من الأشكال تضم زوجًا من طائر خرافي برأس بشري وقنطور ورأسين آدميين، ويعكس ظهور القنطور أو هذا المخلوق الخرافي تأثير فن ساساني انتشر في مصر بداية من أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الميلادي.

وأكد ألفريد بتلر على أن الجزء الأخير منه مكسور ويؤرخ من الفترة البيزنطية المبكرة. ويتضح من كل هذا أن الكنيسة تأسست قبل تشييد مدينة القاهرة الفاطمية. كما أكد تقي الدين المقريزي في خططه على أن أمام الهيكل الرئيسي، يوجد حجاب قديم مطعم بالعاج غير المنقوش على شكل نجمة داخل دوائر معينة. وتتميز زخارف حامل أيقونات الهيكل الجنوبي بوجود صليب داخل مربع.

ويمتد حجاب هذا الهيكل بجانب الهياكل الأخرى وتعلوه مجموعة من الأيقونات القديمة ليذكرنا بالأحجبة الخشبية في الكنيسة المعلقة للقديسة مريم العذراء وأيضًا كنيسة أبا سرجة في منطقة مصر القديمة. وفوق حافة الحجاب الأوسط، يوجد صليب كبير من النوع الذي يُعرف في اللغة الإنجليزية بلفظ Rood وهو صليب مرسوم عليه السيد المسيح المصلوب. وعلى كلا جانبي هذا الصليب، توجد أيقونتان داخل إطار مُعيَّن للقديس يوحنا الحبيب John the Beloved والقديسة العذراء مريم. وأكد ألفريد بتلر أن هذا الصليب هو النموذج الوحيد الذي رآه لأيقونة السيد المسيح المصلوب معلقًا فوق حجاب هيكل في كنيسة قبطية بالقاهرة.

وفي أسفل هذا الصليب، يوجد نقش خشبي لنسرين يصارعان شكلين لحيوانيين برأسين بشريين. وفي رقبة كل نسر، توجد حشوة مرسوم عليها شكل القديسة مريم ويوحنا. ويرجح بعض الدارسين أن هذا الصليب قد تم تنفيذه بواسطة أحد الرسامين الروم والذين كان يستعان بهم إلى جانب الرسامين والفنانين الأقباط ومنهم أيضًا أنسطاسي الرومي ونيقولا ثاودري الأورشليمي رسام الكنيسة المرقسية بالأزبكية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.

كما أشار ألفريد بتلر أيضًا إلى العناصر الزخرفية الموجودة في إطار باب الهيكل الرئيسي والمكونة من صلبان وورود وأشكال طيور صغيرة. وذكر ألفريد بتلر وجود الأيقونة العجائبية بأسلوبها الفني النادر. وهي الأيقونة التي تمثل لنا السيدة العذراء التي تظهر بشكل نصفي وهي تحمل السيد المسيح الطفل بين فروع شجرة تنبع من أصل يسى وحولها الأنبياء.

4. وصف مرقس سميكة باشا لكنيسة العذراء الأثرية:

كان مرقس سميكة باشا من أشهر أعيان المجتمع القبطي في بدايات القرن العشرين. وهو أول مؤسس ومدير مصري لمتحف أثري مصري وهو المتحف القبطي بالقاهرة. وتقلَّد مرقس سميكة باشا مناصب شتى، منها أنه كان رئيسًا للجنة الآثار العربية وأيضًا زميل مجمع الأثريين وكان رئيسًا للقسم الفني بلجنة الآثار العربية. وفي الجزء الثاني من دليل المتحف القبطي والخاص بأهم الكنائس والأديرة الأثرية بمصر، أشار إلى كنيسة العذراء الأثرية بحارة زويلة قائلًا: "إن الهيكل الجنوبي المكرس باسم الملاك جبرائيل وحجاب هذا الهيكل مطعم بالعاج ومحلى بنقوش بارزة في أعلاه أيقونة في إطار واحد وأمام هذا الهيكل توجد بئر. أمَّا الهيكل الأوسط فحجابه من خشب الأبنوس المطعم بالعاج وتعلوه ثلاث عشرة أيقونة هي العذراء تحمل السيد المسيح وعلى جوانبها الإثنا عشر رسولًا وفي أعلى الحجاب صورة السيد المسيح مصلوبًا وعلى جانبيها أيقونتان للسيدة العذراء ومار يوحنا الحبيب وجميعها مثبتة على تمساحين من الخشب، وباب الهيكل مطعم بعاج به نقوش بارزة تمثل طيورًا وحيوانات من صناعة القرن الثاني عشر ويرجع تاريخها إلى 1465ش 1749م. كما يوجد في صحن الكنيسة منبر (إمبل) من الرخام يرتكز على أربعة أعمدة وعليه نسر من الخشب، أمَّا الهيكل البحري (الشمالي) فهو باسم الملاك ميخائيل وحجابه من الخشب المطعم بالعاج تطعيمًا بسيطًا ويرجع تاريخه إلى عام 1779م ويليه هيكل مار يوحنا المعمدان وحجابه كالسابق".

الاحتفالات الدينية بكنيسة العذراء الأثرية بحارة زويلة:

كانت تقام سنويًّا ثلاث احتفالات كبرى يشارك فيها غالبية الأقباط، أولها عيد أحد السعف وثالث يوم الفصح وعيد الصليب يوم 17 توت الموافق 27 سبتمبر. وبعد إقامة الصلاة، اعتاد القساوسة والقمامصة على أن يخرجوا مع جموع الشعب، وهم يرتلون حاملين الأناجيل والمجامر والصلبان وأغصان الزيتون إلى قنطرة الميمون خارج حارة زويلة في مناخ روحاني لا مثيل له، ثم يعودون مرة أخرى إلى الكنيسة الأثرية.

رواد من كنيسة العذراء بحارة زويلة:

ذكر أبو المكارم أسماء بعض رواد عاصرهم وكانت لهم بعض بصمات لا تنسى في حارة زويلة مثل صنيعة الخلافة أبو ذكرى يحيى المعروف بالإكرام وابن الشيخ السعيد أبو المكارم هبة الله بن مينا المعروف بابن بولس. وكان صنيعة الخلافة هذا يشغل وظيفة متولي ديوان التحقيق، ثم عمل بعد ذلك في ديوان النظر ليراجع جميع أعمال الدواوين الأخرى وكان له حق العزل والتعيين والتنقل في الدرجات العليا. كما كان هناك كثير من الأراخنة الذين خدموا كنيستهم بإخلاص شديد مثل الأمير جمال الكفاءة أبو السعيد الأرشيدياكون في عصر خلافة الحافظ أبو الفرج بن أبي الفخر بن مسعود. وقد شارك هذان الأرخنان مع الشيخ المؤتمن سعد الله بن جرجس المشهور بأبي المكارم في عمل زخارف كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة، والتي رسم كثير من الأيقونات الموجودة بها الراهب مقارة الذي أصبح فيما بعد البابا مكاريوس الثانى Macarius II البابا 69 والذي كانت نياحته في 1128م.

نظارة كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة:

كان البابا يؤانس السادس عشر John XVI رقم 103 (1676-1718م) هو أول من فكر في أن يسن نظامًا جديدًا، فأسند نظارة الكنائس في مصر إلى المتعلمين فاختار منهم أراخنة. وفي نهايات القرن الثامن عشر، بزغ نجم المعلم إبراهيم الجوهري والذي كان ناظرًا لهذه الكنيسة مع نظارته لبعض الكنائس القبطية الأخرى. وخلفه بعد نياحته شقيقه جرجس الجوهري والذي عاصر فترة حكم محمد علي باشا والي مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. ولم يبخل جرجس الجوهري على كنيسته بتزويدها ببعض المخطوطات على نفقته. وجدير بالذكر أن كل من الأخوين إبراهيم وجرجس الجوهري كانا من أثرياء الأقباط حينذاك. وقد أخذ كل منهما على عاتقه مهمة تجديد كثير من الأديرة والكنائس القبطية القديمة إلى جانب تشييد كثير من المنشآت الدينية الجديدة في كل ربوع مصر على نفقتهما الخاصة. ونشير أيضًا إلى فرج الله مليكة ومن بعده المقدس أرمانيوس عبد المسيح الذي عاش في أيام الأنبا يؤنس 19 John XIX رقم 113 (1928-1942م).

أهم مشاهير الأقباط في حارة زويلة:

ومن أهم مشاهير الأقباط في حارة زويلة الأثرية، نذكر وهبي بك تادرس وكان من مواليد هذه الحارة. وقد كتب كثيرًا من المقالات في الصحف والمجلات ونال رتبة الباكوية مكافأة له لنشره المعارف بين الناس. كما نشرت بعض مؤلفاته المسرحية في عصر الخديوي توفيق (1879-1892م). كما برز في النصف الأول من القرن العشرين راغب ساويرس الذي وُلد في 15 أغسطس سنة 1902م من أبوين متواضعين ولكنهما كانا من أكثر الأقباط تعلقًا بالكنيسة. وكانت ساقه اليمنى أقصر من اليسرى وأقل مقدرة على الحركة منذ ولادته، فاضطر إلى أن يتوكّأ على عكازين طويلين. ولما كان راغب ساويرس هو الولد الوحيد، فقد كان أبوه يصحبه دائمًا إلى الكنائس والاجتماعات الروحية. ومنذ الثامنة من عمره، تعلم الألحان الكنسية وحفظ الألحان والمردات بسرعة. ولما بلغ الخامسة عشر من عمره، أدخله أبواه مدرسة العرفاء، فذهب راغب ساويرس إليها فرِحًا على الرغم من مشقة الطريق ما بين مصر القديمة حيث كان يسكن ومهمشة التي تقع المدرسة فيها. وقضى راغب ساويرس أربع سنوات الدراسة وتخرج سنة 1919م. وكان غنيًّا جدًا فى روحانياته وتمتع برتبة أرشيدياكون وعمل في حارة زويلة ما يقرب من نصف قرن. وقد أجاد راغب ساويرس الألحان والمدائح والقداسات. ولمَّا استطاع أن يكون له دكان، بمفرده، اختاره على مقربة من حارة زويلة. وأسس "جمعية أبناء الرسل"، واستهدف أعضاؤها البحث عن الضالين وردهم للكنيسة ومصالحة العائلات المتخاصمة بالإضافة إلى الحرص على مواصلة خدمة الشماسية. وتنيح بسلام في 14 من شهر فبراير سنة 1945.

وتجدر بنا الإشارة كذلك إلى واحدٍ من أهم رجال الكنيسة القبطية في الثلث الثاني في القرن العشرين وهو المؤرخ كامل صالح نخلة، عضو لجنة التاريخ القبطي والذي عُرف بمؤلفات كثيرة نشرت في خمسينيات القرن الماضي. وكان أيضًا شماسًا بالكنيسة، ومن أعماله أنه ترك مسودة سجَّل فيها بعض المعلومات عن حارة زويلة الأثرية.

الخاتمة

وممَّا سبق، تتضح الأهمية التاريخية والأثرية والفنية والدينية الكبيرة لحارة زويلة الأثرية لِمَا شُيِّد بها من أديرة وكنائس قبطية هامة لاسيما دير العذراء للراهبات وكنيستها الأثرية وما بها من طرز معمارية وفنية أصيلة وفريدة تبوح بأدق تفاصيل وخصائص العمارة والفنون القبطية.

كما شهدت هذه المنطقة الأثرية العريقة ميلاد شخصيات قبطية كثيرة أثْرَت تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بإنجازات مختلفة في شتى المجالات، وكانت لها بصماتها المؤثرة بعمق في نسيج المجتمع المصري على مَرِّ التاريخ.

* * *

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis