|
|
|
«أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي» (يو 17: 23)
[ تكملة لما نشرناه في العدد (أكتوبر 2020 ص 10)]:
الكنيسة جسد المسيح:
+ الإنسان، لم يخلقه الله ليكون بمعزل عنه، بل لقد خُلِقَ ليحيا في اتحاد مع الله. وكانت هذه الغاية الفائقة هي مسرة الله ومشيئته وقصده من قبل تأسيس العالم. فالله منذ البداية خلق الإنسان على صورته ومثاله، لذلك كان تدبير ملء الأزمنة هي أن يجمع الله كل شيء في المسيح، ما في السموات وما على الأرض... ويجعله رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده (انظر: أف 1: 1-23).
+ وقد بدأ بلوغ هذه الغاية، التي هي اتحاد الله بالإنسان، بالتجسُّد الذي هو اتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية، التي تحققت بتجسُّد الله الكلمة وميلاده من العذراء مريم التي حلَّ عليها الروح القدس، فصارت والدةً للإله، والخِدر المُزيَّن بكل نوع الذي للختن الحقيقي الذي اتَّحد بالبشرية فتكوَّنت الكنيسة (انظر: ثيئوتوكية الأربعاء). ويقول ق. كيرلس:
[لقد نزل كلمة الله من السماء - كما يقول هو نفسه - لكي يتحد بصفته العريس بطبيعة الإنسان ... ولأجل ذلك تُدعَى البشرية عروساً كما يُدعَى المخلِّص العريس](1).
+ وهكذا تحقَّق ما قاله الرب يسوع في صلاته الختامية: «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يو 17: 23). ومن هنا فإن حياة أعضاء الكنيسة ”أعضاء جسد المسيح“ هي حياة سرِّيَّة بالمسيح وفي المسيح وللمسيح (الرأس)، وهم متَّصلون على الدوام بالرأس، ومتحدون به ومتجهون نحوه. ومن خلال الرأس الذي هو ”الواحد من الثالوث“ تكون الكنيسة في علاقة اتحاد وشركة مع الثالوث القدوس، حيث يمكننا القول إن ”الله الآب اتحد بالإنسان من خلال الابن في الروح القدس“. ولذا يدعو الكتاب المقدَّس المؤمنين أعضاء الكنيسة «أَهْلِ بَيْتِ اللهِ» (أف 2: 19). كما يصفها أيضاً قائلاً: «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً، يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي الرَّبِّ ... مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً للهِ فِي الرُّوحِ» (أف 2: 20-22) وفي رسالة ق. بولس الرسول إلى كولوسي يصف الكنيسة قائلاً: «الَّذِي هُوَ (المسيح) قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّماً فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ (الآب) أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ أَمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ» (كو 1: 17020).
+ والكنيسة كجسد المسيح هي وحدة عضويَّة ”جسد واحد“: وحدة مع الله من ناحية (من خلال المسيح وفي الروح القدس)، ووحدة للأعضاء بعضهم مع بعض من ناحية أخرى (من خلال وحدتهم مع الله). وحدة لا تلغيها التعددية، وتعددية لا تلاشيها الوحدة. وهذه الوحدة تتحقَّق بالروح القدس والإفخارستيا.
تجديد الصورة الإلهية من جهة
استعادة الشركة بين المؤمنين:
+ يطلب الرب يسوع من الآب في صلاته الختامية من أجلنا: «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ.. لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً» (يو 17: 17-21). ويقول ق. كيرلس تفسيراً لهذه الآية:
[إنه يطلب «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ» أن يُرسل الآب بواسطته عليهم تقديس الروح القدس وبركته ... «لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا»](2).
وذلك على اعتبار أن الروح القدس هو روح التقديس المنوط به أن يُقدِّسنا، وكذلك هو روح الوحدة الذي يوحِّدنا بعضنا ببعض.
وبدخول كل واحد منَّا في هذه الوحدة الفائقة مع الله والتي ليس ما يشابهها في هذا العالم، أمكن أن يكون بيننا في الله فقط، نوع فائق من الوحدة. ويُلاحَظ أن الرب وهو يطلب لنا أن نشابه هذه الوحدة التي بينه وبين الآب قائلاً: «كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ» (يو 17: 21).
تدبير الخلاص هو من الآب بالابن في الروح القدس:
يقول ق. أثناسيوس الرسولي إن تدبير الخلاص مثله مثل كل أعمال الله هو [من الآب بالابن في الروح القدس](3). كما يقول ق. كيرلس: إن الروح القدس هو الذي يوحِّدنا بالمسيح مخلِّصنا، لكي ما ينقل إلينا منه، ونحن متحدين به، كل أفعاله الخلاصية التي أنجزها في نفسه أولاً. فالروح القدس هو الذي يأخذ من المسيح ويعطينا كل ما أتمه في ناسوته لحسابنا، لكي يجعلنا ”في المسيح“ وينقل إلينا ونحن في المسيح كل ما فعله في جسده من أجلنا. وحينما نكون ”في المسيح“ فإننا نصير في الآب الذي هو في الابن والابن فيه.
تدبير الخلاص والأسرار:
إن تدبير الخلاص، بكل تفاصيله: من تجديد الصورة الإلهية وإبادة الفساد وغلبة الموت والخطية والشيطان والعالم، وكذلك تحقيق الغاية العليا التي خُلِقنا من أجلها من تبنٍّ ومعرفة لله وشركة الطبيعة الإلهية واتحادٍ مع الثالوث القدوس والتألُّه، كل هذا نوهب إياه من الآب بالابن في الروح القدس. فالآب اتَّحد بنا بواسطة ابنه الذي أخذ طبيعتنا الساقطة وشفاها بموته وقيامته، وحقَّق لنا الغاية السامية من خلقتنا، حيث صار لنا وجود كياني في المسيح وقرابة مع الثالوث، وبدء جديد، إذ صار لنا آدم الثاني، وأخذ كل ما لنا ما عدا الخطية، ليعطينا كل ما له. وقد حقَّق ذلك كله في نفسه أولاً، لكي حين نتَّحد به تنتقل لنا منه كل ما أنجزه في ناسوته لحسابنا. ولهذا فنحن عندما يسكن فينا الروح القدس الذي هو روح الابن، فإننا بالروح القدس نصير في الابن المتجسِّد، أي المسيح وينقل لنا الروح القدس ونحن متحدون بالابن كل العطايا والخيرات الصالحة التي صارت لنا في الابن، وهكذا بالروح القددس في الابن نُستعاد إلى الآب.
فكما مات المسيح من أجلنا على الصليب، نموت نحن أيضاً معه: «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيْمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غل 2: 20). «أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ؟ فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ. لأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْخَطِيَّةِ. فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ الْمَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ ... كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلكِنْ أَحْيَاءً للهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رو 6: 3-11). «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي المَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا، إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِالْصَّلِيبِ» (كو 12:2-14).
الروح القـدس والإفخارســــتيا
يوثِّقان علاقتنا الكيانية بالمسيح:
كثيراً ما يقرن الآباء وبالأخص ق. كيرلس في كتاباتهم بين الروح القدس والإفخارستيا كوسيلتين إلهيتين لحلول المسيح فينا وتقديس نفوسنا وتغيير شكلنا وتوحيدنا بعضنا ببعض.
فيقول ق. كيرلس:
[لقد نلنا نصيباً في القرابة معه بواسطة الإيمان. فقد صرنا شركاء معه في الجسد بواسطة (سر الأولوجية) = (سر الإفخارستيا) وأيضاً اتحدنا به من جهة أخرى إذ صرنا شركاء طبيعته بواسطة روحه القدوس](4).
وهذه القرابة المزدوجة مع المسيح على مستوى الجسد والروح كليهما، القائمة على الإفخارستيا والروح القدس معاً، تمتد منه إلى أن توصلنا إلى ملء الاتحاد مع الله الآب عينه. يقول في ذلك ق. كيرلس:
[فقد صرنا إذن مُكمَّلين في وحدتنا مع الله الآب بالمسيح الوسيط، لأننا قبلنا في نفوسنا جسديًّا وروحيًّا (بسرِّ الإفخارستيا والروح القدس) ذلك الذي هو ابن بالطبيعة والحق، الذي له الوحدة الجوهرية مع الآب، وصرنا شركاء في طبيعته الفائقة لكل شيء، وبذلك تمجَّدنا](5).
وكما أن تدبير الخلاص الذي يبدأ بغفران الخطايا واستعادة الخلود وعدم الفساد، إنما يصل أيضاً إلى غايته باتحاد الجميع في الله ”بأن يجمع كل شيء تحت رأس واحد في المسيح“ (انظر: أف 1: 10).
وهنا أيضاً نجد أن الروح القدس والإفخارستيا لهما الدور الأساسي في تحقيق هذه الوحدة الشاملة في المسيح، حيث يقول ق. كيرلس أيضاً:
[فكما أن نعمة الجسد المقدَّس تجعل الذين يتناولونه شركاء في جسد واحد بعضهم مع البعض، فأنا أرى أنه بنفس الطريقة الروح الواحد الذي يحلُّ في الجميع يقود إلى الوحدة الروحية ... وهكذا فنحن جميعاً في الآب والابن والروح القدس. فنحن واحد بأسلوب حياتنا الواحد، ونمط تقوانا الموحَّد، بشركة جسد المسيح وشركة الروح القدس الوحيد](6).
وهنا يجب أن نذكر ما قاله الرب يسوع عن سر الإفخارستيا وضرورته لحياتنا وثباتنا فيه: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. هذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يو 6: 53-58).
(يتبع)
__________________________________
(1) تفسير يوحنا 2: 11
(2) شرح إنجيل يوحنا 17: 20 و21
(3) إلى سيرابيون 1: 20
(4) جلافيرا على سفر التكوين 1
(5) تفسير يوحنا 17: 22 و23
(6) تفسير يوحنا 17: 20 و21