مقدمة: ونحن نحتفل بمرور 100 عام على الفكر في مصر، رأت الجمعية الفلسفية أن تحتفي بأحد أبناء مصر البررة وخريج جامعة القاهرة العريقة: كلية الصيدلة عام 1944م. وقد طلب الدكتور حسن حنفي مني أن أقوم بهذه المهمة، وسأحاول بقدر المستطاع.
إن الأب متى المسكين مجدِّدٌ بلا مُنازع للحياة الرهبانية الأرثوذكسية في أرض الكنانة على امتداد خمسين عاماً من القرن العشرين. وعلى مثال المفكِّرين المصريين المسلمين الذين حاولوا أن يُجدِّدوا حياتنا الفكرية والثقافية، مثل: الإمام محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والدكتور حسن حنفي، وغيرهم؛ فإننا نتطرَّق إلى عنصر هام من مكوِّنات الفكر المصري والعربي، وهو تجديد الحياة الروحية والرهبانية للكنيسة المصرية عموماً، أعرق الكنائس في العالم، كما أنها جزءٌ لا يتجزَّأ من المجتمع المصري، وتُشكِّل رافداً مهماً في تاريخنا المشترك سواءٌ كنا مسلمين أو مسيحيين. لقد ساهمت كنيسة مصر منذ القرن الرابع الميلادي بقوة في تشكيل وإرساء دعائم المسيحية في العالم أجمع. ومن مصر خرجت حياة الرهبنة إلى الشرق والغرب على يد القديسَيْن أنطونيوس وباخوميوس. هذه الرهبنة التي تحدَّث عنها القرآن الكريم في صورة المائدة بقوله: ”… ولتجدنَّ أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنَّا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً، وإنهم لا يستكبرون“. وإذا كنَّا نحتفل بالفكر الفلسفي عام 1999، فإن علاقة الفلسفة بالروحانية ليست ببعيدة. وإن كنا قد تحدَّثنا في العام الماضي عن الفيلسوف ابن رشد الذي استطاع المصالحة بين العقل والشرع الإسلامي، وعرَّف الفلسفة بأنها البحث عن الحق، وأثبت أن العقل لا ينتقض الشرع، فكلاهما يبحث عن الحق لأن مصدرهما واحد وهو الله؛ فإننا نجزم بأن الأب متى المسكين: اختار طريق الشرع، وغلَّبه على العقل، لا بل سخَّر قلبه وعقله وجسده لعبادة الله الواحد؛ واختار طريق التصوُّف والزهد على خُطَى أنطونيوس أبي الرهبان، ليصل الحاضر بالماضي، ويُجدِّد ما وَهن في الحياة الرهبانية المصرية. ما هي الإنجازات العملية التي قام بها الأب متى المسكين منذ 1948-1999 (50 سنة) لتجديد الحياة المسيحية الأرثوذكسية بعد طول ركود؟ - عُرف الأب متى المسكين في الأوساط الأرثوذكسية بإنجازاته المتميِّزة. فعلى سبيل المثال أسَّس إكليريكية مسائية بالإسكندرية أثناء الفترة الوجيزة التي قضاها وكيلاً للبطريركية هناك (1954 - مايو 1955)، بالإضافة إلى ضبط الخدمة الدينية (مدارس الأحد). كما شرع في إحصاء عام للأقباط في الإسكندرية، وأنشأ المدرسة الصناعية، كما قام بتنظيم الإدارة البطريركية وضبط الخدمة الاجتماعية… إلخ (راجع د. وليم سليمان، مجلة مدارس الأحد، يونية 1955، من صفحة 3-15). - كذلك أقام بيت التكريس في حلوان عام 1959، وهو أول بيت من نوعه مخصَّص للخدَّام المكرَّسين من العلمانيين للارتقاء بخدمتهم. - كما عُرف بإنجازاته التنموية بدير الأنبا صموئيل بالقرب من مغاغة. - وأعظم إنجازاته العملية هي إعادة بناء دير الأنبا مقار على أحدث الطُّرُز المعمارية، حيث جعل من القلاية الحديثة مكاناً متكاملاً لاعتكاف الراهب والقدرة على البحث والقراءة لإحياء التراث الفكري القبطي. هذا إلى جانب الاستراحة التي أقامها بالساحل الشمالي لمساعدة الرهبان على القدرة على العطاء والاختلاء في مكان مناسب للعطاء الفكري والروحي للراغبين في التزوُّد بالروحانية الرهبانية من الرهبان. - وفي مجال التنمية، جعل دير أنبا مقار مركزاً للتجارب الزراعية وتهجين السلالات الحيوانية للمساهمة في حل المشكلة الغذائية في مصر. ففي مزرعة دير أنبا مقار تمَّت أول تجربة لزراعة البنجر لاستخدامه كعلف للماشية كما يمكن استخدامه في صناعة السكر، بالتعاون مع وزارة الزراعة المصرية. وتعضيداً لهذه التجارب الرائدة في مصر أعطت الدولة - ممثَّلة في رئيسها الراحل أنور السادات - ألف فدان لتشجيعه على مواصلة هذه الإنجازات. هذا من الناحية العملية. الريادة الفكرية وتجديد الفكر الأرثوذكسي في مصر وفي بلاد المهجر في القرن العشرين: إن العديد من العاملين النشطاء بالأوساط الأرثوذكسية وغيرها من الطوائف يشهدون للأب متى المسكين بالريادة الفكرية في مجال الكتابات اللاهوتية وفي تناول مختلف أمور الكنيسة، حيث بلغ مجموع مؤلَّفات الأب متى المسكين في مايو 1997 (حوالي 99 مؤلَّفاً، تغطِّي معظم المواضيع الكنسية من: شرح الأناجيل، إلى الصلاة، والخدمة، والعمل الاجتماعي السياسي واللاهوتي، هذا بالإضافة إلى مقالاته بمجلة مرقس). فالأب متى المسكين قدَّم مكتبة شاملة للكنيسة في وقت كانت تفتقر فيه إلى تراث فكري عصري، إذ يعتبره البعض القائد الفكري لكثير من الشباب الأرثوذكسي المصري. ويعتبر البعض كتابه ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“ (الذي ظهر عام 1952)، والذي كان قد كتب مقدمته نظير جيد (البابا شنودة الحالي)، هو المرشد الروحي الأساسي للكنيسة، الذي قدَّم أعماقاً وآفاقاً روحية جديدة للصلاة. والأب متى المسكين ينتمي إلى جيل المجدِّدين العظام للحياة الرهبانية والروحية والكنسية في القرن العشرين. فهو من أوائل المتعلِّمين تعليماً عالياً، الذين اختاروا حياة الرهبنة، سواء كان ذلك بحثاً عن أعماق جديدة في العلاقة مع الله؛ أو - كما يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل - إنه الجيل الذي رأى بعد الحرب العالمية الثانية أن الكنيسة هي العنصر الرئيسي في حياتهم، فانخرطوا في الرهبنة بحثاً عن القوة التي تكمن في الأديرة وما لها من تأثير على معظم حياة الكنيسة(1). ويمكن تقسيم الإنتاج الفكري للأب متى المسكين إلى 4 مراحل: المرحلة الأولى: تمتد من 1951-1958م أهم ما يميِّزها صدور كتاب ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، الذي أصبح دليلاً ومنهاجاً لغالبية الأقباط فيما بعد، إلى جانب بعض مقالات في مجلة مدارس الأحد حول التربية الدينية (عدد يناير عام 1958). وقد حذَّر فيه المسيحي الأرثوذكسي من اتِّباع المناهج العقلية الغربية، والتركيز بدلاً من ذلك على المنهج القلبي الشرقي. في هذه الفترة أيضاً كان الأب متى المسكين أول مَن دعا إلى ترجمة تعاليم الآباء الأوَّلين لوصل التراث الماضي بحاضر الكنيسة. وقد أثمرت هذه الدعوة كثيراً من الترجمات لآباء الكنيسة العظام من العصور الأولى للمسيحية (من اليونانية والقبطية، ودراسات الفكر الغربي عن هذه المرحلة). المرحلة الثانية: تمتد من 1959-1968م وهي أخصب فترات إنتاجه الفكري. وقد واكبت تأسيسه لبيت التكريس لخدمة الكرازة بحلوان، والذي يضم الذين تتلمذوا عليه من خَيْرة الخدَّام في مدارس الأحد والذين رغبوا في التكريس والتبتُّل للخدمة وليس للرهبنة. - أهم كتاب في هذه الحقبة هو ”العنصرة“، وهو أول كتاب لاهوتي عصري عن الروح القدس في القرن العشرين في الكنيسة الأرثوذكسية، وقد حفل باقتباسات من آباء الكنيسة، وأظهر أهمية عيد العنصرة في الكنيسة. - أيضاً في هذه الفترة التي واكبت حرب 1967، كتب الأب متى المسكين كتابين يُظهران مدى انتمائه لمصر ومواكبته لِمَا يحدث للوطن: الأول اسمه ”ما وراء خط النار“، والثاني ”ميناء إيلات وصحراء النقب“، مشاركاً بذلك الوطن همومه وآلامه. وهذه أول مرة في العصر الحديث تُشارك فيها الكنيسة في الأحداث الوطنية. - كما صدرت 1968 طبعة جديدة مزيدة من كتاب: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“ نظراً لكثرة الطلب عليه. - كما صدرت كتب له عن الاشتراكية من وجهة نظر مسيحية، والمسيحي في المجتمع 1965 (”الكنيسة والدولة“ - 1963). واعتُبِر هذا الكتاب مرجعاً مهماً لتحديد العلاقة بين الكنيسة والدولة. المرحلة الثالثة: من 1969-1989م (20 سنة) وهي فترة استقرار الأب متى المسكين في دير القديس أنبا مقار في وادي النطرون وإعادة بنائه وتجديده. - فيها بدأت مرحلة المجلَّدات الضخمة بدءاً من كتاب ”الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار“. - ثم كتاب ”الإفخارستيا والقداس - الجزء الأول“، عرض عرضاً منهجياً للأُسس الآبائية والتاريخية للطقوس القبطية. - كذلك سلسلة مقالات لخدَّام مدارس الأحد ومناهجها وأخلاقياتها، والأصوام ومعناها، والأعياد ومعناها. - القديس أثناسيوس الرسولي. المرحلة الرابعة: من 1990-1999م بَدَأت شروحات الإنجيل لأول مرة بشكل منظَّم ومنهجي في العصر الحديث، مُستعيناً بأحدث الأبحاث اللغوية والتاريخية والأركيولوجية: - مثل شرح إنجيل يوحنا (جزءان) - شرح إنجيل مرقس - القديس بولس الرسول. - المقالات اللاهوتية عن ألقاب المسيح (راجع: أكرم رفعت ”من الاشتياقات الأولى حتى العطاء المستمر“ - مجلة مدارس الأحد: أغسطس 1998). الإشكاليات التي يثيرها فكر الأب متى المسكين: إلاَّ أن وجود الأب متى المسكين في الصحراء لم يمنع فكره - كما رأينا - من الوصول إلى المجتمع والعاملين في هذا المجتمع، مما يثير وما زال إشكاليات. أ - الكنيسة والعمل الاجتماعي: رغم الإنجازات التي قام بها الأب متى المسكين على المستويين الاجتماعي والتنموي - كما بيَّنَّا سالفاً - إلاَّ أنه على المستوى النظري يقول رأياً مختلفاً حول اهتمام الكنيسة(2) بالأمور الدنيوية. فهو يرى أن المبادئ المسيحية اللاهوتية تركِّز على الإنسان من حيث إنه خاطئ: ”وعلى الكنيسة أن تنتشله من ألم هذه الخطية“. فتعاسة الإنسان مصدرها هذه الخطية، لذلك فعلى الكنيسة ترتيب أولوياتها بحيث يكون الخلاص الروحي شغلها الشاغل، ”فالكرازة بالتوبة لتجديد الإنسان وخلاصه“ هو عمل الكنيسة الأساسي (راجع: ”الكنيسة والدولة“). ثم يضيف أن انشغال الكنيسة بحياة الإنسان الاجتماعية هي مقاومة وخروج من جانب الكنيسة عن دورها. - ولكن حينما يُسأل الأب متى المسكين عن دور المسيحي في المجتمع من وجهة نظره؟ يجيب: قد تكون صفات المثابرة والتحمُّل والرجاء هي أهم الصفات التي يتحلَّى بها المسيحي في المجتمع، فهو مجاهد روحي ضد قوى الشر ويجب أن يتبع المجتمع ويتلاحم معه، وسلاحه ليس الإنجيل الاجتماعي(3)، بل الإنجيل كخبرة إيمانية (راجع: ”المسيحي والمجتمع“ - ص 16،15). - والإشكالية هنا هي أن الأب متى المسكين يجمع بين روح وصفات الراهب الموجود في الصحراء، والعلماني المنخرط في المجتمع في آنٍ واحد. ب - دور الكنيسة تجاه السلطة الزمنية: فمن ناحية، يخشى الأب متى المسكين أن تُشوَّه رسالة المسيحية من خلال البحث عن القوة الزمنية، وهو الخطأ الذي وقعت فيه الكنيسة في الغرب في مراحل معينة من تاريخها. فهو يرفض أن تنحدر الكنيسة من منزلة العمل الروحي إلى العمل السياسي، والذي هو في منزلة أدنى من الخلاص الروحي. كذلك، من ناحية أخرى، يخشى الأب متى المسكين أن تنزلق الكنيسة إلى الصراع السياسي ملتجئة إلى السلطة لفرض عقيدةٍ ما، وبذلك تقع في مأزق روحي (الكنيسة والدولة)، وهو ما يُعرف تاريخياً بالفكر القسطنطيني. وهو في هذا الإطار شديد الغيرة على نقاء الكنيسة إلى درجة الحث على تفادي العمل بالسياسة، إذ أن رسالة المحبة والفداء أَقْيَم بكثير من أي عطاء آخر. - في النهاية سواء اتفقنا أو اختلفنا مع الأب متى المسكين، يبقى أنه اجتهد طوال خمسين عاماً، ولكل مجتهدٍ نصيب، وشكراً. الأب وليم سيدهم اليسوعي عن كتاب: ”كلام في الدين والسياسة“ (الجزء الثالث - الفصل الثاني) صدر عام 2003 - دار مصر المحروسة |
|||
(1) راجع: ”تقرير الحالة الدينية“ - جريدة الأهرام - فصل: الأب متى المسكين - صفحة 275. (2) الأب متى المسكين يقصد هنا رجال الإكليروس في المدن المنوط بهم خدمة الصلاة وخدمة كلمة الله فقط. (3) تعبير ”الإنجيل الاجتماعي“ يُطلق على حركة سياسية اجتماعية نشأت في أمريكا اللاتينية أصلاً للنظر إلى الإنجيل باعتباره فلسفة إصلاحية اجتماعية للمجتمع. |