المسيح
- 10 -

مَنْ هو هذا؟
صورة (طبيعة) الله، وصورة (طبيعة) العبد

الشرح الرسولي للتجسُّد،

كما ورد في رسالة فيليبِّي 2: 5-11:

+ «... الذ ي إذ كان في صورة الله، لم يَحْسِبْ خُلسةً أن يكون مُعادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شِبه الناس. وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب.

لذلك رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كلُّ رُكبة مِمَّن في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أنَّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب».

(((

هذا النص الذي وضع فيه القديس بولس الرسول هذه الكلمات الأساسية في سرِّ تجسُّد ابن الله، هو دعوة لأن ننهج منهج المسيح في الاتضاع.

وطريق الاتضاع سبق وابتدأه المسيح نفسه أولاً: «ليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً».

وهذه الآيات المذكورة في أول المقال كانت ترنيمة طقسية ضمن طقوس العبادة المسيحية للجماعات المسيحية الأولى أيام الرسل.

”في صورة الله“، ”في طبيعة الله“:

الكلمة الأصلية التي استخدمها القديس بولس هي morphé، وهي تعني ضمن ما تعني أكثر من كلمة ”صورة“، فمِن بين معانيها المناسبة لهذا النص: ”طبيعة“. فهي يمكن أن تُقرأ هكذا: «إذ كان في ”طبيعة“ الله... أخذ ”طبيعة“ العبد» (في 2: 7،6). إنَّ طبيعة ابن الله هي الطبيعة الإلهية. وما أخذه ابن الله في تجسُّده هو الطبيعة البشرية. وهذا هو التجسُّد.

+ ونفس المعنى يَرِد في رسالة القديس بولس إلى كنيسة كورنثوس: «ربٌّ واحد يسوع المسيح الذي بـه جميع الأشياء، ونحن بـه» (1كـو 8: 6). ونفس التعبير في رسالة كولوسي: «فإنه فيه خُلِق الكلُّ» (كو 1: 16).

+ والمسيح «لم يَحْسِبْ خُلسةً أن يكون مُعادلاً لله»، أي ”لم يغتصب عُنْوة مساواته لله“. وهذا يُذكِّرنا بجوهر عصيان آدم وعدم طاعته لله، فهي كانت ادِّعاءً أن يغتصب مساواته لله بعدم طاعته. تأمَّل في كلمات الشيطان لحواء: «تصيران كالله» (تك 3: 5). أما المسيح فلم يغتصب مساواته بعدم طاعته؛ بل بالعكس، فبالرغم من مساواته الجوهرية للآب، إلاَّ أنه «أطاع حتى الموت، موت الصليب»؛ لذلك «رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم»، أي أظهر في المسيح علانيةً مساواته للآب في الجوهر، ما كان محتجباً وراء الطبيعة البشرية باتضاعه.

”أخلى نفسه“:

أي أخفى سلطانه الإلهي تحت حجاب الطبيعة البشرية الضعيفة، وأمامنا مَثَل واضح من تنازُل ابن الله المتجسِّد عن سلطانه بإرادته ومؤقتاً في حادثة رفض قرية سامرية دخول المسيح إليها، حينئذ طلب تلميذان له أن تنزل نارٌ من السماء لتبيد أهل هذه القرية، لكن المسيح - له المجد - رفض، وردَّ على التلميذَيْن منتهراً إيَّاهما قائلاً: «لستما تعلمان من أيِّ روح أنتما! لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلك أنفس الناس، بل ليُخلِّص» (لو 9: 56).

فالابن توقَّف عن ممارسة سلطانه الإلهي الذي يُثبت للناس مساواته لله. فبصيرورته إنساناً تجرَّد - إرادياً ومؤقتاً - عن سلطانه الإلهي، لكنه لم يتجرَّد عن طبيعته الإلهية، التي منذ لحظة الحَبَل به اتَّحدت بالطبيعة البشرية، لأننا نقرأ في نصوص أخرى ما يقوله القديس بولس الرسول عن الابن المتجسِّد إنَّ كل ملء (كمال) اللاهوت حلَّ فيه (كو 1: 19). وهذا النص لم يذكر ”إخلاء“ المسيح لنفسه، بل يُبيِّن ما أثمره إخلاء المسيح لنفسه بأَخْذه طبيعة العبد.

”آخذاً صورة العبد“:

ابن الله بأَخْذه ”صورة العبد“ (في 2: 7)، أوضح بشدة التبايُن بين كونه في طبيعة الله، وبين أَخْذه إرادياً الطبيعة المحدودة المغايرة وهي طبيعة العبد. هذا الوضع عبَّر عنه المسيح بقوله: «ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدِم» (مت 20: 28)، وأنه أتى بيننا «كالذي يَخدُم» (لو 22: 27). وطبَّق قَوْلَه على سلوكه بغَسْلِه أقدام تلاميذه تحقيقاً لكونه ”العبد“، لأن ”العبد“ كان يغسل أقدام أسياده حين دخولهم البيت (يو 13: 1-20).

ولكن ”طبيعة الله“ لم تُفْقَد:

يُحذِّر القديس أُغسطينوس من المبالغة فيقول:

[لقد أخذ شكل وطبيعة العبد بحيث لم يفقد الطبيعة الإلهية. فكلاهما كانا موجودَيْن ”في صورة العبد“ و”في صورة الله“، وهما ذات شخص الابن الوحيد لله الآب: في صورة الله المساوي للآب، وفي صورة العبد الوسيط بين الله والناس، إنه الإنسان يسوع المسيح](1).

الذي أخلى نفسه،

هو الذي نال المجد والرِّفعة:

إننا نجد أوضحَ شرح لنصِّ رسالة فيليبِّي 2: 7 لدى القديس هيلاريون أسقف بواتييه (القرن الرابع):

[لذلك، فإنَّ إخلاءه من مجده الإلهي، لا يعني إبادة الطبيعة الإلهية في شخصه، لأن الذي أخلى نفسه لا يفقد طبيعته (الإلهية)، والذي يأخذ (صورة عبد) يبقى كما هو. ومن حيث إنه هو الذي أخلى وهو الذي يأخذ، فهنا نجد السرَّ في شخصه، لأنه هو الذي أخلى نفسه وهو الذي نال في نفسه. ولكن لا إلغاء حدث لأية طبيعة، حينما أخلى نفسه، ولم يحدث هذا حينما أخذ. لذلك، فالإخلاء يُظهِر طبيعة العبد، ولكن المسيح ابن الله لم يتوقَّف عن كونه هو ابن الله، من حيث إن المسيح هو الذي أخذ طبيعة العبد](2).

”صار في شِبْه الناس“:

”صار في شِبْه الناس“ (أو بأدق تعبير ”في مثال الإنسان homoima“). شارك البشرية في محدوديتها: «صائراً في شبه الناس» (في 2: 7)، وذلك بميلاده الجسدي من القديسة العذراء مريم، وأيضاً بخضوعه للناموس، واجتيازه مراحل نموه «في الحكمة والقامة والنعمة»، ليس فقط أمام الناس، بل «عند الله والناس» (لو 2: 52).

+ لقد عاش المسيح في فقر. ابن الله صار إلى ما تتطلَّبه المحدودية البشرية، فصار ”عبداًً“ ليس فقط للناس (غسله لأرجل تلاميذه)، بل بخضوعه للزمان وحدود المكان، متألِّماً، طائعاً حتى الموت، موت الصليب (المخصَّص قديماً للمجرمين ومُخالفي الناموس). فهو ليس فقط ”صار إنساناً“، ولكنه صار الإنسان الذي خضع لقيود العبودية في ذلك الوقت، والتي كانت مرتبطة بالفقر، وصار من المرفوضين من المجتمع، والموضوعين ليكونوا ضحية أو يُكرَه على تحمُّل عقوبة عمَّا لم يفعله.

+ وليس فقط خضع للنمو البشري الشائع لكل البشر بولادته ثم باجتيازه مراحل النمو الإنساني؛ بل وأيضاً بالنمو الذهني: «وكان الصبي ينمو ويتقوَّى بالروح، مُمتلئاً حكمة» (لو 2: 40). وبالإضافة إلى هذا، كان يجتاز النمو العقلي الذهني بتعلُّمه من مُعلِّمي عصره: إذ كان «في الهيكل، جالساً في وسط المُعلِّمين، يسمعهم ويسألهم» (لو 2: 46). ثم أيضاً خضوعه للتقاليد العائلية: «ثم نزل معهما (العذراء ويوسف النجَّار) وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما» (لو 2: 51). ثم خضوعه لمتطلبات قوانين النظام السياسي الروماني السائد في عصره، بدَفْعه الجزية، بالرغم من عدم اقتناعه بشرعيتها. وسجَّل الإنجيل قول المسيح بعدم جواز دفع الجزية من المواطن بسؤاله بطرس: «مِمَّن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أَمِنْ بنيهم أم مِن الأجانب؟ قال له بطرس: من الأجانب. قال له يسوع: فإذاً البنون أحرارٌ». ثم وضع المسيح المبدأ في الخضوع لقوانين البلاد: «ولكن لئلا نُعثرهم، اذهب إلى البحر وألقِ صِنَّارة، والسمكة التي تطلع أولاً خُذها، ومتى فتحتَ فاها تجد إستاراً، فخُذه وأعطهم عني وعنك» (مت 17: 24-27).

+ وعلى نفس النهج، ردَّ على السؤال الماكر من الفرِّيسيين: «أيجوز أن نُعطي جزية لقيصر أم لا؟». إنهم يطلبون فتوَى دينية في نظام سياسي. فردَّ عليهم المسيح بسؤال عملي: «أروني مُعاملة الجزية؟ فقدَّموا له ديناراً». فردَّ عليهم بما يعني ”لا فتاوى دينية في السياسة“: «فقال لهم: لمَن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (مت 22: 15-21)، مانعاً منعاً باتّاً سؤال رجل الدين في صحة أو عدم صحة قوانين الوطن من منظور ديني. وهذا هو المبدأ القانوني الدستوري الحديث الذي يمنع تدخُّل فتاوى رجال الدين في العمل السياسي للدولة.

+ كان ابن الله المتجسِّد خاضعاً مثل باقي البشر لمحدودية ومتطلبات النمو والخضوع البشري، سواء لنموه الجسدي أو الذهني أو العقلي أو العائلي، بل وحتى للقوانين السياسية السائدة. وهذه هي سمات البشرية السويَّة حسبما رسمها الخالق الآب بابنه الوحيد للخليقة منذ نشأتها وحتى الآن.

”وُجِد في الهيئة كإنسان“:

أي ظهر كإنسان حقيقي: «صائراً في شِبْه الناس... وُجِدَ في الهيئة كإنسان»، يجب أن نقرأها مع الجملة السابقة لها: «إذ كان في صورة الله». لقد مارس حياته مثل أيِّ إنسان عادي. كان يأكل ويصوم، يشرب ويعطش، ينام ويستيقظ، يسير ويقف، يكتئب ويعرق، يعمل ويتعب، يلبس ويأوي في بيت، يُصلِّي ويُسبِّح، كل الممارسات التي يُمارسها كل البشر.

”أخلى نفسه“، وأطاع الآب أباه حتى الموت:

+ «أخلى نفسه»: بالرغم من أنه كان أكثر من كونه إنساناً، إلاَّ أنه أراد أن يكون الأقل وسط البشرية، وحتى مرفوضاً ومرذولاً. والسرُّ في ذلك هو أنه أراد أن يجمع في بشريته كل فئات البشر المظلومة والمُهمَّشة والمدوسة من الذين هم أعظم وأغنى وأكثر سطوة. لقد أراد أن يكون هو كل إنسان بائس، والذين ليس لهم مَن يسأل عنهم. لذلك نزل إلى أدنى قاع مرذولي وأدنياء العالم والذين يُنكَّل بهم بأيدي عظماء العالم.

+ «أطاع حتى الموت»: «مع كونه (وبالرغم من كونه) ابناً، تعلَّم الطاعة مِمَّا تألم به» (عب 5: 8). أي بالرغم من كونه ابناً (للإنسان) وليس عبداً، إلاَّ أنه دخل مدرسة الآلام ليتعلَّم الطاعة من هذه الآلام.

+ المسيح كان إنساناً حقيقياً، لكنه بإرادته ومسرَّته أراد أن ينزل إلى قاع البشرية المُهانة والمرذولة بيد بني البشر المتعالين على غيرهم. وبنو البشر المتسلِّطون هم أولاً الكهنة ورؤساء الدين ووجهاء المجتمع الأثرياء وذوو الشكيمة والقريبون من السلطة الزمنية. أما المسيح فقد نزل إلى أدنى قاع البشرية ليلبس آلام هؤلاء بجروحهم وصراخهم وأنينهم، ليس الذين كانوا في عصره فقط، بل وفي كل العصور اللاحقة وإلى عصرنا نحن الآن؛ لكي بعد مجيئه الثاني سيكون هؤلاء هم الحاشية المنيرة البهية التي ستُحيط بالمسيح وهو منطلق إلى السماء مع ملائكته ومختاريه الذين كانوا مطرودين من العالم، من طُغاة المجتمع الديني في كل الأديان، إنهم الذين كانوا في هذا العالم معتَبَرين «كأقذار العالم ووَسَخ كل شيء» (1كو 5: 13).

+ «حتى الموت، موت الصليب»: وانتهى اتضاع ابن الله بالموت على الصليب، الذي كان عقوبة المجرمين والخارجين على القانون ومخالفي الناموس. كما يقول القديس إيرينيئوس:

[لقد كان علاج عدم الطاعة الذي حدث بسبب الشجرة (شجرة معرفة الخير والشر)، من خلال الطاعة التي كملت على الشجرة (شجرة الصليب)](3).

لذلك قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية عن المسيح إنه: «صار لعنةً من أجلنا» (غل 3: 13).

الطاعة بالآلام الإرادية:

هذا هو باختصار ”منهج“ الاتضاع المُذلِّ (في 2: 7) الذي انتهجه المسيح الابن المتجسد، راضياً به عن إرادة وعزم وقبول كامل.

+ ومن بين مظاهر هذا النهج الاتضاعي الخضوعي، ما قاله المسيح من أنه لا يقدر أن يفعل من نفسه شيئاً (يو 5: 30)، وقوله: «أبي أعظم مني» (يو 14: 28)، وغير ذلك مِمَّا ورد في الأناجيل (مت 11: 27؛ يو 10: 30،15؛ 14: 28).

هذا الاتضاع ليس أبدياً:

فبعد القيامة – قيامة ابن الله المتجسِّد – من بين الأموات، وبعد صعوده إلى السموات وجلوسه عن يمين الآب؛ تقول رسالة فيليبِّي: «لذلك رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كلُّ رُكبة مِمَّن في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أنَّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب» (في 2: 9-11).

هذا يعني أن حالة الإخلاء والاتضاع المُلازِمة للتجسُّد قد تحوَّلت إلى حالة رِفْعة ومجد، لأن ما اكتسبه الابن المتجسِّد من وراء تجسُّده، أي من خلال إخلائه ذاته وأَخْذه صورة عبد؛ كان مشاركة للبشرية في ذُلِّها وموتها، إلى أن نال تجسُّده الرِّفْعة والمجد والحياة الأبدية، فصارت هذه النِّعَم الخلاصية هي الميراث الأبدي، ليس فقط لجسد المسيح الشخصي، بل ولكل البشرية جمعاء.

وهكذا، فإنَّ صعوده بجسده المُمجَّد وجلوسه عن يمين الآب، أصبح الينبوع الفيَّاض لكل إنسان في البشرية يأتي في الأجيال اللاحقة، لينال هذه الرفعة والمجد والحياة الأبدية بواسطة الروح القدس من خلال إيمانه ومعموديته وتناوله من الجسد الإفخارستي والدم الكريم اللذين للمسيح، ومن امتلائه الدائم والمستمر من الروح القدس يوماً فيوماً.

وهذا يرجع إلى أنه على قدر ما كان تجسُّد ابن الله شاملاً كل البشرية بكل مآسيها ومحنتها وموتها، بقدر ما صارت البشرية بعد صعود المسيح بجسده حاملاً البشرية إلى أمام الله الآب، صارت ممتلئة من الروح القدس وقد نالت عربون المجد والحياة الأبدية في المسيح: «وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صُراخ ولا وجع في ما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت» (رؤ 21: 4).

ولا يتبقَّى علينا الآن سوى أن نُداوم على ثباتنا في جسد المسيح السرِّي، والامتلاء الدائم والمستمر من الروح القدس؛ لكي يتعرَّف المسيح على كل واحد فينا يوم مجيئه المنتظَر من السموات، ليجمع مختاريه ويأخذهم معه ليكونوا معه حيث يكون هو إلى الأبد، وهو يتعرَّف علينا من خلال ختم الروح القدس الساكن في داخل كل واحد فينا، ما يُسجِّل انتماءه الشخصي للمسيح وتعرُّف المسيح عليه. آمين.

(يتبع)

(1) St. Augustine, Trin. 1.7; NPNF, 1st Ser., Vol. III.
(2) St. Hilarion, On the Trinity IX,44.
(3) Against Her. V; ANF, Vol. I, p. 544.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis