للأب متى المسكين + «ليَحِلَّ المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصِّلون ومتأسِّسون في المحبة، حتى تستطيعوا أن تُدركوا مع جميع القديسين... وتعرفوا ”محبة المسيح“ الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أف 3: 17-19).إن مسيحيتنا قائمة برمتها على المحبة. محبة الآب: + «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). + «لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو 17: 24). + «وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني» (يو 17: 23). + «الآب يحب الابن، وقد دفع كل شيء في يده» (يو 3: 35). + «الآب يحب الابن ويُريه جميع ما هو يعمله، وسيُريه أعمالاً أعظم من هذه لتتعجَّبوا أنتم» (يو 5: 20). + «لأن الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتموني، وآمنتم أني من عند الله خرجتُ» (يو 16: 27). + «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم» (يو 17: 26) محبة الابن: + «ولكن ليفهم العالم أني أحب الآب، وكما أوصاني الآب هكذا أفعل» (يو 14: 31). + «كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا» (يو 15: 9). + «اثبتوا في محبتي. إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي، كما أني أنا قد حفظتُ وصايا أبي وأثبت في محبته» (يو 15: 10،9). + «إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى» (يو 13: 1). + «أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل 2: 20). + «أنتم أحبائي إن فعلتم ما أُوصيكم به» (يو 15: 14). إذن، فسرُّ بذل الآب لتكميل خلاص الإنسان قائمٌ على أساسين: الأول: قائم على محبة الآب للابن، التي هي من قبل إنشاء العالم، حيث يتجلَّى الصليب كعمل يخلو تماماً من قسوة الآب على ابنه، بل يقوم على ملء المسرة بسبب المجد الذي سيؤول إليه الصليب، سواء للمصلوب أو الذين صُلِبَ لأجلهم. لذلك قيل إن الآب «سُرَّ بأن يسحقه بالحزن» (إش 53: 10). والثاني: يقوم على أساس محبة الابن للآب كلازمة لزوماً مطلقاً لتكميل الطاعة حتى الموت موت الصليب. ثم إن هدف هذا الخلاص الدموي الذي تمَّ على الصليب يقوم أيضاً على أساسين: الأول: حبُّ الآب لنا الذي يساوي آلام المسيح على الصليب تماماً، وإلاَّ امتنع الآب عن هذه التضحية المؤلمة. الثاني: حبُّ المسيح لنا، وإلاَّ ما استطاع أن يُقبل على الذبح والموت: «من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب» (عب 12: 2)، أي مسرته بنصرته هو، ومسرته بنصرتنا نحن فيه: «أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل 2: 20). وبهذا الأساس، أساس الحب الذي يقوم عليه الصليب والفداء من كافة نواحيه وأطرافه، انكشف سر الحب هذا بجميع أوضاعه، سواء حب الآب لنا أو حب المسيح لنا، السر الذي كان مخفياً منذ الدهور، كما انكشف عمق سر ومنبع الحب الأصلي الذي يربط الآب بالابن والابن بالآب، الذي هو جوهر الله في ذاته، الذي انتقلت إلينا صورته طبق الأصل: «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به (من قبل إنشاء العالم)، وأكون أنا فيهم (سر الاتحاد القائم على المحبة المخفية في دم صليبه)» (يو 17: 26). أي إن طاقة الحب الإلهي الممنوحة لنا مجاناً والمخطط لها من قبل إنشاء العالم، سواء من الآب نحونا أو بالمسيح نحونا، هي القوة التي تتوقف عليها علاقتنا الشخصية بالآب والابن من خلال هذه الشركة السرِّية الموضوع أساسها مجاناً فينا، والتي انسكبت علينا في قلوبنا بالروح القدس: «لأن محبة الله (أي الآب والابن المتبادلة) قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا» (رو 5: 5). كما أن طاقة الحب هذه، سواء من الآب أو من الابن، هي التي أنشأت طاقة حب مماثلة من جانبنا نحو الآب والابن: «نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً» (1يو 4: 19)، وكأن كلمة ”لأنه“ تفيد أن طاقة حب الله لنا تُنشئ فينا طاقة حب نحوه مساوية لها!!! وهنا يرفع القديس يوحنا الرسول هذه المعادلة إلى حقيقة ثابتة: «نحن قد عرفنا وصدَّقنا المحبة التي لله فينا. الله محبة، ومَن يثبت في المحبة (هذه) يثبت في الله» (1يو 4: 16). على أن استعلان سرِّ محبة الله فينا ومحبتنا لله، لا يمكن أن يظهر على حقيقته الصادقة، إلاَّ إذا شهدنا للمسيح، لأنه مركز المحبة بيننا وبين الله: «بهذا أُظهِرَت محبة الله فينا: أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به» (1يو 4: 9). ولكن حبنا له هو الثاني دائماً بعد حبه لنا على مستوى الصليب: «في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفَّارة لخطايانا» (1يو 4: 10). إذن، صِدْق المحبة، سواء من الله لنا أو منَّا لله، لا يقوم إلاَّ بقبول المسيح مصلوباً، ثم الشهادة له باعتبار أنه عمل محبة الله من نحونا. أما منتهى قصد محبة الله من جهة تقديم ابنه كفَّارة لخطايانا، فهو أن ينفتح أمامنا الباب والمجال لمحبة الله الآب ولأن نُدعَى أولاداً له: «انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله» (راجع 1يو 3: 1). لذلك يستحيل أن يُدرك أحد محبة الله الآب الحقيقية المؤهِّلة للحياة في ملكوته، إلاَّ إذا كانت لنا حياة مع المسيح أولاً: «بهذا أُظهرت محبة الله فينا: أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به» (1يو 4: 9). امتحان طبيعة محبتنا لله،المتمثلة بعمل دم المسيح فينا الأمر الأول: ثبوت المحبة فوق كل شيء: + «ونحن قد عرفنا وصدَّقنا المحبة التي لله فينا. الله محبة، ومَن يثبت في المحبة، يثبت في الله والله فيه» (1يو 4: 16).أي أن كل مَن تكون محبته ثابتة على الدوام، سواء تجاه الآب أو تجاه الابن أو تجاه كل الناس، يكون قد تأكَّد من محبة الله نحوه المتمثلة في عمل دم المسيح فينا. الأمر الثاني: الثقة في الضمير بالبراءة من الدينونة: + «بهذا تكمَّلت المحبة فينا، أن يكون لنا ثقة في يوم الدين» (1يو 4: 17). أي أن كل مَن لا يلومه ضميره من جهة الخطايا، ويكون له ثقة في بر المسيح وعمل دمه لمغفرة خطاياه، وتصبح له كامل الثقة من جهة عبور الموت إلى الحياة بقوة قيامة المسيح؛ تكون محبة الله قد كملت فيه. الأمر الثالث: محبة الآخرين: الحب بالتضحية والبذل بمقتضى طبيعة الدم الذي فينا: لأن الله أحبنا مجاناً، وبذل ابنه من أجلنا لنتبرَّر بدمه ونحيا بروحه؛ لذلك أصبح من المحتَّم علينا، إن كنا قَبـِلنا محبة الله وتبرَّرنا بدم المسيح، أن نحب الآخرين، لأن لا محبة الله في قلوبنا ولا دم المسيح يمكن أن يبقيا عاطلَيْن فينا، بل يعملان على نفس طبيعتهما: «بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة» (1يو 3: 16). فإذا فاضت محبة الله في قلوبنا نحو الآخرين، ووضعنا نفوسنا وبذلناها من أجلهم؛ كان ذلك أكبر دليل على أن دم المسيح قد أحيانا وأن محبته قد انسكبت في قلوبنا: «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب الإخوة» (1يو 3: 14)، تماماً كعمل دم المسيح. فإذا توقفت محبتنا نحو الآخرين، كان ذلك دليلاً على توقُّف تيار الحب والحياة التي نستمدها من دم المسيح: «مَن لا يحب أخاه يبقَ في الموت» (1يو 3: 14). وقد جعل القديس يوحنا الرسول ”عمل البر“، أي كل صنوف أعمال العبادة من صوم وصلاة وسجود وتسبيح، مساوياً لمحبة الإخوة: «كلُّ مَن لا يفعل البر فليس من الله، وكذا مَن لا يحب أخاه» (1يو 3: 10). والقديس بولس الرسول يقول: «المحبة هي تكميل الناموس» (رو 13: 10). كذلك جعل القديس يوحنا الرسول محبة الإخوة لازمة حتمية من لوازم كمال أو تكميل محبة الله: «الله لم ينظره أحد قط، إن أحب بعضنا بعضاً، فالله يثبت فينا (كجماعة)، ومحبته قد تكمَّلت فينا» (1يو 4: 12). كما جعل القديس يوحنا كلَّ مَن يحب الآخرين بمثابة مَن ينال عهد البنويَّة من الله!! «أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً لأن المحبة هي من الله. وكل مَن يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله. ومَن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة» (1يو 4: 8،7). علماً بأن البنويَّة نلناها بدم المسيح، والذي يكشف عن زوال المحبة بل زوال النور الإلهي من القلب هو دخول البغضة في قلب الإنسان: «مَن قال إنه في النور وهو يُبغض أخاه، فهو إلى الآن في الظلمة... وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أين يمضي لأن الظلمة أعمت عينيه» (1يو 2: 11،9)، والظلمة هي غياب المسيح. علماً بأن وصية المسيح الأولى، أو حسب تعبير القديس يوحنا الرسول ”الوصية الجديدة“، تتناسب مع أو هي على مستوى دم العهد الجديد، وهي: «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم» (يو 15: 12)؛ وبالتالي، فالذي ينكر محبة أخيه فهو ينكر محبة المسيح، لأن المسيح وضعهما في حالة تساوٍ («كما أحببتكم»). أما القديس بطرس الرسول فيرى في محبة المسيح حينما نمارسها بعضنا لبعض، أنها قادرة على أن تستر الخطايا، فلا ندين بعضنا بعضاً: «لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة، لأن المحبة تستـر كثرة من الخطايا» (1بط 4: 8). الأمر الرابع: تعارُض محبة الله مع محبة العالم أو الأشياء التي في العالم: + «إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» (1يو 2: 15-17). وهذه الوصية التي نكرِّرها في كل قدَّاس بعد قراءة الكاثوليكون، لعل الله يُنبِّه قلوبنا عند سماعها، فنتذكَّر دم المسيح ونكف عن شهوة الجسد وشهوة هذا الدهر: «لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ هو ليس خاضعاً لناموس الله» (رو 8: 7)، «الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يُقاوم أحدهما الآخر» (غل 5: 16). لذلك إذا كنا تسلَّحنا بدم المسيح، فمحبة الله حتماً تنسكب في قلوبنا بالروح القدس، فتصير درعاً مانعاً قاطعاً ضد كل مقاومات العالم وكل مصادر الخطر: + «مَن سيفصلنا عن ”محبة المسيح“ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم سيف؟؟... في هذه جميعها يَعظُم انتصارنا بالذي أحبنا» (رو 8: 37،35)! بل يمتد إيمان القديس بولس بحبِّه للمسيح وحب المسيح له، ويتحدَّى السماء والأرض، والموت والحياة، وكل أعوان الظلمة، إنْ استطاعت أن تفصله عن محبة الله التي استُعلِنَت له في المسيح يسوع!! (انظر رو 8: 39،38). الأمر الخامس: طبيعة المحبة في ذاتها وانفعالاتها: في أصحاح كامل يشرح القديس بولس الرسول بدقة وإسهاب لا يحتاجان إلى شرح، أن كل المواهب إذا خلت من المحبة لا تعود مواهبَ قط ولا تُحسَب أنها من الله!! ثم يعود ويُخصِّص بالتحديد أن النبوَّات لها عمل زمني. لذلك فهي ستبطل، والتكلُّم بالألسنة سينتهي زمانها، وكل علم حتى الروحي واللاهوتي منها فهو لائق بهذا الزمان، وحتماً سيبطل. ولو قيس هذا العلم بما سنعلمه هناك لصار وكأنه هجاء طفل. أما الإيمان والرجاء (والمحبة عليهما كتاج)، فهي باقية ما بَقِيَ الدهر وما بعد الدهر، فهي القوَى المثلثة المنبعثة من دم المسيح، والتي ستُعطينا نطقاً وحكمة أمام الآب في السماء بكلام نُسبِّح به أمام العرش السماوي، مع هارموني أصوات الملائكة وضاربي القيثارات الذهبية، فالسماء مجالها، لأن الله محبة!! ويقول القديس بولس الرسول عن طبيعة المحبة الإلهية التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس، إنها لا تسقط في مسعاها أبداً حتى ولو سقطنا في سبيلها أمواتاً، تنطلق هي مع أرواحنا تعمل عملها في السماء مُضاعفاً. والمحبة هي من طبيعة المسيح، نقية طاهرة من كل عيب، تزدهر في التأنِّي والترفُّق، وتتضاعف بالقناعة، فهي لا تعرف الحسد مُطلقاً، تقوى بالتنازلات حتى عن الحقوق، فلا تحتمل الافتخار أو الانتفاخ، تنسى ما هو لذاتها، لا تحتد على أحد، ولا تظن السوء في أحد، تفرح بالحق فقط، تحتمل إلى أقصى حدٍّ، تُصدِّق ولا تتشكَّك، إذ تُلقي الرجاء على الله، وتصبر على المحن. كالمسيح هكذا المحبة، مصلوبة دائماً، وقائمة أبداً (1كو 13). ****************************************************** نظراً لزيادة أسعار خامات الطباعة، سيصبح الاشتراك السنوي للمجلة داخل مصر 20 جنيهاً مصرياً. فنرجو المبادرة بسداد الاشتراك عن عام 2008 |
|||
(1) من كتاب: ”في تعليم المبتدئين“، الطبعة الأولى 1988، من ص 72-79. |