مصر ليست فقط الأرض التي تأصَّلت فيها الرهبنة المسيحية، بل أيضا التي ظهر فيها
الإحياء الحديث للرهبنة. فعلى مدى 3 عقود (العَقْد 10 سنوات) اعتكفت أعداد كبيرة
من شباب الأقباط في الصحراء، لإحياء الأديرة القديمة التي سبق وتأسَّست في
القرنين الرابع والخامس. وقد توسَّعت رقعة الأديرة عمَّا كانت عليه، وتجدَّدت على
أيدي رهبان جُدُد كان أغلبهم قد تعلَّم في المدارس والجامعات الحديثة، وقد
أُدخِلَت إليها التكنولوجيا الحديثة والوسائل الحديثة للاتصالات. وبعض الأديرة
لها صِلات وثيقة بالكنائس والأديرة في أوروبا وأمريكا الشمالية. ولكن، وفي نفس
الوقت، تأسَّست هذه النهضة على التقاليد القديمة للرهبنة، وحُفِظَت الكتابات
الروحية القديمة منذ القرون الأولى في مخطوطات عديدة داخل مكتبات الأديرة، وصارت
تُقرأ بصفة أساسية(1). والتقليد هو دائماً جوهر عملية
الإحياء.
وبالرغم من أن الأديرة تقع
في الصحراء، إلاَّ أنه صار من السهل اليوم الوصول إليها، وصار يتقاطر عليها ويدلف
من بوَّاباتها أعداد غفيرة من الزوَّار من كافة الأنحاء والمستويات الكنسية.
وكثيرون من الأساقفة الشبان في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هم ثمار حركة الإحياء
الرهباني هذه. ومن خلال الكتيبات والنبذات وكذلك المجلات، يُساهم الرهبان في جعل
التقليد الرهباني في متناول يد الناس. والتأثير الحاصل من حركة الإحياء الرهباني
واضح في خدمة الشباب ووسط الطلبة الأقباط في الجامعات.
ومن أحد هذه الأديرة، وهو
دير القديس مقاريوس، يتدفَّق سيل مستمر من المقالات والكُتُب عن القضايا
والموضوعات الروحية. ولذلك فلا يمكن أن يكون أدنى شك في أن الإحياء الرهباني قد
أثـَّر وما زال يؤثـِّر في الكنيسة القبطية، بوجهٍ عام.
وفي نفس الوقت، فإن علم
اللاهوت في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يُدرَّس في المعاهد اللاهوتية القبطية،
وأولاً في المعهد اللاهوتي القبطي الأرثوذكسي في العباسية، وفي المعهد العالي
للدراسات القبطية، وكلاهما ملحقان بالبطريركية بالقاهرة. ولكن بينما يتغذَّى
التجديد الحاصل في الأديرة على الأدب الآبائي، وعلى الأخص آباء الرهبنة، المحفوظ
في المخطوطات؛ إلاَّ أن المعاهد اللاهوتية تعتمد على مراجع كُتبت نتيجة للاتصال
باللاهوت الأكاديمي الغربي (في أوائل القرن العشرين)، ولكن محتواها يعتمد على
تقليد لاهوتي مغروس عميقاً في الكتابات اللاهوتية العربية في العصور الوسطى.
وبالرغم من أن هناك تاريخاً طويلاً من التعايش بين هذين النوعين من التقاليد ومن
الكتابات اللاهوتية، إلاَّ أنه تظهر اليوم علامات لفروق واختلافات متزايدة، ترجع
بالأكثر إلى تزايُد الاتصال باللاهوت الآبائي المسكوني. وتهدف هذه المقالة إلى
النظر في حركة الإحياء الرهباني هذه في علاقتها بالتقليد اللاهوتي السائد في
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.