من تاريخ كنيستنا
- 72 -


الكنيسة القبطية في أواخر القرن الحادي عشر
وأوائل القرن الثاني عشر
البابا مقارة الثاني

البطريرك التاسع والستون
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1102 - 1128م)

جلس هذا الأب الجليل على كرسي مدينة الإسكندرية الرسولي في أيام الخليفة ”الآمِر“، وكان وزيره اسمه ”الأفضل“ ابن أمير الجيوش بدر الدين الجمالي (الأرمني الأصل)، ثم بعد موت الوزير ”الأفضل“، نال الوزارة ”المأمون“.
كيف تعاون الأساقفة والكهنة مع الشعب في اختيار البابا مقارة؟

لما تنيح أنبا ميخائيل البطريرك، كان الدور في اختيار مَن يُقام عِوَضاً عنه هو لأهل القاهرة ورهبان دير القديس أنبا مقار. فكتب هؤلاء رسائل للأساقفة المُقيمين بالصعيد الأعلى (من المنيا إلى أسوان)، والصعيد الأدنى (من الجيزة إلى ما بعد بني سويف وقبل المنيا)، وأساقفة الدلتا (المُسمَّاة في كتاب "تاريخ البطاركة" ”أسفل الأراضي“)، ما نسميه نحن الآن ”الوجه البحري“ أو ”مصر السُّفلَى“؛ يُعْلمونهم بنياحة البابا ويُقدِّمون لهم التعازي فيه، ويسألونهم الحضور ليجتمعوا مع أسقف القاهرة والأراخنة ليتفقوا على مَن يرتضونه بطريركاً. (لاحِظ كلمة ”يتفقوا“ التي كانت تُعبِّر عن روح الاتفاق والشركة بين الكنيسة كلها - إكليروساً وشعباً - في تلك العصور، حتى ولو حدثت بينهم خلافات عابرة أثناء عملية البحث عن البطريرك المناسب). كما كتبوا أيضاً لكنائس الإسكندرية بمثل ذلك.

ولما كان الوقت هو زمان الصيف وهو موسم حصاد القمح والثمار والكروم، وكان الأساقفة مشغولين بجمع ما يحتاجون إليه من الشعب من أموال للكنائس، من عائد بيع القمح (للقربان) والكروم (عصير الكَرْم)، وغير ذلك. فلم يستطيعوا الاجتماع معاً إلاَّ بعد عيد الصليب (17 توت / 14 سبتمبر بحسب التقويم اليولياني القديم). لذلك وصل بعضهم إلى القاهرة، والبعض الآخر إلى الأديرة مباشرة.

واتفق رأي الذين وصلوا إلى القاهرة على المسير إلى دير القديس أنبا مقار للاجتماع مع بقية الأساقفة الذين هناك، مع الرهبان، وذلك للاشتراك معاً في الصلاة والتضرُّع إلى الرب لإرشادهم إلى مَن يُرضي قلب الله ويختاره لرعايتهم. (تأمل في هذا التقليد المتكرر على مدى القرون السالفة وهذا الجيل في كيفية التصرُّف بعد نياحة البابا البطريرك: ”الصلاة“). وتم ذلك في شهر بابة، إذ اجتمع الجميع في كنيسة القديس أنبا مقار حيث مكثوا أياماً يُصلُّون ويتذاكرون مع رهبان البرية من السوَّاح والقديسين ومَن يسكنون في الصوامع من الحُبساء، ليتبادلوا الرأي فيمَن يصلح لهذه الرتبة الكهنوتية المباركة التي هي الخلافة الرسولية أي خلافة القديس مرقس الرسول على كرسي الإسكندرية. ولكن لم يتوافق رأيهم على اسم واحد يصلح لذلك، وظلُّوا هكذا إلى آخر شهر بـابـة.

ولكن أخيراً، اتفق رأيهم على اختيار واحد من رجلين: أحدهما الأب مقارة، وكان يُلقَّب بـ ”المصوِّر“ أي ”الرسَّام“، وغالباً هو الذي رسم الأيقونات الجدارية داخل هياكل كنيسة القديس أنبا مقار، والتي ما زالت آثارها موجودة حتى يومنا هذا؛ أما الآخر فهو الشماس يؤانس ابن شنودة (يُلقِّبه كتاب ”تاريخ البطاركة“ باسم ”ابن سنهوت“). واختلف الرأي فيمَن يُقدِّمونه من بين الاثنين. فكتبوا (أي الأساقفة) رسالة إلى الأراخنة بالقاهرة يذكرون فيها طول مدة إقامتهم بوادي ”هبيب“ (النطرون فيما بعد)، وكيف أنهم تحقَّقوا من كل الرهبان في الأديرة التي هناك، والحبساء، فلم يجدوا مَـن يصلح لتقدمته بطريركاً على الكرسي الإسكندري، إلاَّ أحد المذكورَيْن.

وقال الأساقفة في رسالتهم: ”لقد استقر الأمر بيننا أن نردَّ الرأي إليكم لاختيار واحد من بينهما، فمَن اخترتموه ورضيتم بـه، قدَّمناه“. (مَثَل جميل لمركز الأراخنة ودورهم الأساسي في اختيار الأب البطريرك حسب التقليد السائـد في الكنيسة).

فلما وصلت الرسالة، اجتمع الأراخنة بكنيسة القديس ”أبو سرجة“ (سرجيوس) بقصر الشمع وقرأوها. فمنهم مَن كان يعرف الراهبَيْن المذكورَيْن، ومنهم مَن كان يعرف أحدهما دون الآخر، ومنهم مَن كان لا يعرف أي واحد منهما.

كيفية الاختيار بين الاثنين:

لذلك قرَّ رأي الذين يعرفونهما كليهما أن يزكُّوهما الاثنين لصلاحيتهما، لكنهم إذ كان يجب أن يختاروا واحداً فقط، فقد قالوا: ”إن مقارة كهل (أي في حوالي الخمسين من عمره)، وهو مُحجاج (أي قادر على التعليم والمحاجاة)، جيد الكلام، ملتزم بقوانين الرهبنة؛ أما يؤانس الراهب فهو شاب، حقاً هو ماهر في الكهنوت، وصبيح الوجه، فصيح الكلام“. لكنهم رغبوا جميعهم في ”مقارة“ لأجل شيخوخته وحنكته، ونادوا باسمه بفم واحد.

وهكذا كتبوا الجواب بذلك إلى الأساقفة والكهنة المقيمين بالدير. فلما وصل ردُّ الأراخنة، اجتمعوا كلهم لقراءته، واتفقوا أجمعين على الرضا بما تضمَّنه. وقام بعض الأساقفة والكهنة والرهبان، متوجِّهين إلى حيث مقارة المذكور، وأمسكوه وأتوا به إلى المجمع. فتضرَّر من ذلك، وامتنع، واستحلفهم أن يعفوه، وقال لهم: ”أنا ابن ثانية (أي ابن زوجة ثانية لأبيه، ويمنع قانون الكنيسة دخول مَن هو كذلك إلى الكهنوت)، كما أني لا عِلْم عندي (أي ادِّعاء بالجهل)، ولا كهنوت (لم يكن مرسوماً كاهناً)، ولا أصلح لِمَا تريدونه مني“!! فلم يلتفتوا إلى اعتراضاته (وعلى الأخص حينما اكتشفوا أنه ليس ابن زوجة ثانية لأبيه). وهكذا قيَّدوه بالسلاسل، وألبسوه الثوب، ووضعوا عليه الأيدي (ما يُسمَّى بالشرطونية)، وذلك في يوم الأحد الثالث عشر من شهر هاتور سنة 819 للشهداء، وساروا به إلى القاهرة، إلى كنيسة القديس قزمان التي بالقرب من ”القنطرة“(1) بجوار بستان مشهور في ذلك الموضع اسمه ”الزهري“. وكان ذلك يوم 17 هاتور.

إبلاغ الوزير بوصول الأب البطريرك:

وما أن عَلِمَ أحد أراخنة الأقباط(2) بقدوم الأب البطريرك، حتى توجَّه إلى منزل الوزير ”الأفضل“ وأعلمه بوصول الأب البطريرك أنبا مقارة، وأنه ينوي السفر إلى الإسكندرية ليُتمِّم إجراءات ”شرطونيته“، أي وضع الأيادي عليه في كنائسها، لأنها الكرسي المرسوم عليه الأب البطريرك أسقفاً على مدينة الإسكندرية، والتمس منه أن يُعطي أوامره للموظفين في الإسكندرية ألاَّ يطلبوا منه رسوماً جرت العادة بتحصيلها مِمَّن سبقوه من البطاركة، وقال له إن هذا رجل راهب، فقير الحال، ليس معه شيء ولا اقتنى قط ولا ديناراً ولا درهماً. ثم طلب منه استدعاءه بين يديه لتطيب نفسه كما جرت عادة مَن سبقه. فأجابه الوزير إلى كل مطالبه، وأمر بإحضاره مُكرَّماً مُبجَّلاً. فركب من كنيسة القديس قزمان ومعه الكهنة يقرأون الأناجيل، ويحملون مجامر البخور والشمع المنير، بينما الشعب حوله والأساقفة والأراخنة راكبين دوابهم خلفه، ورجال الدولة ومتولي المعونة بالقاهرة، حتى وصلوا إلى دار الوزير ”الأفضل“.

فلما دخل الأب البطريرك إلى الدار رُفعت دعوات وصلوات كثيرة من أجله (لكي يُعطيه الرب نعمة في عيني الوزير ”الأفضل“)، ويقول كاتب سيرته في كتاب ”تاريخ البطاركة“: ”فرآه (الوزير) وديعاً عفيفاً، حسن الوجه، حلو الكلام، وكان الله معه. فنال القبول من الوزير، فأدناه منه، وأجلسه وأكرمه إكراماً كثيراً، وخاطبه بأجمل الأقوال“.

وأمر الوزير أن يُحرَّر من أجله منشور إلى والي الإسكندرية وإلى غيره من الولاة الذين يَعْبُر على مدنهم في طريقه إلى الإسكندرية، بإعزازه وإكرامه وإعفائه مـن طلب أي رسوم، ومساعدته في جميع مـا يحتاج إليه. ثم قـام الأب البطريرك وخرج من مجلس الوزير راضياً مرضياً.

وفرح الشعب في ذلك اليوم فرحاً عظيماً، وأخذوا المنشور وساروا إلى الإسكندرية، وخرج كل الشعب للقائه. ولَقِيَ من الوالي بالإسكندرية كل حفاوة وإكرام، وقد منع الوالي الموظفين من تحصيل ولا درهمٍ واحد من البطريرك.

تكريس البطريرك في كنيسة مار مرقس الإنجيلي بالإسكندرية:

كانت العادة أن يتم تكريس البابا البطريرك أولاً في الإسكندرية، وهذا كان يوم 12 كيهك سنة 819 للشهداء، ثم بعد ذلك في دير القديس أنبا مقار، ثم في القاهرة.

على أنه بعد تكريسه، وبدء أعمال رئاسته، حدثت مجادلات بينه وبين الإسكندريين بسبب الرسم الواجب على البطريرك دفعه سنوياً لكنائس الإسكندرية، وطلبوا منه - كما حدث مع البطريرك السابق - أن يكتب لهم تعهُّداً بذلك. فامتنع، وقال لهم: ”أنا رجل راهب وليس لي شيء أدفعه، ولا أكتب بخطِّي تعهُّداً بما لا أقدر عليه، ولكن مهما قدرتُ على شيء دفعته لكم في كل سنة. فإن رضيتم بهذا كان بها، وإلاَّ فاتركوني أرجع إلى حيث كنتُ، فهذا أصلح لي وأحبُّ إليَّ مما دعوتموني إليه“.

ولكن ظلَّت المحادثات معه إلى عدة أيام، إلى أن كتب تعهُّداً بمائتي دينار في كل سنة.

عودته إلى القاهرة ثم توجُّهه إلى دير أنبا مقار:

ثم عاد الأب البطريرك إلى مصر يوم السبت 24 كيهك، واجتمع الأراخنة والشعب يوم الأحد في كنيسة السيدة العذراء ”المُعلَّقة“، وظنوا أنه سيُقيم القدَّاس وفيه يُكرَّس؛ لكن جماعة من رهبان دير القديس أنبا مقار اجتمعوا معه وقالوا له: ”ما تُقدِّس قدَّاساً بعد الإسكندرية إلاَّ في دير أنبا مقار، كما جرت عادة البطاركة السابقين“.

فتوجَّه الأب البطريرك إلى دير القديس أنبا مقار في منتصف شهر طوبة، وقدَّس في هيكل كنيسة أنبا مقار يوم 23 طوبة، ثم عاد إلى القاهرة وأقام القداس في كنيسة السيدة العذراء ”المُعلَّقة“ في يوم آخر طوبة، وكُرِّس فيها. وقُرئ تقليد رسامته من على الأنبل (المنبر العالي ذي السلالم المخصَّص للوعظ)، وذلك باللغات اليونانية والقبطية والعربية (أي أن هذه اللغات الثلاث كان لها في هذا العصر مَن يقرأها ويفهمها من الشعب والإكليروس). وانتهى القداس حسب المُتَّبع، وتقرَّب جميع الشعب من الأسرار المقدسة. وكان شعبٌ كثير قد اجتمع في ذلك اليوم حتى ضاقت بهم الكنيسة.

وفرح الشعب وشكروا الله على رحمته وعنايته بشعبه في كل وقت، كما وعد في إنجيله المقدس، إذ قال: «ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر، آمين».

ونُكمل أعمال حبرية البابا مقارة الثاني في العدد القادم، إن أحب الرب وعشنا.

(يتبع)


(1) ”القنطرة“ المُشار إليها هنا كانت تقع أمام ضاحية ”فم الخليج“ جنوب القاهرة، وتقع بين هذه الضاحية وبين حصن بابليون، ولا أثر لهذه الكنيسة الآن.

(2) كان كاتب الوزير أي بلغتنا الحاضرة ”مدير مكتبه“، ووكيله الذي يوقِّع نيابة عنه على أوامر صرف الأموال، ومدير ديوان مجلس الوزير، والمُراجع على جميع أعمال الموظفين الرسميين في دواوين الحكومة.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis