مقال مترجم



الميامر النسكية
للقديس مار إسحق السرياني
( 2 )

استكمالاً لما عرضناه في العدد السابق (عدد أكتوبر 2020 صفحة 26):

ولقد وجـد أبُ ديرنا (دير التجلِّي بأمريكا)، بتدبير الله عندما كـان راهبًا شابـًّا، مخطوطة يونانية قديمة لكتاب مار إسحق في دير على جبل ”تايجستس“ الذي يقع فـوق مدينـة ”كالاماتا“ باليونـان (التـي سُمِّيَ نـوعٌ مـن الزيتـون باسمها). ورغم أنَّ الدير كان قد تحطَّم في حرب مع الشيوعيين ما بين عامَي 1940 و1945م؛ إلاَّ أنَّ هذه المخطوطة كانت هي إحـدى الأشياء والكُتُب القليلة التي نَجَتْ من النيران!! لقد تحطَّم معظم الديـر حتى المكتبـة، وبَقِيَت فقط الكنيسة والمضيفة حيث وُجِدَت هذه المخطوطة مع كتاب آخر في المضيفة، ربما كان قـد استعارهما أحد الزائريـن ليقرأ فيهما. وهكـذا نجَّى الله هـذه المخطوطة!!

توسَّل أب ديرنـا إلى أُمِّ الدير الذي آلت إليه بقايا الدير المُحطَّم، والذي كـان يُدعَى ”ديـر القدِّيسَيْن قسطنطين وهيلانة“ في كالاماتا، توسَّل إليها أن يأخذ مخطوطة مار إسحق، وذلك لمنفعة كثيرين، ولا سيما أن أخوات الدير لن يتمكَّنَّ من قراءتها - لـو أَرَدْنَ ذلك - بسبب قِـدَم الورق وصعوبة فَهم اللغة ومتابعة الاستفادة منها. ورغم أنَّ الأُمَّ الرئيسة كـانت عمَّة الأب (بالجسد)، إلاَّ أنها رفضت أولاً أن تُعطيه إيَّاهـا، ولكنها أخيرًا أذعنت لطلبه. وهكـذا جـاء بكلِّ فرح إلى العالم الجديد (أمريكا) بهذه النسخة الثمينة!

وهكـذا ظـلَّ أب ديـرنا، منذ بكور حياته الرهبانيـة، يحمـل معه مخطوطة مـار إسحق السرياني كرفيق لحياتـه الرهبانية، واستطاع أن يُغذِّينا مـن تعاليمه منذ إنشاء ديرنـا في أوائل الستينيات. ثم أُجريت عدَّة محاولات لترجمة تلك المخطوطة إلى اللغة الإنجليزية لمنفعة الكثيرين، ولكـن كانت هناك صعوبات عديـدة في ترجمة المعاني الروحانية الدقيقة!! وأخيرًا التحق بديرنا شاب وافق أن يأخذ على عاتقه إتمام هـذا العمل الشاق مُطيعًا توجيـه أبينا الروحي بكـلِّ قلبه... وهكذا تمَّت هـذه الترجمة بعد عدَّة سنوات مـن الكفاح والتجارب والمعوِّقـات. ثم وجـد أبونـا الروحي بعض الجُمَل تحتاج إلى إعادة الصياغة، فعملنا مُقارنات بين بعض الترجمات اليونـانية الأخـرى التي حصلنا عليها بصُـور ميكروفيلم، وكذلك مع بعض الترجمات السُّلافية والروسية. وقد وجدنا أخطاء لبعض النُّسَّاخ. أمَّا في النُّسَخ المطبوعة، فقد وُجِدَت فيها جُمَل ناقصة، لدرجة أنَّ أبانا كـاد أن ييأس مـن إنجاز هـذه الطبعة الإنجليزية. ثم وجـد أخونـا المُترجم أنَّ هناك ضرورة مُلحَّة لدراسة اللغة السريانية (التي كَتَبَ بها مار إسحق) لأجل حلِّ المشاكل الموجودة في اللغات الأخرى، فسمح له الأب بذلك.

مُبارَكٌ هو اليوم الذي تعلَّم فيه هـذا الراهب اللغة السريانية، لأنه استطاع ليس فقط أن يتخطَّى الصعوبات والمشاكـل، بـل أيضًا تفتَّحت أمامنا جميعًا مجالات لإضافة كل النواقص، بل وأيضًا لترجمة عدَّة كتابات لم يسبق نشرها لهذا القديس وللقدِّيسين مـار أفـرام السرياني ومـار يعقوب السروجي وآخرين كانـوا مجهولين (لنا). وكأن ينابيع مياه حيَّة قد تفجَّرت أمامنا! إننا لا نستطيع أن نُوفي مُخلِّصنا الصالح حقَّه مـن الشكر من أجل هذه الكنوز التي صارت لنا، ولا سيما ميامر مار إسحق في هذا الكتاب. وقـد كانت تدابير الرب الأخرى لنا، لتسهيل إخراج هـذا الكتاب، عجيبة وعديدة وبعضها على مستوى المعجزات!

وقد ذيَّلنا هـذه الميامر النسكية، بعد انتهائها، بنبذة تاريخية قصيرة، ولكنها شاملة، عن الكنيسة في بـلاد فـارس بما فيها عصر مـار إسحق. والهدف من ذلك هو إثبات أنَّ قدِّيسنا هذا لم يكن نسطوريًّا كما يقولـون عنه! فقـد ثبت تاريخيًّا أنَّ الكنيسـة في بـلاد فـارس - في عصـر مار إسحق - لا يمكن أن تكون كنيسة نسطورية بالمفهوم العقائدي السليم، فضلاً عـن أنَّ جميع كتاباتـه خَلَت مـن أيَّة عقيدة نسطورية أو أيَّة هرطقة من هرطقات عصره!!

ولو كان مجمع ديرنا لم يستطع أن يُقدِّم أي شيء روحي سوى هذه الترجمة المطبوعة باللغة الإنجليزية لهـذا الكنز الثمين، فنحـن نعتَبِر أنَّ الغرض مـن وجودنا كـرهبان أرثوذكسيين في الغرب قد تحقَّق! لأن هذا هو تقييمنا لأهمية هذا الكتاب في الحياة الروحانية للكنيسة!

ومن العجيب جدًا أن نسمع مـن أبينا مؤسِّس ديرنا الأب الكبير ”بندلائيمون“ أنـه قبل تأسيسه للديـر - أي في الفترة مـن عـام 1958 حتى عـام 1962م - كـان مواظبًا على قراءة كتاب مار إسحق قبل ترجمته من اللغة اليونانية في كلِّ ليلة بلا استثناء. ورغم أنه كان يقرأ على التوالي، أي بالتسلسُل، فيبدأ كـل يوم مـن حيث انتهى بالأمس؛ فمهما أُثير من تساؤلات أو مشاكل أثناء اليوم فإنـه يجـد حلَّهـا أو الإجابـة عليها في هـذا الكتاب في نفس الليلة!! ولم يحدث معه ذلك مرَّة أو مرَّات، بل يوميًا لبضعة شهور، وكـان هـذا الكتاب كأنه عبارة عـن أب كبير من آباء الرهبنة يُجيب على الاستفسارات، بل حتى على الأفكار! وواضـحٌ أنَّ الرب سمح بـذلك، لأنـه - كما قال - لم يكن له مُرشد! وكان يقول حتى يوم انتقاله إنَّ هذه المشورة لمار إسحق لم تَكُفَّ حتى الآن. وأنـا أعتقد أنني ما كان مُمكنًا لي أن أستمر في حياتي الرهبانية لولا أبي القديس هذا!!

وحتى بعد إنشاء الدير، فقـد كان يقتبس من هـذه الميامر يوميًا للرهبان، كما يرجع الفضل إليها في أنَّ الدير صار يوفِّر للرهبان كـل يوم ساعـات للهـدوء والصلاة والقراءة! بـل حتى أعمالنا اليومية لسدِّ احتياجاتنا الجسديـة وغيرها، كُنَّا نستشير فيها كتاب مـار إسحق. ولا يـزال أباؤنا الكبار حتى اليوم ينصحوننا من ميامر هذا القديس حيث إنهم يختبرونها في حياتهم!...

ولعلك ستُلاحِظ، أيها القارئ الحبيب، وجود خيط واحد يربط هذه الميامر ببعضها، فأساسيات الحياة الروحية - كما يُوضِّـح كاتبها القدِّيس - أهمها: الاتضاع، والإيمان، ومخافة الله، والتوبة المؤدِّية إلى تغيير القلب الذي بـدوره يؤدِّي إلى المحبة التي تجعلنا مُشابهين للحبيب. كـل هـذه تجعلنا لابسين المسيح: «لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ» (غل 3: 27).

اقبلوا، أيها القرَّاء الأتقياء، تقدمتنا هـذه مـن الميامـر المُلهَمَة مـن الله التي لأبينـا القديـس مار إسحق السرياني، وكـأنها مَرْكَبة إيليا النبي الناريـة التي بها يُمكننا أن نصعد إلى السموات، لأنها حقًّا أُرسِلَت لنا مـن الله لهـذا الغرض. احتضنوا هـذا الكتاب المُبارَك وضَعوا كلامه في قلوبكم وعلى جباهكم وبين عيونكم على الدوام. اشكروا الرب، لأنـه سمح بوصول هـذا الكتاب إلينا مـن تلك الأزمنة الغابرة حيث حُفِظَ لمنفعتنا وتعليمنا.

واذكرونا نحـن أيضًا رفقاءكم، وصلُّوا لكي نبلغ معًا إلى أورشليم العُليا الحُرَّة التي هي أُمُّنا كلنا (غل 4: 26)، آمين.


نبذة تاريخية عن:
سيرة وكتابات القديس مار إسحق السرياني

لحُسن الحظ احتفظ لنا الأدب السرياني بنبذتين قصيرتين عـن حياة القديس مار إسحق، يمكنهما أن تُلقيا ضوءًا على هذه الأفكار الغامضة: النبذة الأولى كتبها مؤلِّف مـن القـرن التاسع، وهـو سرياني الأصل واسمه ”عيشودنـاه“، هـذا الذي ألَّف كتابـًا بعنوان: ”كتاب العفة“ يتضمن بعض سِيَر مُختصرة عن رهبان مشهورين من الكنيسة الفارسية عاشوا قبله. في هذا الكتاب وجدنا النبذة الآتية:

[عـن القديس مار إسحق أسقف نينوى الذي تخلَّى عـن أسقفيته وألَّف كُتُبًا (أو ميامـر) عـن الحياة الرهبانية: كـان قد رسمه رئيس الأساقفة مـار جوارجيوس (جرجس) أسقفًا لنينوى في ديـر ”بيت أبهي“، ولكنه بعد أن تولَّى رعايـة شعب نينوى لمدَّة خمسة شهور (خَلَفًا للأب مـوسى الأسقف السابق)؛ تخلَّى عـن أسقفيته لسببٍ يعلمه الله، ورحل وسكن في الجبال. فظلَّـت هـذه الإيبارشية خاليـة لبعض الوقت، ثم رُسِـمَ المُبارَك ”سابريشو“ الذي تخلَّى أيضًا عن الأسقفية وعاش مُتوحِّدًا في زمـن ”حنان عيشو“ (الذي جمـع أقوالاً كثيرة لآبـاء البريَّـة)، ثـم رقـد في ديـر ”مار شبهين“ في مُقاطعة ”فاردو“.

ولمَّا تخلَّـى مـار إسحق عـن إيبارشية نينوى، سكن في جبل ”ماتوت“ (القديس متى) المنعزل الذي كـان مُحاطـًا بمقاطعة ”بيت حوزاي“ (وهي مقاطعة ”خورستان“ الحالية في جنوب غرب إيران)، وكان يسكن بجواره بعض المُتوحِّدين مثله. ثم ذهب بعد ذلك إلى دير ”ربَّان شابور“. وقد كـان متفوِّقًا جدًا في الكتابات الروحانية، ووصل إلى درجة أنه فَقَدَ بصره بسبب قراءاتـه الكثيرة ونُسكه الكثير. ولقـد تعمَّق كثيرًا في الأسرار الإلهية وألَّف كُتُبًا في التدبير الروحاني لحياة التوحُّد. وقد ذَكَرَ ثلاث نقاط لم يقبلها البعض. ولمَّا شاخ جدًّا، انتقل مـن هـذه الحياة الوقتية ووُضِعَ جسده في ديـر ”ربَّان شابور“. وكان قد وُلِدَ في ”بيت قاطراي“. وأعتقد أنَّ الحسد قد أُثير ضدَّه مـن الذين كانوا يسكنون في المناطق الداخلية (المجاورة لنهـر الفرات)؛ تمامًا كما حـدث مـع ”يواصف (أو يوسف) هزايـا“، و”يوحنان“ الذي من ”أباميا“، و”يوحنان“ الذي من ”دالياثا“](1).

أمَّـا النبذة (الوثيقة) الثانية، فقـد احتفظ بها السريان الغربيون، ولكـن كاتبها وتاريخ تأليفها مجهولَيْن. وهي تقول:

[ونحـن نُسجِّل أيضًا تاريـخ (أو في الحقيقة انتصـار) الأب المُبارَك مـار إسحق، الذي يُوضِّح مكان نشأتـه وطريقة حياتـه، وكيف صار أسقفًا على نينوى، ولكنه بعد ذلك تخلَّى عنها وذهب إلى دير وألَّف خمسة أجزاء من التعاليم للرهبان].

[وُلِدَ مار إسحق في مقاطعة ”بيت قاطراي“ المجاورة للهند. ولمَّا صار مُتضلِّعًا في كُتُب الكنيسة والشروحات الروحانية، صـار راهبًا ديـريًّا ومُعلِّمًا في مُقاطعته. ولمَّا جـاء مار جوارجيوس الكاثوليكوس إلى هذه المقاطعة، أَخَذه إلى ”بيت أرامايا“ (المجاورة لنهر دجلة) عند أحد أقربائه وهـو مار جبرائيل الذي من ”قَطَر“ (إحدى دول الخليج العربي الآن) الذي كان مُفسِّرًا للكُتُب المقدَّسة في الكنيسة.

ثم رُسِمَ مار إسحق أسقفًا لنينوى في ديـر ”بيت أبهى“، ولكنه بسبب تدقيقه في حياتـه وغيرته، لم يستطع أن يتحمَّل المهام الرعوية لهـذه المدينة إلاَّ لمدَّة خمسة شهور فقط، ثم رجع إلى سكونـه. فقد ألَحَّ على الكاثوليكوس (رئيس الأساقفة) أن يستغني عنه، فـأَذِنَ له بالرحيل. ثم أقـام في هدوء البريَّـة في جبل ”بيت خـوزاي“ مجاورًا لبعض المُتوحِّديـن هناك. وأخيرًا صار ضريرًا، وكـان الإخوة يكتبون تعاليمـه وكانـوا يُسمُّونه ”ديديموس الثاني“، لأنه كـان حقًّا هادئًا طيِّبًا متواضعًا، وكان كلامه حلوًا. وكان لا يأكل سوى ثلاث خبزات في الأسبوع مـع بعض الخضروات، وكـان لا يذوق أي طعام مطبوخ. وقـد ألَّف خمسة أجزاء معروفة حتى يومنا هـذا وهي مليئة بتعاليم حلوة نافعة ... ولمَّا شـاخ وطعن في السِّـنِّ، انتقل إلى الرب ودُفِنَ في ديـر ”مار شابور“. ليت صلوات والدة الإله مريم وجميع القدِّيسين تكون معنا آمين](2). (يتبع)

____________________________________________________

(1) "Isho Denah", Le Livre de la Chasteté, ed. J. B. Chabot, Mélanges d'Archéologie et d'Histoire 16 (1896), pp. 63-64 (2778).

(2) Studia Syriaca I, ed. I. Rahmani (Beirut, 1904), p. 33 (32-33).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis