فكر آباء الرهبنة


التطويبات
في قصص وأقوال آباء البراري
- 6 -

«طوبى لصانعي السلام»:
كلمة: ”صانعي السلام“ في اللغة اليونانية تعني ”مُصالِحين“، أي يصنعون صُلحاً وسلاماً بين الآخرين. لأنه إن وُجدت فرصة لصُنع السلام، فإن ذلك يكون عندما يسود عدم الوفاق أو العداوة أو النزاع. فطوبى للذين لا يكتفون بأن يكون لهم سلام لأنفسهم وفي داخلهم، بل يُجاهدون لكي ينشروا السلام حولهم فيحصلوا للآخرين على الخير الذي ينعمون به.

يُظهِر أحد أقوال الآباء أنَّ: ”ثلاثة من الرهبان تآخوا في الرب، فاختار أحدهم الصلح بين الناس كقول الرب: «طوبى لصانعي السلام، فإنهم بني الله يُدعَوْن». واختار الآخرُ خدمة المرضى وتعاهدهم كقول الرب: «كنتُ مريضاً فتعهدتموني». أما الأخير فقد اختار لنفسه الوحدة ليتفرغ لخدمة الرب وحده والصلاة كل حين كقول الرسول (بولس). فأما الأول فإنه ضجر من خصومة الناس ولم يقدر أن يُرضيهم كلهم، فلما تعب مضى إلى صاحبه الذي يفتقد المرضى، فوجده قد ضجر هو الآخر مما هو فيه. فقاما معاً وأتيا إلى المتوحد، وأعلماه بحالهما واستخبراه عن حاله، فسكت قليلاً، ثم سكب ماءً في إناء وقال لهما: "تأملا هذا الماء"، فتأمَّلاه مضطرباً ولم ينظرا فيه شيئاً. وبعد أن سكن الماء قال لهما: "انظرا الآن". فنظرا، وإذا الماء يُريهما وجهيهما مثل المرآة. فقال لهما: "هكذا تكون حال مَن يكون بين الناس، فإنه لأجل اضطرابهم لا يمكنه أن ينظرَ ما فيه، أما إذا انفرد ولاسيما في بريةٍ، فحينئذ يرى نقائصه“(1).

ألا تؤيِّد هذه القصة ما نعرفه عن السلوك الطبيعي للراهب الذي ينجذب أكثر - بواسطة فحص ذاته واتضاعه - إلى الانشغال بعمله بدلاً من التدخُّل في عمل غيره؟ وأفضل مثال لذلك هو الأب بيمن الذي ترك اثنين من إخوته يتشاجران دون أن يقول لهما أي شيء، وهو ما أغضب الأب أنوب - أخاه الأكبر - لدرجة السخط(2).

ويبدو أن الأب بيمن كان حينئذ لا يزال شاباً يتبنَّى معتقداً عن إنكار الذات والعزلة في فترة ما تحت الاختبار في الرهبنة. كما أنه لابد أنه اعتقد أن مشاجرة أخويه كانت مثل مباراة طفولية، وأن تصالحهما سيتبع ذلك تلقائياً وسريعاً. وقد نشأت نزاعات أكثر خطورة لا مناص منها في البرية كما يحدث في أي مكان.

ويقول القديس أثناسيوس إن القديس أنطونيوس ”نال من الله موهبة مُصالحة الناس الذين هم على خلاف فيما بينهم“(3)، وليس العلمانيين فقط بل أيضاً الرهبان، رغم أن أقـوال الأبـوفثجماتا بصفة عامة تُعطي صورة سلامية للأوساط الرهبانية.

ويرى المرء أنه يوجد أُناس في البراري لا يخلون من حساسية شخصية، ولكنهم يتبارون في الصبر والوداعة والاتضاع لكي يحتفظوا بالسلام فيما بينهم ويُعيدوا إيجاده عند الضرورة. فمثلاً كان الأب بولس البربري يسكن مع أخيه الأب تيموثاوس في الإسقيط، وكانا كثيراً ما يختلفان مع بعضهما. فقال الأب بولس: ”إلى متى نستمر على هذه الحال“؟ فقال له الأب تيموثاوس: ”أقترح أنك تتخذ جانبي عندما أُخالفك، وأنا بدوري أتخذ جانبك عندما تُعارضني“. وهكذا أمضيا بقية أيامهما بهذه الطريقة(4).

وقد أعطى أحد الشيوخ هذه النصيحة: ”إذا قيلت كلمة سيئة عنك من شخص آخر وأنكرها هذا الآخر، فلا تُلاججه قائلاً: "إنك قلتَ ذلك"، لأنه سيردُّ متحدِّياً: "نعم، أنا قلتُ ذلك، ثم ماذا"“(5)؟ وهي بصفة خاصة موجَّهة لكل اثنين يعيشان مع بعضهما. ويمكن للمرء أن يستنتج كم تكون تلك الأُلفة رائعة، ولكن أيضاً كم أن الممارسة المستمرة لإنكار الذات المتبادَل شاقة! ولما سأل أخٌ أنبا بيمن قائلاً: ”كيف يمكن أن يعيش الإنسان في سلام مع الأخ الساكن معه“؟ فقال له الشيخ: ”إن كان الإنسان يُعين رفيقه يمكنه أن يسكن ليس مع إنسانٍ فحسب بل مع الوحوش“(6).

وقيل إنه كان شيخان يسكنان معاً لعدة سنوات ولم يتشاجرا قط، فقال أحدهما للآخر: ”دعنا نتشاجر معاً كما يفعل الآخرون“. فقال له الآخر: ”لا أعرف كيف تكون المشاجرة“! فقال الشيخ الأول: ”ها أنا أضع قالب طوب في وسطنا وأقول: هذا ملكي أنا، وأنت تقول: هذا ليس ملكك بل ملكي أنا. ومن هنا تنشأ المشاجرة“. فوضعوا الطوبة بينهما، وقال أحدهما: ”هذه ملكي“. فقال له الآخر: ”لا، إنها ملكي أنا“. فأجاب الآخر على الفور: ”إن كانت هذه الطوبة ملكك، فخذها واذهب“. وهكذا لم يتمكَّنا من التشاجر(7)!

ويمكن للمرء أن يُدرك أن الشيطان عندما يغتاظ من منظر إخوة يعيشون في سلام، فقد يتدخل أحياناً لكي يزرع زوانه. فقد حدث أنه كان في البرية أخوان بالجسد، وجاء العدو لكي يفصلهما عن بعضهما. وحدث أن الأخ الأصغر أضاء مصباحاً، ثم انقلب منه المصباح بتدبير العدو وانطفأ. فغضب الأخ الأكبر وضربه، فاعتذر له أخوه قائلاً: ”اصبر عليَّ قليلاً وأنا أُضيء المصباح مرة أخرى“. ولما نظر الله إلى احتماله وصبره، عاقب العدو حتى الصباح. فأخبر الشيطان رئيس الشياطين بذلك. وكُشف ذلك لأحد كهنة الأصنام، فترك كل شيء وصار راهباً قائلاً: ”إن الاتضاع يمكنه أن يُدمِّر كل قوة العدو“(8).

وإن كان السلام يملك عادةً بين الرهبان، فهذا بسبب أنهم جميعاً يسعون إليه مستخدمين أفضل الوسائل لكي يبلغوا إليه. قال شيخ: ”بالهروب يبلغ القلب إلى السلام، وبالخضوع يبلغ الإنسان إلى أورشليم العُليا الحُرَّة“(9).

كما أن الأب نستروس تكلَّم عن آية صُنع السلام بقوله: ”ليت الإنسان يكون دائماً صانع سلام داخلي بالروح القدس في كل الأمور“(10).

وفي الحقيقة إن ينبوع السلام في الحياة الديرية هو سهولة الانقياد للروح القدس. ومن أقوال أحد التلاميذ المخلصين لآباء البراري في القرن السادس وهو الأب يوحنا الغزَّاوي تلميذ القديس برصنوفيوس، قال: ”كُن صانع سلام في قلبك لكي تُدعَى ابناً لله“(11).

ولما سُئل هذا الأب: ”حيث إنه مكتوبٌ: «طوبى لصانعي السلام»، أليس أنه أمرٌ صالح أن يصنع المرء سلاماً بغيرة بين جميع الناس“؟ فأجاب: ”من الأفضل أن يصنع المرء سلاماً في قلبه، فهذا يحق لكل إنسان، ومباركٌ هو الذي يفعل ذلك. أما صُنع السلام بين الأعداء فليس هو لكل واحد، بل إنه يحق للذين يفعلون ذلك بدون أذى. على الإنسان الضعيف أن يُسرَّ بالسلام بين الجميع، ولكن دون أن يعزم أن يتوسَّط في أن يأتي بالآخرين إلى السلام بمعزل عن الذين يحبهم في الرب، وبشرط ألاَّ يُسبِّب ذلك ضرراً لنفسه“(12).

وقد عرَّف القديس ثيئودور الغزَّاوي الراهبَ بأنه: ”هو الذي تتَّجه عيناه إلى الله وحده، والذي يميل إلى الله وحده، والذي يرتبط بالله وحده، والذي وطَّد عزمه أن يخدم الله وحده، والذي يكون في سلام مع الله ويصير سبباً للسلام لأجل الآخرين“(13). ? **************************************************************************************************

استمع إلى عظات الأب متى المسكين

بمناسبة صوم الميلاد المجيد

79 / 16، 79 / 17؛ 85 / 1، 85 / 2؛ 94 / 1م

**************************************************************************************************

(1) Anonymes, 1134.
(2) Apoph., Poemen, 173.
(3) ”حياة أنطونيوس بقلم أثناسيوس“: 14.
(4) Apoph., Paul the Barber, 1.
(5) Anonymes, 1232.
(6) المجموعة الإثيوبية: Eth. Coll., 14,2.
(7) Anonymes, 1352.
(8) Syrian Version, 1:234.
(9) المجموعة الإثيوبية: Eth. Coll., 13,64.
(10) Ibid., 13,74.
(11) Barsanuphius and John of Gaza, Correspondance, p. 418.
(12) Ibid., p. 438.
(13) Parva Catechesis, 39, ed. Auvray, p. 142.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis