من مخطوطات الدير


ميمر عيد الغطاس المجيد
للأنبا بولس البوشي
أسقف مصر (القاهرة القديمة)
- 2 -

+ عظة أو ميمر على عيد الغطاس المجيد للأنبا بولس البوشي أسقف مصر في القرن الثالث عشر الميلادي، نقلاً عن المخطوطة م 18 (ورقة 47 وجه إلى 59 وجه) - مكتبة دير القديس أنبا مقار ببرية شيهيت. وقد نُشر الجزء الأول في عدد أكتوبر 2011، ص 7.


ولما أكمل الربُّ هذا بأسره (أي ما قاله الملاك جبرائيل لزكريا الكاهن عن ابنه يوحنا الذي يتقدَّم أمام الرب بروح إيليا وقوته)، قال الكتاب العزيز: «حينئذ جاء الرب يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد مـن يـوحنا» (مت 3: 13). يا لهذا الاتضاع الذي لا يُقاس ولا يستطيع لسانٌ بشري ترجمته. كيف (أنَّ) الرب الذي يأتي إليه كلُّ البشر، كما هو مكتوب (مز 65: 2)، جاء إلى الأردن ولم يأنف من ذلك، وقدوس القديسين جاء ليعتمد من الذي قدَّسه هو، باركه واصطفاه وأعطاه موهبة روح قدسه، وأرسله بشيراً أمامه. وليس أنه كان محتاجاً إلى ذلك، بل من أجلنا نحن المحتاجين، ولا لأجل قبول الروح القدس أيضاً، لأنه لم يَزَل معه أزلياً في الجوهر الواحد اللاهوتي، بل لكي يُعطينا نحن موهبة الروح القدس بالمعمودية على الإيمان باسمه القدوس. هذا الذي طهَّر المياه بحلوله فيها وقدَّسها وطهَّرنا نحن أيضاً بهبوط روح القدس نازلاً عليها.

وما الذي قاله الكتاب الإلهي؟ قال إن يوحنا امتنع من ذلك واستعفى قائلاً: «أنا المحتاج أن آتي وأعتمد منك» (مت 3: 14)، أعني أن ليس أنت محتاجاً إلى شيء من هذا بالجملة، لأنك البار وحدك، بل أنا وأمثالي من كافة البشر الذين هم تحت الأشجاب (الاتهامات) محتاجون إلى الاعتماد منك، يا مُعطي مواهبه لكافة مَن يدنو إليه، وفاعل في الكل التقديسات، ومنك خاصة يتقدس جميعهم ويتباركون يا قدوس القديسين.

نحن محتاجون إلى أن نتقدَّس منك، وليس من أحد سواك، يا مَن بغيره لا نقدر على شيء من الفضل.

أيها البار وحده الذي بلا عيب، نحن محتاجون أن نتبرَّر منك لكيما نخلص من الأشجاب (الاتهامات) التي صارت إلينا من آدم الأول.

نحن محتاجون إليك أن تُخزِّق كتاب خطايانا.

نحن محتاجون إليك أن تُحيينا بعد الوفاة، عندما تُرسل صوتك فيسمع الأموات ويقومون، الصالحون والطالحون معاً.

نحن محتاجون إليك أن تصنع معنا رحمةً في محكمك (قضائك) المرهوب.

نحن محتاجون إليك أن تنقذنا من العذاب الدائم وتُحيينا في الملكوت الأبدية. ليس أنت محتاجاً إلى عبادتنا، بل نحن محتاجون إلى ربوبيتك وتحنُّنك.

وإن يوحنا أذهله تواضُع الرب واستعفى قائلاً: «لِمَ تأتي إليَّ، أنا المحتاج أن آتي إليك وأعتمد منك». فأجابه الربُّ قائلاً: «دَع الآن فهكذا يجب لنا أن نُكمِّل كلَّ البر» (مت 3: 15). أعني دَع هذه المُمانعة والاستعفاء لأنك لم تعرف قوة تدبيري. كما قال لبطرس رأس الرسل لما امتنع أن يغسل له قدميه: «إن الذي أصنعه أنا لست تعرفه الآن، لكنك ستعرفه فيما بعد» (يو 13: 7). وحيث لم يجد بطرس موضعاً للاستعفاء تركه أن يغسل له قدميه.

وهكذا جرى الحال في أمر يوحنا أيضاً بقوله: دَع الآن هذه المُلاججة، واصنع ما آمرك به، لأن هكذا يجب لنا أن نُكمِّل كلَّ البر. أعني بكلِّ البر أن الخالق افتقد خليقته بذاته، وتعاهَد بَرِيَّته (خليقته) بنفسه، لكي يُبرِّرها من الشَّجَب (الدينونة). والصانع لم يرفض ما صنعت يداه، لأن الصَّنْعة (أي الشيء المصنوع) إذا فسدت لا يقدر يصلحها إلا صانعها. ولم يتعاهدها فقط، بل وصار لنا مثالاً وطريقاً مُفْضية (مُؤدِّيـة) إلى الحياة المؤبَّـدة، كما قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو 14: 6)، وبه صارت لنا النجاة وغفران الذنوب، وبه تقدَّسنا لأنه يعلو كل قداسة.

فأما يوحنا حيث لم يقدر على الاستعفاء، ولا وجد له مفرّاً، ولم يقدر (أن) يُعاند أمر سيده، حينئذ تركه. وأن الربَّ لما اعتمد «صعد للوقت من الماء»، لكي ما يُرينا سرعة اهتمامه بنا، «فانفتحت له السموات» لأنه مَلَكَ كل شيء، «وظهر روح الله نازلاً شِبه حمامة آتياً إليه» لنعلم أن الروح كاملٌ ذو أقنوم، وأنه استُعلن لأجل استعلان الابن، ليكون فاعلاً في كل التقديسات. وحيث هو غير متجسِّد، تمثَّل شِبْه حمامة دون غيرها من الطير لأجل دِعَتِها (وداعتها).

«وإذا صوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررتُ». وبهذا سُمِّي هذا العيد "عيد الظهور" كما تقدَّم القول، لأنه فيه ظهر سرُّ الثالوث القدوس، الابن في الأردن، والآب يشهد له، وروح القدس نازلاً عليه.

ولماذا لم يحلَّ على الرب وهو في نهر الأردن؟ وذلك لئلا يُظنَّ أنه حلَّ على يوحنا المعمداني، لأن اسمه كان ذائعاً. ولهذا لما صعد الرب من الماء واعتزل من يوحنا، حلَّ عليه خاصة، وإن كان الروح معه لم يَزَل في وحدانية اللاهوت جوهراً واحداً. بل صنع هذا لكيما كل مَن اعتمد بهذا المثال على اسم الثالوث القدوس الواحد في اللاهوت يقبل موهبة الروح القدس، لأن الرب صار لنا مثالاً في كل شيء.

في إنجيل القديس يوحنا:

فأما يوحنا الإنجيلي فإنه جعل فاتحة إنجيله في الميلاد الأزلي الذي ليس له ابتداء قائلاً: «في البدء كان الكلمة، ولم يَزَل الكلمة عند الله، وإلهٌ هو الكلمة»، وما يتلو ذلك. فلما تقدَّم لم يترك تدبير التجسُّد والمعمودية المقدسة لأجل فضلها، بل أكد ذلك جيداً بحلول الروح على الأردن وقول المعمداني: «عاينتُ وشهدتُ أنَّ هذا هو ابن الله» (يو 1: 34).

ولم يقتصر بهذا القول، بل زاد ذلك ظهوراً وتأكيداً بأن الرب إنما صنع ذلك لأجلنا خاصة. يقول الرب لنيقوديموس: «إنه ينبغي لكم أن تولدوا من ذي قبل، لأن المولود من الجسد هو جسد، والمولود مـن الروح فهو روح» (يو 3: 6،3). وقال: «مَن لم يولد من الماء والروح فلا يُعاين ملكوت الله» (يو 3: 5). هذا الذي به جدَّدنا وجعلنا بنين للآب في الحياة المؤبدة. كما يقول الرسول: «إنه أحيانا بغسل الميلاد الثاني وبتجديد موهبة روح القدس» (تي 3: 5)، أعني عن الروح الذي نزعه من آدم عند المخالفة، جدَّده فينا بالمعمودية مجاناً بنعمته. قال: «الذي أفاضه علينا من غناه وفضله بتأييد يسوع المسيح مُحيينا، لنتبرَّر بنعمته ونكون وارثين لرجاء الحياة الدائمة» (تي 3: 6-7).

مفاعيل الخلاص يوم المعمودية:

فلذلك يا أحبائي، كرامة هذا العيد جليلة جداً، ويجب علينا أن نوقِّرها لأن فيها استُعلِن لنا الثالوث.

+ اليوم أعطانا الابن سلطاناً أن نولد من ذي قبل، ونصير بنين لله الآب بالروح. والروح يشهد لأرواحنا إننا بنون لله (رو 8: 16).

+ اليوم رضَّ (سحق) الربُّ رأس التنين على المياه، كنبوة داود (مز 74: 13).

+ اليوم عتقنا الابن من العبودية المُرَّة، وصيَّرنا أحراراً عندما جعل فينا موهبة روح قدسه، ذاك الذي نزعه من أبينا آدم عند أكله من عود المعصية.

+ اليوم كمل المكتوب في يـوئيل النبي: «إني أفيض روحي على كل جسد، يقول الرب» (يؤ 2: 28).

+ فلنصنعه عيداً نقياً طاهراً كما يليق به، لأن فيه طهَّرنا الربُّ بحلول روح قدسه، وولدنا ميلاداً جديداً، وليس من زرع يَبْلَى كما كان أولاً، بل مِمَّا لا يَبْلَى لإرث ملكوت أبدية لا زوال لها (1بط 1: 23)؛ إذ الصوت الصارخ نسمعه اليوم قائلاً: «أعدُّوا طريق الرب واصنعوا سُبله مستقيمة». وإن كان هذا قد صار إلى يوحنا وصرخ به في المسامع جسدانياً، فقد أكمل آباؤنا الرسل الأطهار كنائسياً في إنذار البُشرى وبنيان الكنيسة، كما تقدَّم القول. فإنه يأتي إلى اليوم قائماً ثابتاً صائراً إلينا روحانياً، يصرخ في مسامع نفوسنا، التي صارت كمثل برية خالية من عمل البر، لينزل الاهتمام بها، فأمرنا أن نُسهِّل طريق الرب ليحلَّ فينا بالروح عندما نحفظ وصاياه، كما قال: «إن الذي يحفظ وصيتي أنا والآب نأتي ونتخذه مسكناً» (يو 14: 23).

+ فما الذي يكون أشرف من هذا أن الإنسان الحقير الترابي يصير مسكناً للرب الإله العظيم السمائي بعمل وصيته. وحينئذ تمتلئ الأودية التي في تلك النفس، وهي ضعف القلب، وقلة الإيمان، وعدم الرجاء؛ تمتلئ إيماناً وقوةً ورجاءً صالحاً في الله. ثم الآكام التي فيها تتضع، أعني الكبرياء والافتخار والعصيان لناموس الله، وتصير مُتَّضعة من أجل الرب الذي اتضع من أجلنا، خاضعةً لناموسه بمحبة واجتهاد، حافظةً وصاياه بشهوة، حتى أن النفس التي كانت وعرة في مسلكها تصير سهلة في انقيادها، وكانت أولاً وحشية (أي برية) خشنة في طباعها، تصير ليِّنة سهلة في تصرُّفها، قد رُسم فيها وطُبع ناموس الروح، ليس في ألواح حجرية، بل في قلوب ليِّنة لحمية، كما يقول الرسول (2كو 3: 3). وهكذا يُعاين كل ذي جسد خلاص الله (لو 3: 6).

+ ويجب علينا أن نذكر العهد الذي عاهدنا به الرب وقت المعمودية كالأوامر الرسولية، بأن نجحد الشيطان وكل أعماله، ونتبع ناموس الرب وكل أفعاله. وإن كنا قد زللنا وعملنا بالضدِّ من ذلك، فنتجدَّد بنار التوبة التي من تلقاء الروح، وننهض من السقطة ونرجع عن توعُّر الهلاك، إذ الرب يدعونا على فم إشعياء النبي قائلاً: «ارجعوا إليَّ فأرجع إليكم يقول الرب، ولو كانت خطاياكم قد صارت كـالدم جعلتها كالثلج، ولو كانت كصبغ القرمز رددتُها كالصوف الأبيض النقي» (إش 1: 18). فإن تهاونَّا في ذلك يكمل علينا قول الرسول: «أن ليس لهم عهد ولا وفاء لهم». اللفظة قيلت للمؤمنين خاصة، فقال: «أولئك الذين يعرفون حُكْم الله أنه مستوجب الموت على الذين يعملون هذه القبائح، وهم لا يقتصرون على العمل بها فقط، بل ويلتمسون مشاركة مَن يعملها أيضاً (رو 1: 31-32).

+ فالآن نرجع للرب بتوبة نقية لكي نَطْهُر من هذه القبائح، ونغتسل من وسخ دنسها، لأن الرب يُعلِّمنا على فم إشعياء النبي قائلا: «اغتسلوا وتطهَّروا وانزعوا الشر والخبث من قلوبكم أمام عيني، يقول الرب» (إش 1: 16).

ثم إن النبي يُبكِّت قوماً يدومون على خطاياهم وجهلهم قائلاً: «الويل للذين يسكرون من باكر ويـدومون على سكرهم إلى حين المساء» (إش 5: 11)، أعني الذين يتهاونون بنفوسهم في دنس الآثام من صباهم إلى كمال حياتهم، فيُدركهم المساءُ الذي هـو الموت، الـذي لم يبقَ فيه عمل، ولا يُقبل فيه توبة.

+ فلنسعَ الآن في عمل البر حسب قوتنا ما دام لنا زمان ومهلة قبل أن تدركنا الوفاة، لكي نجد منه معونة ونظفر عنده برحمته، والرب يحفظنا أجمعين من مكائد العدو ومناصبه (شِباكه)، ويُؤهِّلنا لسماع ذلك الصوت الفَرِح القائل: «تعالوا إليَّ يا مُباركي أبي، رِثوا المُلْك المُعدَّ لكم منذ إنشاء العالم» (مت 25: 34). بشفاعة سيدتنا البتول مرتمريم والدة الخلاص، وشفاعة القديس البار مار يوحنا المعمداني وشفاعات آبائنا الرسل والشهداء والقديسين، آمين.

تمَّ وكمل ميمر الغطاس المجيد بسلام من ربنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح الذي له المجد دائماً أبدياً سرمدياً، آمين آمين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis