- 30 -


«مَن أراد أن يكون فيكم أولاً
فليكن لكم عبداً»
(مت 20: 27)

كثيراً ما جال هذا الفكر في أذهان التلاميذ: «مَن هو أعظم في ملكوت السموات» (مت 18: 1)، وذلك منذ أن اختارهم الرب ليصيروا له رسلاً. فطالما ما راودهم هذا الهاجس لأنهم كانوا يظنُّون أنه بمجيء المسيح، الذي هو المسيَّا المنتظر، «أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال» (لو 19: 11). فقد كانوا يعتقدون، كما كان يعتقد كل اليهود، أن ملكوت المسيح ملكوت أرضي، وأنه جاء لكي يُخلِّصهم من حُكْم الرومان، وسوف يُستعلَن مُلْك المسيح سريعاً ويردُّ المُلْك لإسرائيل (انظر أع 1: 6). حتى أنَّ بطرس الرسول - بصراحته المعهودة - لم يتورَّع أن يسأل الرب يسوع قائلاً: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع: الحقَّ أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني، في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسيّاً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (مت 19: 28،27).
ويبدو أن هذا القول الذي قاله الرب لهم ردّاً على سؤال بطرس الرسول، جعل أُم ابني زبدي مع ابنيها يعقوب ويوحنا يتقدَّمون للرب لكي تحجز الأُم لابنيها المكانين الأثيرين عن يمين الرب وعن يساره في ملكوته، ظنّاً منهم أن هذا الوعد الذي وعد به الرب تلاميذه سوف يتحقَّق في الحال (مت 20: 21،20).

ولكي يُصحِّح الرب يسوع فكرهما عن ملكوته، أجابهما قائلاً: «لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟ قالا له (دون أن يُدركا ما يقولانه ولا ما يعنيه الرب يسوع): نستطيع. فقال لهما: أمَّا كأسي فتشربانها، وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان. وأمَّا الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أُعطيه إلاَّ للذين أُعِدَّ لهم من أبي» (مت 20: 23،22).

فقد أراد المسيح بإجابته أن يُوضِّح لهما أن الكرامة التي يطلبانها طريقها الوحيد هو الآلام والصَّلْب. فإن كان المسيح أمامه هذه الكأس، كأس الآلام، وهذه الصبغة، صبغة الموت على الصليب، ليعبره حتى يبلغ القيامة والمجد؛ فكيف يطلبان هذا المجد قبل اجتياز الآلام تمثُّلاً بمعلِّمهم الذي هو الطريق والحق والحياة؟ ومع ذلك، فإنَّ الجلوس عن يمينه وعن يساره فهو من نصيب مَن أُعِدَّ لهم من قِبَل أبيه الصالح.

ورغم أن الرب لم يَعِدْهما باستجابة ما طلباه، إلاَّ أنه «لما سَمِعَ العشرة اغتاظوا من أجل الأخوَيْن. فدعاهم يسوع وقال: أنتم تعلمون أن رؤساء الأُمم يسودونهم، والعظماء يتسلَّطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل مَن أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً، ومَن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً، كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخْدَم بل ليَخْدِم، وليبذل نفسه فِدْيةً عن كثيرين» (مت 20: 24-28).

تجربة حُبِّ الرئاسة:

والعجيب أن هذا الفكر قد راود التلاميذ، كما هو ظاهر في الأناجيل، في أقدس الأوقات التي لم يكن من المتوقَّع أبداً أن يراودهم فيها، مما يدلُّ على أنها كانت حرب من العدو. فقد حدث ذلك بعد أن تجلَّى الرب بمجده لثلاثة منهم على جبل التجلِّي، وأعلن لهم حقيقة لاهوته (انظر مت 17: 1-8). ثم بعد أن نزل من الجبل كشف لهم عن اقتراب أيام آلامه وموته، إذ قال لهم: «ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم، فحزنوا جداً» (مت 17: 23،22). ولكن رغم ذلك، «تقدَّم التلاميذ إلى يسوع قائلين: ”فمَن هو أعظم في ملكوت السموات؟“» (مت 18: 1)؛ مما دعا الرب يسوع أن يُقيم ولداً في وسطهم ويقول لهم: «الحقَّ أقول لكم: إنْ لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات. فمَن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السموات. ومَن قَبِلَ ولداً واحداً مثل هذا باسمي فقد قَبِلَني. ومَن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخيرٌ له أن يُعلَّق في عُنُقه حجرُ الرَّحَى ويُغْرَق في لُجَّة البحر» (مت 18: 2-6).

والواقع أن كلمة ”أعظم“ هنا لا تفيد في اللغة اليونانية مجرد الأعظم فقط، بل تحمل معنى الترأُّس. ويُعلِّق الأب متى المسكين على ذلك بقوله:

[ولكن الأمر الذي يُتعجَّب له أن التلاميذ لما سمعوا من المسيح أنَّ ابن الإنسان سيُسلَّم إلى أيدي الناس ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم، حزنوا جداً؛ مما يدلُّ على أنهم لم يفهموا ما هي القيامة. وهنا نجدهم يبحثون عن الوظائف ومَن يكون الأعظم في ملكوت السموات... والمسيح لما اختار التلاميذ اختارهم وهو عارف بضعفاتهم وعيوبهم، لأن محبة الله ساترة للعيوب، والمسيح كان يثق في قدرته وفعل الروح القدس في تهذيب أخلاق وسلوك التلاميذ، وبالتالي نحن!...

والآن، حينما جاء بولدٍ وأقامه في الوسط وقال: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات... كان الأمر في الحقيقة: ”انظروا إليَّ“. فقامة الولد مختفية تحت ستار صِغَر الجسد والسِّن، ولكن هي في عمقها واضحة في قامة المسيح... نعم، لقد بلغ المسيح بهذه القامة ”قامة الأولاد الصغار“ في الوداعة والتواضع والطاعة تحت يد أبيه، مبلغاً لا يبلغه بالغ. فالولد الصغير الذي أقامه ليستعرض فيه ذاته هو يقصد منه مظهره هو، بل أقدس ما فيه، وفي روحه الوديعة المتواضعة الطيِّعة تحت يد أبيه...

والمشكلة التي واجهت المسيح في تعليم تلاميذه ليس لأنهم تعاركوا فيمَن هو أعظم في الملكوت، بل في كيف يدخلونه؟ لأن تعظُّمهم بعضهم على بعض هو العائق الأعظم لدخولهم الملكوت. وهكذا كشفوا بسؤالهم أو بعراكهم عدم صلاحيتهم للملكوت أصلاً. ولكن الأمر الذي يعود علينا بالحزن والأسى والحسرة أنَّ هذا بعينه ما هو حادث في الكنيسة: ”مَن هو الأعظم“؟ على أساس وهمي أن الأعظم هنا أعظم هناك!](1)

ازدياد حرب حُبِّ الرئاسة على التلاميذ:

ازدادت الحرب ضراوة على التلاميذ مرة أخرى من جهة مَن هو الأعظم بعد أن أعاد الرب عليهم إعلانه عمَّا هو مُقبل عليه من آلام وصَلْب وموت وقيامة بأكثر تدقيق قائلاً: «ها نحن صاعدون إلى أُورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويُسلِّمونه إلى الأُمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم» (مت 20: 19،18).

ورغم أن كلام المسيح كان واضحاً كل الوضوح، إلاَّ أنه يبدو أن التلاميذ قد أصابهم الذهول من هول ما سمعوا، وتاهت عقولهم ولم يستطيعوا أن يُصدِّقوا أن مسيحهم العظيم سوف يجوز كل هذه الآلام والصَّلْب والموت، لأنهم كانوا يثقون في قدرته الفائقة ونصرته على الموت، إذ كانوا يُركِّزون على ختام القول بأنه في النهاية سيقوم من بين الأموات. ويا ليتهم كانوا يُركِّزون بوعيٍ على ذلك الانتصار الأخير، فقد سقط منهم تماماً عندما تمَّ كلُّ ما قاله الرب بعد موته وقيامته، ولم يُصدِّقوا أنه قام إلاَّ بعد أن جسُّوه ولمسوه.

ولكن، رغم كل هذا الوضوح في تصريح المسيح لهم عن آلامه وموته وقيامته، ظل التلاميذ في أحلامهم التي تدور حول العظمة التي ستوافيهم باستعلان الملكوت والمسيح ملكاً على إسرائيل. بل ودارت بينهم المشاجرات فيمَن سيكون الأعظم. وتفاقمت حدَّة الأحلام حتى اقتربت إلى ما يُشبه الواقع حينما أعلن الرب يسوع ما أعدَّه لهم في ملكوته الأبدي قائلاً: «الحقَّ أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني، في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسيّاً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (مت 19: 28،27)؛ مما حَدَا بأُم ابني زبدي أن تسعى عند الرب لابنيها بأن يحجز لهما الرب المكانين المتميزين عن يمينه وعن يساره في ملكوته، ظنّاً منهم أن هذا الوعد سوف يتحقَّق سريعاً (مت 20: 21،20).

وما إن سمع التلاميذ العشرة الباقون طلب أُم ابني زبدي، وردّ الرب عليهم - كما ذكرنا سابقاً - حتى استشاطوا غيظاً من أجل الأخوين وكأنهم قد استأثروا بالمكانة الأعظم في ملكوت السموات. ونسوا الدرس الذي أعطاه لهم الرب من قبل حينما أقام في وسطهم ولداً وعلَّمهم قائلاً: إن لم تصيروا مثل هذا الولد فلن تدخلوا ملكوت السموات، مُبيِّناً لهم بذلك أنَّ الأعظم في ملكوت السموات ليس هو مَن يسعى أن يكون رئيساً ومُتسلِّطاً بين إخوته، بل الذي يتزيَّن بقامة الطفل الروحية في الوداعة وتواضع القلب وإنكار الذات، أو بالأحرى يتمثَّل بالمسيح نفسه الذي قال لهم قبلاً: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم» (مت 11: 29).

ولكن المسيح عاد وكرَّر الدرس هنا بصورة أخرى، مُبيِّناً لهم أن الشجار على المركز الأول أمر لا يليق بهم، بل برؤساء الأُمم الذين يُجاهدون مستميتين بالقوة والمال وبكل الأساليب المنافية للأخلاق والحق والعدل ليصيروا رؤساء وملوكاً وذوي نفوذ وجاه ومال. ولا يتورَّعون أن يتملقوا الشعب ويتزلفوا للمسئولين لينالوا بُغْيتهم. وحالما ينالون ما يُريدون ويأخذون مركز الصدارة، يستعبدون الذين تملقوهم، ويتعظَّمون عليهم ويرغمونهم على أن يخضعوا لهم. أما أنتم فلا يكون فيكم هكذا، فأنتم لستم من هذا العالم (يو 15: 19)، بل أنتم أبناء أبيكم السماوي، «فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس» (كو 3: 1)، و«اهتموا بما فـوق لا بما على الأرض» (كو 3: 2)، «ولا تُشاكلوا هذا الدهر، بل تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم» (رو 12: 2). ولا تتشبهوا بأهل العالم في التكالُب على المراكز والرئاسات والتناحُر على المركز الأول. فإن كنتُ قد أوصيتكم أن تختاروا المتَّكأ الأخير إذا دُعيتم إلى وليمة، لماذا تطلبون الآن الكرامة والمركز الأول؟! «بل مَن أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً، ومَن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً، كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخْدَم بل ليَخْدِم، وليبذل نفسه فِدْيةً عن كثيرين».

وهذا عكس ما يفعله أهل العالم، الذين يضعون كل رجائهم في الأرضيات لأنهم لا يؤمنون بالسماويات، «ولكن كثيرون أوَّلون يكونـون آخِرين، وآخِرون أوَّلـين» (مـت 19: 30). ففي السماء سوف نرى عجباً، فكثيرون من الذين كانوا يتبوَّؤون المراكز الأولى في الأرض سوف نراهم في أحطِّ المراتب. أما المساكين والمجهولون والذين عاشوا بالأمانة والتقوى والمحبة باذلين أنفسهم في خدمة الآخرين، فهؤلاء سوف «يأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب ويتَّكئون في ملكوت الله» (لو 13: 30). أما الذين يتناحرون على المراكز الأولى والرئاسة في العالم، أو في الكنيسة حتى جعلوها شبيهة بما يحدث في العالم، فسوف يجدون أنفسهم في المؤخرة، وربما لا يجدون لهم موضعاً في ملكوت الله.

لقد تعلَّمنا من تاريخ الكنيسة على مدى العصور والأجيال كيف كان يهرب المختارون لكرسي البطريركية من قبول هذه الكرامة والمسئولية العظمى حتى وصل الأمر إلى تقييدهم وأَخذهم بالقوة رغماً عن إرادتهم. من أجل هذا كان الرب يتمجَّد فيهم ويُعلن فيهم قوته ونعمته وحكمته. أَلَم يختار «الله أدنياء العالم والمُزدَرَى وغير الموجود ليُبطل الموجود، لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه» (1كو 1: 29،28)؟!

الدرس الأخير للردِّ على ”مَن هو أعظم“؟

أما الدرس الأخير الذي أعطاه الرب يسوع لتلاميذه ردّاً على سؤالهم: ”مَن هو أعظم في ملكوت السموات“؟ كان في الليلة التي أسلم فيها ذاته عن خلاص العالم. فقد أحسَّ الرب أن الإجابة العملية على هذا السؤال المُلِحِّ يُعَدُّ أخطر درسٍ ينبغي أن يُرسِّخه في قلوب التلاميذ وأذهانهم قبل أن يُفارقهم، خاصةً وإنه عالِم أنه سيترك تلاميذه لخدمةٍ لا حدود لها: «اذهبوا وتَلْمِذوا جميع الأُمم» (مت 28: 19)؛ لذلك فقد رآهم في أشد الاحتياج لأن يُسلِّمهم هذا السرَّ عملياً حتى لا ينسوه طوال حياتهم وخدمتهم، ولكي يُسلِّموه لكل الآتين بعدهم من الذين سيؤمنون به بكرازتهم ويحملون نير الكرازة والتبشير من بعدهم. فقد «قام عن العشاء، وخلع ثيابه، وأخذ مِنْشفةً واتَّزر بها، ثم صبَّ ماءً في مِغْسَلٍ، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان مُتَّزراً بها...» (يو 13: 5،4).

ولما فرغ الرب من غسل أرجل التلاميذ، وأخذ ثيابه واتَّكأ، قال لهم: «أتفهمون ما قد صنعتُ بكم؟ أنتم تدعونني مُعلِّماً وسيِّداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك. فإن كنتُ وأنا السيِّد والمُعلِّم قد غسلتُ أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعتُ أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً. الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنه ليس عبدٌ أعظم من سيده، ولا رسولٌ أعظم من مُرسله. إن عَلِمتُم هذا فطوباكم إن عملتموه» (يو 13: 12-17).

وفي هذا الصدد يُعلِّق الأب متى المسكين قائلاً:

[... من عمق أعماق المحبة المذبوحة على العشاء (الأخير)، قام المسيح، وهو لم يستكمل العشاء، ليُكرِّس التلاميذ للإرسالية العُظمى التي عيَّنها لهم من قبل الدهور، في طقس تواضُعي مهيب، إذ جلس كخادم بل كعبد عند موطئ أقدام تلاميذه لغسل أرجلهم واحداً فواحداً. ولم يذكر الإنجيل أنه قدَّمهم بحسب الترتيب، لأن هذا يتنافى قطعاً مع روح هذا الطقس بجملته؛ وهذا كله يرفع طقس خدمة الكرازة إلى أقصى حدود التواضع التي يمكن أن يتصوَّرها إنسان... فهو السيد والمعلِّم، وقد انحنى على أرجلهم يغسلها ويُنشِّفها بأمانة خدمة العبيد، لكي يرتدع الكبير فيما بعد وينحني للصغير حتى إلى غسل الأرجل أو تقبيلها!... لأن العامل في خدمة الكبير هو العامل في خدمة الصغير، وهو الروح القدس والمسيح نفسه...](2).

وهكذا وضع المسيح هذا الطقس كمثالٍ للسيد الذي اتَّضع لعبيده المُرسلين، لكي لا يتعظَّم عبده المُرسَل فيما بعد بأيِّ حالٍ من الأحوال على عبدٍ آخر مُرسَلٍ مثله. لأن المسيح وهو السيد لم يتعظَّم على عبيده المزمع أن يُرسلهم، بل وضع نفسه، وهو السيد والراسل، وغسل أرجل تلاميذه كعبد، وجعلهم كأنهم أسياد، مع أنهم عبيده وصنعة يديه.

فانظروا إلى أيِّ مدى تنازَل المسيح لتلاميذه لكي يُسلِّم لهم وللكنيسة ”سرَّ غسل الأرجل“ حتى يُستعلَن لهم بالروح ويعلموا ما جَرَى لهم في هذا السرِّ، من انسكاب لروح المسيح واتضاعه وإخلائه لنفسه آخذاً صورة عبدٍ، لكي بأخذهم لهذا الروح، يُقدِّموا بعضهم بعضاً في الكرامة، ويُشفوا من مرض الجري وراء العظمة وحُب الرئاسة وشهوة المجد الباطل والترأُّس على بعضهم البعض.

(يتبع)

(1) الأب متى المسكين، ”الإنجيل بحسب القديس متى – دراسة وتفسير وشرح“، ص 523،522.
(2) الأب متى المسكين، ”الإنجيل بحسب القديس يوحنا - دراسة وتفسير وشرح“، الجزء الثاني، ص 790.