|
|
|
مَثَل الوَزَنات (مت 25: 14-30): لقـد خلقنا الله في المسيح يسوع، كما يقـول بولس الرسـول: «لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَـدْ سَبَقَ اللهُ فَـأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُـكَ فِيهَا» (أف 2: 10)؛ كمـا اختارنا الله: «فِـي الْمَسِيحِ... قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ» (أف 4،3). وهكذا خلقنا على صورته ومثاله، ووهبنا النعمة لكي نبلغ إلى مثال وكمال هـذه الصورة الإلهية. وعندمـا سقطنا بغوايـة العدو ومُخالفة وصية الله المُقدَّسـة، وسـاد علينا الفساد وتسلَّط الموت على جبلتنا؛ جـاء كلمة الله نفسـه الذي جُبلنا على مثال صورتـه إلى عالمنا، وصـار إنساناً مثلنا مُشابهاً لنا في كـل شيء مـا خلا الخطية وحـدها، وذلك لكي يُميت الموت الـذي تسلَّط علينا ويمنحنـا الحياة الأبديـة، ويُعيد إلينا بهاء الصورة الإلهية التي جُبلنا على مثالها والتي تشوَّهت من جراء التعدِّي على وصية الله، ويهبنا النعمة الإلهية التي فقدناها بسبب معصيتنا.
وليس هـذا فقط، بـل ليُعيد إلينا الشركـة التي انفصمت بيننا وبـين الله - بسبب الخطيـة وتسلُّط الموت علينا - لأنه بدون هـذه الشركة لا نجاة ولا حياة. وقد وهَبَ لكلِّ واحدٍ منَّا طاقة وإمكانية لقبول المواهب، وكذلك قدرة على استخدام هـذه المواهب لمجد اسم الله القدوس وبنيان كنيسته. ونتيجة لمعرفة الله المُسْبقـة بإمكانياتنا وقـدراتنا، وكـذلك بضعفنا وإخفاقاتنا؛ أعطى لكل واحد منَّا وزنـات على قَدْر طاقتنا واستيعابنا وقامتنا الروحية، نستخدمها مـن أجـل خلاصنا وخلاص الآخريـن، ولبنيان كنيسته المقدَّسة، واكتمال ملكوته السماوي.
فمَن كـان أميناً على ما وَهَبَه الله مـن وزنات واستطاع - بمعونة نعمة الله - أن يُتاجر بها كما يحقُّ لإنجيل المسيح، ويربح بها نفوساً لملكوت الله، وكان أميناً في القليل؛ حينئذٍ يُقيمه الله على الكثير، ويأتمنه على أسرار ملكوت الله. أمَّا إذا أقحم الإنسان ذاتـه فقط، وقدراتـه الذاتية وذكاءه، دون معونة النعمة، في أيِّ مجـالٍ روحي، فإنـه سيُلام على تقصيره وإهماله لِمَا مَنحه الله من وزنات (مواهب) لم يُتاجر بها ولم يُمجِّد بها اسم الله القدوس. والأدهى من ذلك، أن يفتكر الإنسان أنَّ مـا يقوم بـه، وما يعمله، وما يُلاقيه من نجاحات؛ هو من جراء قدراته وإمكانياته الذاتية، ولا دخـل لنعمة الله فيما وصـل إليه، كما يقـول بولس الرسول: «كَيْ لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ لأَجْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الآخَرِ. لأَنَّـهُ مَـنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟ إِنَّكُمْ قَدْ شَبِعْتُمْ! قَدِ اسْتَغْنَيْتُمْ! مَلَكْتُمْ بِـدُونِنَا! وَلَيْتَكُمْ مَلَكْتُمْ لِنَمْلِكَ نَحْـنُ أَيْضاً مَعَكُمْ!» (أف 4: 6-8).
ولكن علينا أن نتذكَّر أن هذه الوزنات تُعطَى لكلِّ واحـدٍ «عَلَى قَـدْرِ طَاقَتِهِ» (مت 25: 15). فـلا يتكاسل الإنسان في المُتاجرة بهـذه الوزنات، ولا يتجرَّأ ويعمل أكثر مـن طاقته وإمكانياتـه. فكلاهما لا يُرضي الله الواهب هـذه الوزنات. فكَوْن الله يَهب الإنسان وزناتٍ على قدر طاقته، فهذا من عمل نعمة الله. وعلى هذا الأساس، تتمُّ بعد ذلك المُحاسبة. فمَن تاجر وربح، فهو يُزكِّي عمل النعمة، وهكذا تتفاضل عليه نعمة الله، وتزداد البركات الروحية. أمَّا الذي لم يُتاجر ولم يربـح، فإنه يُعاقَب، لأنـه سيُحسَب غير أمين على عطايا الله وهِبَاته، ولأنه أيضاً عطَّل عمل النعمة الإلهية فيه، وأوقف المُتاجرة بالوزنات التي مُنِحَت له، فـالذي «أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراً يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ» (لو 12: 48).
+ ويتحدَّث الأب متى المسكين عـن "الوزنات" قائلاً:
[العمل بالمواهب الممنوحة (الوزنات) لخدمة الآخريـن بأيِّ صورة، جسدية أو روحية أو نفسية أو صحية، هي المُتاجـرة بالمواهب أو الوزنات: «لكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَـةِ الْمَسِيحِ» (أف 4: 7).
هـذا هـو الأساس، وعليه يبني القديس بولس كـالآتي: «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ: أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِـقُّ لِلدَّعْوَةِ (سلَّمهم الوزنـات) الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا. بِكُـلِّ تَوَاضُـعٍ، وَوَدَاعَـةٍ، وَبِطُـولِ أَنَـاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْمَحَبَّـةِ. مُجْتَهِدِيـنَ أَنْ تَحْفَظُـوا وَحْـدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَـاطِ السَّلاَمِ. جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِـدٌ، كَمَـا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَـاءِ دَعْوَتِكُـمُ الْوَاحِـدِ» (أف 4: 1-4). وهكذا نفهـم مـن القديس بولس أنّ أسـاس إعطاء الوزنـات - في مَثَـل إنجيل القديس متى - هـو "للعمل"، العمل الروحي لوحدة الجسد الواحد، وخدمة أعضائه، لنموِّ الجسد وبلوغ كماله المسيحي.
إذن، فمَثَل الوزنـات الـذي وَرَد في إنجيل القديس متى ليُوضِّح أهميـة العمل والمُتاجـرة بالمواهـب؛ يجعله القديس بولس أسـاس بنيان الكنيسة، وتوحيد الأعضاء في جسدٍ واحد، بفكرٍ واحـد، وإيمانٍ واحـد، ينمـو حتى يبلغ كماله ومُنتهاه في المسيح: «وَهُـوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُـوا رُسُـلاً، وَالْبَعْـضَ أَنْبِيـاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ، لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ، إِلَى أَنْ نَنْتَهِي جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيْمَانِ وَمَعْرِفَـةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِـلْءِ الْمَسِيحِ» (أف 4: 11-13)](1).
ما يربحه الإنسان من جراء مُتاجرته بالوزنات:
نجد في مَثَل الوزنات، أنَّ كلَّ واحدٍ أُعطِيَ من الوزنات على قَدْر طاقته، وأيضاً نجد البعض قـد تاجر بوزناته وربح ما يُساوي ما أَخذه. فعلى قَـدْر طاقـة الإنسان، يأخذ مـن الوزنـات؛ وبناءً على ما أَخَذه مـن وزنات، يُتاجر ويربح، وحينئذ ينال المُجازاة. فهنا المُحاسبة على قـدر أمانـة الإنسان في المُتاجـرة بالوزنـات واستخدام المواهب التي أعطاها الله له، ومـا ربحه مـن جـرائها، وحينئذ ينال المُجازاة والمكافـأة: «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَـأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت 25: 21).
مَثَل الأَمْناء (لو 19: 12-27):
+ هذا المَثَل، كما يقول الأب متى المسكين:
[مهتمٌّ بحقيقـة الملكـوت الآتـي ومسئوليـة المؤمـنين في استخـدام مواهبهـم لتؤهِّلهـم للدخول في النهايـة (في هذا الملكوت الآتي). وعلى هـذا نجـد أنَّ هـذا المَثَل يشمل العمل المسيحي الآن، وعمـل المستقبل الآتي. وعلى هـذا، فإنَّ المَثَل يضع مسئوليةً على المؤمنين في استخدام مـواهبهم الروحيـة في غيـاب المسيح دون القلق في الانتظار. وعلى العموم لا ننسى أنَّ هـذا المَثَل وَضَعَـه المسيح لينفي ظهـور الملكوت وشيكاً، فهـو موضوعٌ على أساس مـاذا نعمـل في (ظـلِّ) غياب المسيح (الآن) حتى يجيء (في مجيئه الثاني)؟!](2).
+ ويُعلِّق القديس كيرلس الكبير، قائلاً:
[... يُوزِّع المُخلِّص على مَـن يؤمنون بـه أنواعاً مـن المواهب الإلهية، ونحن نؤكِّد أنَّ هذا هـو المعنى المقصود مـن الوزنة. وفي الواقع أنَّ هناك فرقـاً عظيماً بين أولئك الذين أَخذوا الوزنات، وأولئك الذين أنكـروا مُلْكه تماماً؛ لأن الذين طَرَحوا نِير مُلْكه، هؤلاء هم مُتمرِّدون؛ بينما الآخـرون قـد اكتسوا بمجد خدمته... أظنُّ أنه بعد هذا عليَّ أن أَذكُر مَن هم الذين ائتمنهم المسيح على هـذه المواهب، بحسب قياس استعداد كـلِّ واحد ومَيْله؛ لأنه يعرف كل ما هـو في داخلنا، إذ أنه هو الله ذاتـه الذي يفحص الكُلَى والقلوب... فـأنت ترى أنَّ التوزيـع قـد صـار بحيث يُناسب قياس المَلَكات التي لكلِّ واحدٍ.
فبالنسبـة لأولئـك الذيـن ائتُمِنـوا علـى الوزنـات... إنهم أولئك الكاملـون في الذهـن الذيـن يُناسبهم الطعام القـوي، والذيـن لهـم الحواس مُدرَّبـة على التمييز بين الخير والشر (عب 5: 14)، هم أولئك الماهـرون في التعليم باستقامةٍ، وعلى معرفـةٍ بـالتعاليم المُقدَّسـة، الذين يعرفون كيف يوجِّهون أنفسهم والآخريـن إلى كلِّ عملٍ أفضل!...
ويمنح المُخلِّص مواهب إلهية مُتنوِّعة لهؤلاء حتى يكونـوا أنواراً في العالم ومُتمسِّكين بكلمة الحياة (في 2: 16،15)، وهُـم بوعظهم الشعب الذي تحت رعايتهـم، وبإعطائهم المشورة التي هي نافعة للحياة، وإذ يجعلونهم ثابتين ولهم إيمانٌ مستقيم وبلا لوم؛ فـإنهم إنما يربحون بالمُتاجرة وزنتهـم ويسعون إلى النمـوِّ الروحي. إنهـم مُطوَّبـون جـدّاً ويربحون النصيب الذي يليق بالقدِّيسين، لأنـه عندمـا يعود الإنسان الشريف الجنس - أي المسيح - بعد أَخْذه المُلْك، فسوف يُحسَبون جديرين بالمَدْح، ويبتهجون بإكراماتٍ فائقـة. لأنهـم إذ يُضاعفون الوزنـة... وذلك بربحهم أُناساً كثيرين؛ فإنهم سوف يُقامون على عشر أو خمس مدن، أي إنهـم سوف يصيرون رؤسـاء أيضاً، ليس فقط على مَـن ترأَّسـوا عليهـم سابقاً، بـل أيضاً على آخريـن. لأجل هـذا السبب نجـد القدِّيسين يُمجِّدون ويُقدِّمـون تسابيح عرفانهم الصاعد إلى المسيح](3).
«مَن له يُعطى فيزداد، ومن ليس له
فالذي عنده يؤخذ منه»:
سواءٌ في مَثَل "الوزنـات" أو مَثَل "الأَمْناء"، فإنَّ المسيح يُركِّز على العمل والاجتهاد والمُثابرة والمُتاجـرة فيما يختص بـالمواهب التي مَنَحها للمؤمنين بـه. وطـوال هـذه الفترة منذ صعود المسيح إلى السماء وجلوسه بالجسـد عـن يمين الآب، وإرسـاله الروح القدس الذي سَكَبه علينا بغِِنًى من عند الآب، إلى مجيئه الثاني الآتي مـن السماء المخوف المملوء مجداً؛ فهـذا هـو مجال العمـل الروحي وربـح النفوس وبنيان واكتمال جسـد المسيح (الكنيسة).
فمَـن أَظْهَـرَ إيماناً ثابتاً، وإخلاصاً لإيمانـه القويـم، ومُثابـرة على الاجتهـاد، والسلوك في طريق القداسة، والمُتاجرة بالمواهب التي وهبهـا له الله؛ سينال المُجازاة، وسيُوهَـب مواهب أكثر بقدر أمانته وإخلاصه.
ولنَعْلَم أنَّ هذه الوزنات يَهبها المسيح للمؤمنين به، ليس مـن أجل أنفسهم فقط، بل مـن أجـل خـلاص الآخريـن ومنفعتهم، وبنيـان الكنيسة، وانتشار ملكـوت الله، إلى أن «تَمْتَلِئُ (الأرض) مِـنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ» (حب 2: 14). وكل هـذا يُمجِّد الثالوث القدوس الآب والابـن والروح القدس، ويضمُّ إلى الكنيسة الذيـن يَخلصـون. وفـي النهايـة، نقـول إن المكافأة على أمانـة الجهـاد الروحي وخدمـة الـرب والمُتاجـرة بـالمواهب؛ ستكون مزيـداً مـن تدفُّق النعمة، فينمو العمل الروحي وتـزداد المواهب لخدمة كنيسة الله، مع فرحٍ لا يُنطق بـه ومجيد. ولكـن لا ننسى مـا قـاله رب المجـد لبطـرس الرسـول: «لَيْسَ أَحَـدٌ تَـرَكَ... إِلاَّ وَيَأْخُـذُ مِئَـةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هـذَا الزَّمَـانِ... مَـعَ اضْطِهَادَاتٍ (وضيقات وآلام ومُحاربـات)، وَفِـي الدَّهْـرِ الآتِـي الْحَيَـاةَ الأَبَدِيَّـةَ» (مـر 10: 30،29).
فمَن له الإيمان الحقيقي بالرب، يُعطَى معرفة عميقة بالرب وبأسرار الملكوت، ويوهَب مواهب روحية؛ فينمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع. ثم مَـن له شـركة حقيقية بالرب، يُعطى انفتاحاً أعمق على ملكوت الله وكَشْفاً لأسـراره، فيزداد حُبّاً للـرب ولتمجيد اسمه القدوس وخدمة أولاده وبنيان كنيسته.
+ ونختم بما يقوله القديس كيرلس الكبير:
[يقـول السيِّد (للعبـد الكسول) خـذوا منه المَنَا وأعطوه للذي عنده العشرة أَمْناء، لأني أقول لكم إنَ كـل مَن له يُعطَى، ومَن ليس له فحتى الذي يظنُّه له، يؤخَـذ منه، لأن ذلـك العبد الكسول تجـرَّد حتى مـن الهِبَة التي أُغدِقَت عليه. أمَّا أولئك الذيـن تقدَّموا في الطريق وبرهنوا على أنهم مرتفعون فوق التكاسُل والتراخي، فسـوف ينالون بـركاتٍ جديـدة مـن فـوق؛ وإذ قـد امتلأوا بالمواهب الإلهية، فسـوف يرتفعون إلى نصيبٍ مجيد ومُثير للإعجاب](4).