|
|
|
مقدِّمة: تشهد الكنائس المسيحية في كثير من بلدان العالم تطوُّراً في مسيرة الحركة المسكونية لتحقيق السَّعْي الجاد والوصول إلى هدفها الحقيقي، أَلا وهو الوحدة الكنسية. ويتَّضح من التقدُّم الملحوظ على صعيد الحركة المسكونية في الآونـة الأخيرة؛ أنَّ هناك فرصاً للآمـال والتقدُّم لمواصلة مسيرة الحركـة المسكونيـة، حيث إنَّ فـرص وإمكانيـات اللقـاء بين المسيحيين وتعارفهـم وتعاونهم، تعزَّزت بشكلٍ ملحوظ في الفترة الأخـيرة مـن القـرن الماضي (العشريـن). لذلك نجد الآمـال تتلألأ أمـام عيون المؤمنين بوحدة الكنيسة على أساس إنجيلي.
فالوحـدة المسيحية آتية، ولا ريب في ذلك، لتتحقَّق كلمات ربِّنا يسوع المسيح: «رعيَّة واحدة وراعٍ واحد» (يو 10: 16).
وإذ تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هذا الشهر بعيد القديس أنبا مقار الأسقف الذي رافق البابا ديسقوروس (البطريرك الـ 25) في مجمع خلقيدونية (سنة 451م)؛ نجد أنَّ قدِّيسنا لم يكن لاهوتياً، لكن قداسته ونقاوة صلاته وسيرته التي اشتهر بها، هي التي جعلت البابا ديسقوروس يتَّخذه عضواً في الوفد المُرافق له.
ونحن نحتاج حالياً إلى تلك الصلوات، لتوحِّد قلوبنا على شخص ربِّنا يسوع المسيح، فتذوب ثلـوج الانشقاق، وتُشرِق شمس البر بنورهـا: «ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحدٌ» (يو 17: 22،21).
+ وفي ذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
[«ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا!»، أي ليكونوا واحداً في إيمانهم بنا (أي بالثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد). ماذا يعني ”فينا“؟ (أي) بالإيمان بنا (بالثالوث القدوس). فإنه إذ لا يوجد ما يؤذي كل البشر مثل الانقسام، لذلك يُشْتَرَط أن يكونوا واحداً. فإنَّ كل الذين يؤمنون من خلال تعليم الرُّسل هم واحدٌ، وإنْ كان البعض منهم قد انشقَّ](1).
محل وتاريخ ميلاد القديس أنبا مقار الأسقف:
لا يمكننا تحديد محل وتاريخ ميلاد القديس أنبا مقار الأسقف. حيث لم يُعْطِنا مخطوط(2) سيرة أنبا مقار الأسقف معلومات عن فترة رهبنته أو نمط حياته الروحية. فالمخطوط يُمجِّد في المعجزات التي تمَّت على يدَي القديس، وبالأخص في الفترة التي سافر فيها مع البابا ديسقوروس (444-455م) إلى خلقيدون لحضور مجمع خلقيدونية.
وسوف نقرأ هذه السيرة العطرة بالمقارنة بين مخطوط سيرة أنبا مقار الأسقف، والتي نسخها القمص شنودة الصوامعي عن مخطوط أقدم منه (نُسِخَ نساخة حديثة في القرن العشرين)؛ وبين مخطوط ”3811“ بالمتحف القبطي، وهو مكتوب باللغة القبطية الصعيدية، وقد قام بترجمته الدكتور صموئيل القس قزمان(3).
شخصية كاتب السيرة:
يُشير المخطوط إلى أن السيرة مِن وَضْع الأب القديـس البابـا ديسقوروس (البطريـرك الـ 25)، بالرغم أنه لم يثبُت صحة نسبة هذا العمل إلى البابـا ديسقوروس، ولم يُذكَر ضمن أعماله؛ بل من الواضح أنَّ كاتب سيرة القديس أنبا مقار الأسقف هو تلميذه نفسه.
ولكن ما السبب في أن تُنسَب السيرة إلى البابا ديسقوروس؟! نُجيب على هـذا السؤال مـن محاضرة ألقاها الدكتور مارك سوانسون في دير القديس أنبا مقار بتاريخ 4/2/2014م.
+ فيقول: أحياناً ينسِب شخصٌ مخطوطاً كتبه إلى شخصٍ غيره والدافع إلى ذلك أمران:
الأول: أن يأخذ سنداً قويّاً يعتمد فيه على أحد الآباء القدِّيسين العِظام ليُعطي كتابه المصداقية. وقـد أشار إلى سهولـة اكتشاف مثل هـذه المخطوطات نظراً لأنها خالية من روح الأُبوَّة المنسوبة إليه؛ كما أنها قد تُعطي فكراً بعيداً عن الإيمان. وقـد أعطى مثلاً على ذلك لمخطوطٍ منسـوب إلى أنبـا شنودة رئيس المتوحِّديـن، وهو عبارة عن مقتطفات من عظة للأحد الخامس مـن الصوم الكبير (مخطوط بـاريس، المكتبـة الوطنيـة، عـربي 4761، ورقـات 45-53) منسوبة خطأ للقديس أنبا شنودة رئيس المتوحِّدين. وهنا يُضفي كـاتب السيرة، بنَسْبِها إلى البابـا ديسقوروس، لوناً من الإكرام والهيبة.
الثاني: تكريماً لشخصية صاحب السيرة أن يكون كاتبها شخصية في مكانة هامة وذات شأن كنسي، لإظهار أهمية صاحب السيرة.
+ لماذا توجَّهت الأنظار إلى تلميذ أنبا مقار الأسقف، وترجيح أن يكون هو كاتب السيرة بنسبة كبيرة؟
توجـد عظة للقديس أنبا مقار الأسقف عـن رئيس الملائكة ميخائيل، يُعلِّق عليها الدكتور صموئيل القس قزمان فيقول: ”هناك تشابُه في بعض العبارات الواردة في العظة وبعض ما جاء عـن القديس في نص مديح لمكاريوس أسقف إدكاو، مما يجعلنا نعتقد أنَّ كاتب المديح كان على معرفة بهذه العظة، واقتبس منها واستخدمها في رَسْم شخصية القديس مكاريـوس الأسقف كما يُقدِّمها في نص المديح“.
ومِمَّا سبق يزيد مـن نسبة تأكيدنا على أنَّ كاتب المديح هو تلميذه ”بينوتيون الشماس“، حيث إنَّ المديح والعظة مكتوبـان بـاللغة القبطية الصعيدية. فكيف يتمكَّن البابا ديسقوروس من أن يستشهد بفقرات من العظة في حين أنه لم يتمكَّن من التحاور مع أنبا مكاريوس الأسقف خلال فترة سفرهم لحضور مجمع خلقيدونية إلاَّ عن طريق بطرس الشماس المُترجم.
+ ويطرح السؤال نفسه عن: هل لم يكن البابا ديسقوروس يتكلَّم بالقبطية وهو بطريرك الأقباط؟!
حتى بدايـة القرن الثامن، كـان البطريرك القبطي يكتب الرسالة الفصحية، التي يُرسلها إلى الصعيد، باللغة اليونانية. ولدينا برديات من القرن الثامن من بطريرك الإسكندرية، التي كان ينشرها في القطر المصري، مكتوبة باللغة اليونانية. إذن، كان يوجد مَن يعرف اليونانية في كل إيبارشية لترجمة تلك الرسائل.
كما وُجِدَت لهجات مختلفة من اللغة القبطية (بحـيري، صعيدي، بهنسي، فيـومي، أخميمي، ليكوبـولي ”أسيوطي“، بشمـوري أي ”خـاص بـالبشموريين في الدلتا“... إلخ). وهناك بعض اللهجات المُتشابهة مثلما هـو الحـال الآن في لهجات أهـل الصعيد، لكن كـان هناك اختلافٌ واضح بين اللهجتين البحيريـة والصعيدية، ليس من جهة النُّطق، بل مـن جهة الكلمات وتركيب الجُمَل والإعـراب. فـأصبح لا يمكـن أن يفهم المتكلِّمون بهما لغة بعضهم البعض(4).
وجديرٌ بالذِّكْر أنَّ الأب ”فيليب لويزيه“ قد أشار إلى أنَّ دير القديس أنبا مقار هو الذي حَفِظَ لنا النصوص القبطيـة البحيريـة منذ القرن التاسع(5). وهذا يعني أنَّ البابا ديسقوروس كان يتكلَّم باللغة القبطية أيضاً، ولكـن بلهجة مـن اللهجات المذكورة عاليه؛ لكنه كان يكتب الرسائل الرسمية باللغة اليونانية التي كان يفهمها المُثقَّفون من الذين تُرسَل لهم الرسائل الرسمية.
سيرة القديس أنبا مقار الأسقف:
استُشهِدَ الأب المغبوط القديس مكاريـوس أسقف إدكاو، وقد تمَّ فيه كلام النبي داود: «طوبى للرجل الذي لم يتبع مشورة المنافقين. ولم يقف في طريق الخطاة. ولم يجلس في مجالس المُستهزئين. لكن في ناموس الرب مسرَّته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً» (مز 1: 2،1).
هذا القديس هو الذي حَفِظَ وصية سيِّده، وتاجَر بالوزنة فربح. فكم من الآيات والعجائب أجراها الله على يديه، منها أنه لمَّا كان في مدينة إدكاو كان عندما يصعد على المنبر ليعظ الشعب يُكثر من البكاء، ولمَّا سأله بعض تلاميذه عن سبب بكائه، قال لهم: ”كنتُ أنظر خطايا الشعب وأعمالهم الرديئة“.
وذات مرَّة رأى المسيح في الهيكل والملائكة يُقدِّمون له أعمال الشعب واحداً فواحداً، وسمع صوتاً يقول: ”لماذا تتوانى، يا أسقف، عن وعظ شعبك“! فقال: ”يـا ربُّ، إنهم لا يقبلون كلامي“. فقال له: ”يجب على الأسقف أن يعظ الشعب، فإن قبلوا، وإلاَّ فدمهم على رؤوسهم“.
ولمَّا دعوه للذهاب إلى مجمع خلقيدونية مع الأب ديسقوروس، ووصـلا إلى قصـر الملك، منعه الحُجَّاب من الدخول لحقارة مَلْبسه حتى عرَّفهم الأب ديسقوروس أنه أسقف إدكاو. ولما دخل وسمع قول المُخالفين في المسيح، حَرَم الملك في المجمع، وقد استعدَّ أن يُسلِّم نفسه للموت في سبيل المحافظة على الإيمان الأرثوذكسي. فنفوه مع الأب ديسقوروس إلى جزيرة ”غانغرا“. ومـن هناك أرسله الأب ديسقوروس مع تاجر مؤمن إلى الإسكندرية قائلاً له: ”إنَّ لك هناك إكليل شهادة“.
فلما وصـل إلى مدينة الإسكندريـة، اتَّفق أن وصل رسول الملك بكتاب يذكر فيه الأمانـة (الإيمان) الجديدة الخلقيدونية القائلة بالطبيعتين. وقد أوصاه الملك قائلاً: ”بأنَّ مَن يكتب اسمه أولاً على هذه الأمانة يصير بطريركاً على المدينة“.
فكان بالمدينة مُقدَّم قسوس اسمه ”بروتاريوس“، وقد أَخَذَ الكتاب ليكتب اسمه أولاً. فذكَّره القديس مكاريـوس الأسقف بـالقول الذي قـاله الأب ديسقوروس لبروتاريوس عند ذهابـه إلى مجمع خلقيدونية، وهـو: ”إنك ستستولي على كنيستي بعدي“. فتذكَّر الكلام وتوقَّف عن الكتابة. فلما عَلِمَ رسول الملك أنَّ الأسقف غير موافق على أمانة الملك، ولم يكتب اسمه أيضاً، وثب على الأسقف ورَكَله، فتنيَّح على الأثر، ونال إكليل الشهادة.
فأخذ المؤمنون جسده الطاهر ودفنوه مع جَسَدَي يوحنا المعمدان وأليشع النبي، فتحقَّق بذلك ما قاله هذان القدِّيسان في رؤيا عن هذا الأسقف، أنَّ جسده سيكون مـع جسديهما. وقـد انتقل القديس أنبا مكاريوس الأسقف إلى المسيح فائزاً بإكليل المجد.
صلاته تكون معنا، ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
كيف وصل جسد القديس أنبا مقار الأسقف
لدير القديس أنبا مقار الكبير ببرية شيهيت؟
بعد استشهاد القديس أنبا مقار الأسقف، تمَّ دَفنه بجوار جَسَدَي القدِّيسَيْن أليشع النبي ويوحنا المعمدان كالنبوةَّ التي قرأناها في سيرته. وللعلم فإنَّ جَسَدَي النبيَّيْن أُحْضِرا مـن أورشليم في عصر البابا أثناسيوس الرسولي، وقد فَرِح بهما جداً، واحتفظ بهما في بستانٍ لحين بناء كنيسة على اسميهما ليُدفنا فيها.
ولم يتمكن البابا أثناسيوس الرسولي من بناء تلك الكنيسة، بل أكمل بناءهـا البابـا ثاؤفيلس البطريرك الـ 23، على أطلال معبد السرابيوم الوثني الذي حطَّمه.
ومنذ منتصف القرن الخامس، وبالتحديد في 27 بابة/ 6 نوفمبر سنة 451م، والكنيسة القبطية تُعيِّد لاستشهاد القديس أنبا مقار الأسقف. وفي أوائـل القرن العاشر، وصـل جسد أنبـا مقار الأسقف إلى دير القديس أنبا مقار ببرية شيهيت. ويُفهَم من ذلك أنَّ رفات يوحنا المعمدان وأليشع النبي قد نُقِلَت مع جسد أنبا مقار الأسقف من كنيسة يوحنا المعمدان بالإسكندريـة في أوائـل القرن العاشر لأسباب غير معلومة لدينا(6).
(1) القمص تادرس يعقوب ملطي، ”تفسير إنجيل يوحنا“، (يو 17: 21-22).
(2) ”سيرة القديس أنبا مقار أسقف إدكاو“ (مخطوط نساخة القمص شنودة الصوامعي البراموسي)، ومخطوط 3811 بالمتحف القبطي.
(3) دكتور صموئيل القس قزمان، ”إطلالات على تراث الأدب القبطي“.
(4) الأب الدكتور فيليب لويزيه أستاذ القبطيات في معهد الدراسات الشرقيـة برومـا، محاضرة بعنوان: ”اللغة القبطية =
= ولهجاتها“، أُلقيت بديـر القديس أنبا مقار ببريـة شيهيت، بتاريخ الخميس 11/9/2014م.
(5) عـن كتاب: ”قدِّيسون مـن دير القديس أنبا مقار الكبير“، إصدار دير أنبا مقار الكبير - برية شيهيت.
(6) المرجع السابق.