انتقال راهب فاضل


نياحة أحد شيوخ الدير
القس إرميا المقاري
(وُلد في 7 يناير 1932م؛
صار راهباً في يونية 1959م؛
رُسِمَ قسّاً في أواخر ديسمبر 1969م؛
وتنيَّح في 29 سبتمبر 2019م)


انتقل إلى الأمجاد السماوية أحـد شيوخ الدير الأوائل، الراهب القس إرميا المقاري، الذي قضى في الرهبنة ستون عاماً. وكـان اسمه العلماني "ميلاد يوحنا مكسيموس"، مـن بلدة "قلوصنا" بمحافظة المنيا. وكان والده كاهناً فاضلاً هـو "القمص يوحنا مكسيموس". وقد حصل الأب إرميا على ليسانس الآداب - قسم فلسفة - جامعة القاهرة، عام 1957م؛ ودبلوم الكلية الإكليريكية للأقباط الأرثوذكس - القسم العالي. وكـان يُتقن اللغة العربية وبَرَعَ في قواعد نحوها.

وقد التحق بالرهبنة في يونية عام 1959م بدير الأنبا صموئيل بجبل القلمون، عندما كان الآباء الرهبان الذين خرجوا من دير السريان موجودين - في ذلك الوقت - في دير الأنبا صموئيل مع أبيهم الروحي القمص متى المسكين.

كما أنه عاصر خروج قدس أبينا الروحي القمص متى المسكين مع الآباء الرهبان إلى وادي الريان. وقد عاش - في وادي الريان - مع الآباء الرهبان الذين بَدَأوا الحياة في تلك البريَّة القاحلة من بداية حيات‍هم وفي أشدِّ أيامهم صعوبة؛ حيث عاصر حفرهم للمغاير في الجبال واشترك معهم في حفرها؛ وقاسَى معهم برد الليل القارس، وحر النهار اللاذع، وشدَّة الظمأ، ووطأة الصوم الطويل، وقلَّة الموارد الغذائية وصعوبة الحصول عليها، ونُدرة المياه وملوحتها، والنوم في العراء بأقل ما توفَّر من الغطاء، وعموماً الحياة الشظفة بكلِّ أشكالها. وظلَّ مُجاهداً معهم بكلِّ ما يملك من قوَّةٍ وصبرٍ واحتمالٍ وبَذْل.

ولم تمضِ سنةٌ على هذا الجهاد ال‍مُضني حتى استقرَّ الرأي على ترك المكان والبحث عن مكانٍ آخر يتوفَّر فيه الماء النقي ذو الملوحة ال‍مُحتملة، فذهبوا إلى بيت التكريس بحلوان. وبَدَأ قدس أبينا الروحي في السؤال عن مكانٍ أكثر ملاءمة لمعيشتهم من وادي الريان. ولكنهم بعد بحثٍ دام حوالي السنة، بمعاونة علماء في الجيولوجيا مثل الدكتور رشدي سعيد والدكتور مصطفى العيوطي، قرَّروا العودة ثانيةً إلى وادي الريان، حيث أمكنهم مُعالجة مياه العين التي كانوا يشربون منها ويسقون ما يزرعونه من خضروات توفَّرت لهم.

وكان دور الأب إرميا أساسيّاً في هذه المرحلة الهامة، حيث نجح في مُحاولاته الدؤوبة في تنظيف العين حتى تفجَّرت منها مياهٌ غزيرة، مما أدَّى إلى تدفُّق المياه وتحسُّن طعمها ومذاقها. وفي خلال بَذْل الرهبان وجهادهم ال‍مُضني، جاء خطاب من قداسة البابا كيرلس السادس لقدس أبينا الروحي القمص متى المسكين، يطلب فيه ثلاثة من رهبان وادي الريان: وهم الأب مينا والأب إرميا والأب أليشع، للذهاب إلى دير الأنبا صموئيل الذي يبعد عن وادي الريان حوالي ثلاثين كيلومتراً، وذلك للمُعاونة في تدبير الدير المذكور وتدعيمه.

فما كان مـن قدس أبينا الروحي إلاَّ أن وافق فوراً على ذلك؛ رغم احتياجه الشديد لهؤلاء الرهبان في حفر المغاير، وجلب المياه من الوادي، وجَمْع الحطب الذي يُستخدم في تجهيز الخبز والطبخ وتجهيز القربان لصلاة القدَّاس. ولكن بعد فترة من ذهاب الرهبان الثلاثة إلى دير الأنبا صموئيل، عاد الأب أليشع إلى وادي الريان وطلب عدم العودة مرة أخرى إلى الدير. وبعد عودة الأب أليشع بحوالي سنة، عاد أيضاً الأب إرميا.

وفي أثناء ذلك، انضمَّ إلى وادي الريان ثلاثة مـن الرهبان الجُدُد، وهم: الراهب يوحنا، ثم الراهب يعقوب، ثم الراهب أنجيلوس، وذلك على فتراتٍ مُتباعـدة. فما كان مـن قدس أبينا الروحي إلاَّ أنه طلب من الأب إرميا أن يهتم ب‍هم ويعمل على تعزيتهم، وقد سمَّاه: "مُعزِّي الإخوة". فكان يتميَّز باتضاعه الشديد ومحبته وبَذْله ورقَّته واختباراته الروحية.

وبعد حوالي ثلاث سنوات تقريباً، جاءت توجيهات بابوية من قداسة البابا كيرلس السادس بانتقالنا إلى دير القديس أنبا مقار بوادي النطرون، وكان ذلك في 9 مايو سنة 1969م.


المتنيح أبونا إرميا المقاري

وكـان هـذا الانتقال بترتيباتٍ خاصة أَظْهَرت عمل الله العجيب في ذلك التوقيت. وقد اشترك في هذه الترتيبات: الأب المتنيِّح القمص صليب سوريال، والمتنيِّح نيافة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس ديـر أنبا مقار حينذاك. وقـد طلب أبونا الروحي المتنيِّح القمص متى المسكين مـن قداسة البابـا المتنيح كيرلس السادس أن يرسـم الرهبان على طقس المتوحِّدين الإسكيميين (كما وَرَدَ في كتاب: "أبونا متى المسكين - السيرة التفصيلية"، ص 225).

وكـان ديـر القديـس أنبا مقـار - آنذاك - مُتهدِّماً وقلاليه لا تصلح للسُّكنى فيها. وكان رهبانه لا يزيد عددهم عن سبعة آباء شيوخ، بعضهم قد جاوز الثمانين من عمره، وأغلبهم من ذوي العاهات الجسدية والأمراض المزمنة. فكان على الرهبان القادمين من وادي الريان، خدمة هؤلاء الشيوخ ورعايتهم. وهكذا وُضِعَ على عاتقنا أن نقوم ببناء ديرٍ جديد وتعمير ما ت‍هدَّم من مبانيه.

وكان على عاتق أبينا الروحي أن يكدَّ ويتعب منذ أن وطأت أقدامه الدير، بالرغم من الجهد العظيم الذي بَذَله في وادي الريان. وصرنا جميعاً حاملين هذا العبء الثقيل، رغم عدم توفُّر أيَّة إمكانيات. وهكذا رتَّب قدس أبينا الروحي أن يحمل كل واحد منَّا مسئوليته في بناء هذا الصرح العظيم لبناء ديرٍ مُتكامل تتوفَّر فيه جميع الإمكانيات التي تكفل لأيِّ راهب أن يعيش متوحِّداً في قلاية ب‍ها كل ما يحتاجه، وذلك بخلاف الكنائس والمائدة والمكتبة والمطبخ العام، وحظائر الماشية، وما استجدَّ بعد ذلك من مبانٍ مُكمِّلة لاحتياجات المعيشة الرهبانية ومضايف الزوَّار.

وكان دور الأب إرميا أساسيّاً في تعزية الإخوة والزوَّار بالنعمة التي وهبه الله إيَّاها، بروحه الوديعة ومثاله الرهباني في التجرُّد والعطاء والبَذْل الذي عُرِفَ بـه؛ حيث وزَّع أبونا الروحي العمل بيننا، وأعطى لكلِّ راهبٍ ما يُناسبه من العمل لتكميل البناء العام بأكمل صورة.

وكانت أهم خدمات الأب المتنيِّح إرميا في الدير هي مقابلة الزوَّار وتعزيتهم. وكان الرب يستخدمه في ظروفٍ عجيبة تصل إلى حـدِّ الإعجاز والشفاء من أمراضٍ مُستعصية ليس لها شفاء. فقد حدث أن جاء، ذات مرة، في عام 1988م، المهندس برسوم نصيف تاجر الحديد، وكان يُعاني مـن شللٍ نصفي نتيجة عملية جراحية في العمود الفقري، وكان مُتوجِّهاً إلى الإسكندرية مع أحد إخوته للكشف عند الدكتور صموئيل بقطر؛ ولكنه بسبب الألم الشديد، قرَّر المرور على الدير وقضاء تلك الليلة به، ومواصلة السَّفَر صباحاً للإسكندرية. وحدث أن كان ذلك اليوم هو ليلة عيد الثلاثة الفتية القدِّيسين، وكان سيُقام القدَّاس الإلهي بمناسبة هذه الذكرى في الصباح الباكر 18/ 5/ 1988م. وكان الأب إرميا هو الذي سيُصلِّي القدَّاس، فقابل المهندس برسوم ورحَّب به، وطلب منه أن يستريح في القلاية، وسيُرسل له مَن يوقظه لحضور القدَّاس في الصباح الباكر. إلاَّ أنَّ المهندس برسوم كان مُتألِّماً جدّاً ولا يستطيع الحركة أو الوقوف إطلاقاً. ولكنه فوجئ، عند بداية القدَّاس، وإذا بباب القلاية يقرع ويدخـل الثلاثة الفتية القدِّيسون ويوقظونه مـن النوم، ويضع أحدهم يـده على ظهر المهندس برسوم في موضع العملية الجراحية، ثم يسحب شيئاً كأنه خيطٌ طويل مـن ظهره، وعندئذٍ اختفى الألم تماماً، ثم طلب منه الن‍زول إلى الكنيسة. فقـام ووقف على رجليه ولَبِسَ حذاءه ونادَى على أخيه الذي كان يقضي ليلته معه، والذي ما أن رآه يتحرَّك واقفاً على رجليه حتى ذُهِلَ جداً. وعندئذٍ طلب منه أن ين‍زل معه إلى الكنيسة لحضور القدَّاس الإلهي.

ولَمَّا رآه الأب إرميا، تعجَّب جدّاً وسأل: "هل أيقظوك"؟ فردَّ بالإيجاب. ثم ناوله من الأسرار المقدَّسة، وكان الكل مُتعجِّباً جداً وهم يتساءلون: "كيف اختفى الألم تماماً"؟ فقد تمَّت المعجزة!!

وبعد ذلك ذهبوا لعرض الأَمر على الدكتور صموئيل بقطر، الذي قال لهم: "إنَّ ظهره أصبح مثل ظهر شاب في ريعان شبابه، ولا أَثَر لأيَّة عملية عُمِلَت له". أمَّا الأشعة الأولى التي أُخِذَت له سابقاً، فكأنما كانت لشخصٍ آخر، ولا يمكن أن يُصدِّق إنسانٌ أن‍ها كانت تخصُّه! والعجيب أيضاً أن هذا اليوم كان يوافِق عيد ميلاد المهندس برسوم نصيف نفسه.

نيَّح الرب نفس الأب ال‍مُبارَك الراهب القس إرميا المقاري في فردوس النعيم، الذي كانت حياته «مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ» (كو 3: 3)، إذ «سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ» (مز 25: 14)، الذي له المجد والكرامة في كنيسته من الآن وإلى الأبد، آمين.

الراهب يوحنا المقاري

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis