دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

المعمودية والحياة المسيحية
للقديس مرقس الناسك
- 2 -

القديس مرقس الناسك من معلِّمي الحياة المسيحية النسكية في القرن الخامس الميلادي ومن مشاهير آباء مصر العِظام. عاش حياة حافلة حتى ناهز المائة عام، امتلأ فيها من النعمة الإلهية وخبرة الحياة، وتعمَّق في دراسة كلمة الله، ووُهِب معرفة زاخرة بأسرار الحياة الروحية. وقد نشرنا في العدد السابق (أكتوبر 2005، ص 13) بعض أقواله التي وردت في كتاب ”الفيلوكاليا“ الذي ألَّفه أحد آباء جبل آثوس باللغة اليونانية عام 1792، وتُرجم في روسيا (باللغة السلافية)، ثم تُرجم إلى اللغة الإنجليزية عام 1954. وسنتابع في هذا العدد نشر أقوال أخرى للقديس.

امتحان إرادتنا الحرَّة، وإغراءات الشيطان:

+ عدم خبرة الشر أمر منسوب لله فقط الذي لا يتغيَّر وليس للطبيعة البشرية. فقد كان آدم أيضاً معرَّضاً لإغراءات الشيطان، لكنه كان عنده القدرة أن ينصت لها أو لا ينصت. تصادُم الفكر معنا لا هو محسوب شراً ولا خيراً، فهو امتحان لإرادتنا الحرَّة. وهذا هو السبب الذي من أجله يسمح الله له بمهاجمتنا، حتى يُكافئ الذين ينحازون للوصية، من أجل أمانتهم، بأكاليل النصرة، وحتى يظهر الذين انحازوا لذواتهم أنهم مستحقون للدينونة بسبب عدم أمانتهم.

+ ولكن، فلنعلم، أننا لن نُدان بعد كل تغيُّر في موقفنا حين نستحق مرَّة المدح، ومرَّة نستحق الاستنكار. بل بعد أن نتمرَّس طوال حياتنا بأنواع المحاربات المتنوعة: فمرة ننتصر، ومرة ننهزم؛ نسقط ونقوم ثانية؛ نتوه ثم نستدل على الطريق الصحيح؛ حينئذ فقط ولَمَّا يحين وقت الرحيل، فسوف يُحسَب حساب كل شيء، وبمقتضى الكل سوف ندان أو نتزكَّى.

+ إذن، فليس الإغواء هو الخطيئة، كلا البتة، فهو وإن كان يعرض علينا، رغماً عن إرادتنا ودون موافقتنا، أنواع أشياء كثيرة في فكرٍ مجرَّد، إلاَّ أننا قد أوتينا من الرب داخل نفوسنا قدرة الفعل الروحي الذي به نستطيع - لدى الخاطر الأول - أن نميِّز بين ما هو ضار وما هو نافع، وأن نرفض الأفكار أو نقبلها، تلك الأفكار التي تتكاثر، ليس بداعي الضرورة، بل بمقتضى ميل النفس الداخلي.

+ طالما نفوسنا التي اظلمَّت بسبب الشهوات والمجد الباطل، تغوص في أوحال الحماقة، فلن تنصت إلى وصايا الكتب المقدسة ولا لنداءات العقل الطبيعي، ولا حتى لنصائح المختبرين؛ بل تتبع أوهامها الخاصة. لذلك، فلأنها تحتفظ بأسباب الشر في داخلها، فهي لن تتحرَّر من الأعمال المتوافقة مع هذه الأسباب. وبالعكس، على قدر ما يؤمن الإنسان بالله وببركاته العتيدة، ويرفض مجد الناس وشهواتهم؛ على قدر ما يؤتَى قوة متكافئة بها يضبط أفكاره ويحيا في سلام حقيقي أكثر من ذاك الذي يحب الملذات. لذلك فنحن نختلف الواحد عن الآخر من جهة أفكارنا ومن جهة حياتنا.

مقاومة الخاطر الأول من الأفكار الشريرة:

+ اعلم يقيناً أن الرب يرى ما في قلوب الناس أجمعين، وأنه كما وعد، يحمي الذين يمقتون الخاطر الأول من الأفكار الشريرة، الذين لا يسمحون لها أن تتكاثر وتتصاعد لتدنِّس العقل والضمير. أما الذين لا يصدُّون - بالإيمان والرجاء في الله - البادرة الأولى للأفكار، بل يتلذَّذون بها، يتركهم الله بلا معونة، لأنهم غير أمناء، فتغلبهم الأفكار المتلاحقة دون أن يبعدها عنهم، لأنه يرى أننا نحب بوادرها الأولى ولا نمقتها في ظهورها.

مديح الناس، والتساهل مع الجسد:

+ ليس من قوة تسوقنا قسراً تجاه الصلاح أو الشر. لكن الذي نعمل لحسابه، بمحض إرادتنا الحرَّة، سواء كان الله أم الشيطان، فهو الذي يُحرِّضنا على الأعمال التي تتطلَّبها مملكته.

+ بداءة كل عمل من أعمالنا خاطران من الأفكار لا يلحظهما عقلنا: مديح الناس، والتساهل مع الجسد، وهذان حينما يتعدَّيان علينا رغماً من إرادتنا وقبل أن توافق إرادتنا عليهما، فإنهما لا يُشكِّلان فضيلة أو رذيلة، بل يكشفان فقط ميل إرادتنا.

التوبة تَكْمُل بتتميم وصايا المسيح:

+ أيها الخطاة، لا تيأسوا! لا تيأسوا أبداً! فإننا لا نُدان على كثرة شرورنا، بل على عدم رغبتنا في التوبة، وفي التعلُّم من آيات المسيح، كما يقول الحق نفسه متكلِّماً عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دماءهم بذبائحهم: «أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لأنهم كابدوا مثل هذا؟ كلاَّ أقول لكم! بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. أو أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم، أتظنون أن هؤلاء كانوا مُذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم؟ كلاَّ أقول لكم! بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون» (لو 13: 2-5). أَلاَ ترون، إذن، أننا ندان لعدم توبتنا؟

+ التوبة، كما أفهمها، غير محصورة بزمان أو بأعمال، لكنها تكمل بواسطة تتميم وصايا المسيح وتُقاس بها. بعض الوصايا ذات صبغة أكثر عمومية وتنطوي على وصايا ذات صفة خصوصية، وهي تستطيع أن تجتاز مظاهر متعددة من الشر مرة واحدة. فمثلاً قيل في الأسفار الإلهية: «كل مَن سألك، فأعطِه. ومَن أخذ الذي لك، فلا تُطالبه» (لو 6: 30)، «ومَن أراد أن يقترض منك، فلا تردّه» (مت 5: 42)؛ فهذه الوصايا ذات صفة خصوصية. أما الوصايا ذات الصفة العمومية التي تطوي في ذاتها هذه الوصايا فهي: «اذهب بِعْ أملاكك وأعطِ الفقراء» (مت 19: 21)، «فليحمل صليبه ويتبعني» (مت 16: 24)، ويعني بالصليب احتمال المشقات والضيقات، لأن الإنسان الذي أعطى كل ما له للفقير وحمل صليبه، قد أكمل - بضربة واحدة - كل الوصايا اللاحقة.

+ ونفس الأمر نطبِّقه على قول الرسول: «فأُريد أن يصلِّي الرجال في كل مكان، رافعين أيادي طاهرة، بدون غضب» (1تي 2: 8). أما الوصية ذات الصفة العمومية، فهي من كلمات الرب نفسه: «وأما أنت فمتى صلَّيتَ فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء» (مت 6: 6)، وأيضاً «صلُّوا بلا انقطاع» (1تس 5: 17). فإنَّ مَن يدخل مخدعه ويصلي بلا انقطاع، يكون قد نفَّذ ضمناً وصية الصلاة ”في كل مكان“.

وقيل أيضاً: ”لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق... إلخ“، ولكن هذه الوصايا تنطوي ضمناً في: «هادمين ظنوناً (خيالات) وكل علو يرتفع ضد معرفة الله» (2كو 10: 5). فإنَّ مَن يهدم الخيالات يكون قد أقام حاجزاً ضد كل تلك الرذائل.

+ هذا هو السبب الذي من أجله يحث محبو الله ذوو الإيمان الوطيد نفوسهم أن يكملوا الوصايا العمومية، غير مهملين في الوصايا الخصوصية حينما تسنح الفرصة أمامهم.

+ لذلك فالتوبة، في رأيي، تتم باتِّباع الفضائل الثلاث الآتية: تنقية الفكر، والصلاة بلا انقطاع، واحتمال الضيقات التي تأتي علينا. على أن تُمارَس هذه الفضائل لا من الخارج فحسب، بل ومن الداخل أيضاً، حتى أن كل مَن يعملها يصير بعد وقت طويل رزيناً (غير خاضع للشهوة).

+ وطالما أن عمل التوبة لا يمكن إنجازه بدون هذه الفضائل الثلاث، فإني أظن أن التوبة ممكنة في كل الأزمان ولكل مَن يعوزه الخلاص، باراً كان أم خاطئاً؛ إذ ليس من ذروة للكمال إلاَّ وتتطلَّب ممارسة هذه الفضائل الثلاث: بها يتقدَّم المبتدئون إلى حياة التقوى، والسائرون ينالون تقدُّماً في الطريق، والكاملون يثبتون في الكمال.

+ الرب يوصي جميع الناس أن يتوبوا (مت 4: 17)، حتى الروحيون والمتقدِّمون في الطريق عليهم ألاَّ يتغافلوا عن هذا التنبيه، فيخفقوا في الانتباه للأخطاء الصغرى ولكنها خبيثة، فلقد قيل: «الذي يحتقر اليسير يسقط قليلاً قليلاً» (حكمة يشوع 19: 1).

كيف يسقط الإنسان الروحي؟

+ لا تسلني: كيف يمكن أن يسقط الإنسان الروحي؟ لو أنه بَقِيَ كذلك، فلن يسقط. لكنه حين يقبل شيئاً ما مضاداً، ولو كان تافهاً، ويدعه يبقى فيه بلا توبة؛ فإن هذا الشيء يضرب بجذوره فيه وينمو، ولا يطيق أن يبقى منفرداً عنه، بل يُحرِّضه على أن يرتبط به كأنه وثاق، جاذباً إيَّاه قسراً بسبب طول الود وثباته. فإن حارب الإنسان هذا الشر بوسائل الصلاة ويدرأه، فسوف يصون قياس قامته الروحية. ولكن إن نجحتْ أخيراً القوة المتزايدة التي للعادة المتسلِّطة عليه في إنزاله من مستواه المعتاد بإنقاص جهاده وعمل صلاته، فلابد أن ينخدع الإنسان بالشهوات الأخرى.

+ وهكذا يضل الإنسان تدريجياً بواسطة كل شهوة. وعلى قدر ضلاله يتعرَّى من المعونة الإلهية. وأخيراً ينقاد للمعاصي الكبرى، بل وأحياناً ضداً لإرادته، بسبب تحريض ما تسلَّط عليه سابقاً.

+ ولكنك تعود وتسألني: ألم يكن الإنسان قادراً فور بدء تحريك الشر أن يصلِّي لله حتى لا يدعه يرزح تحت نير الشر في النهاية؟

وهأنذا أُخبرك: نعم كان يستطيع، ولكنه بعدم اكتراثه بالصغائر وبقبوله إيَّاها بمحض إرادته الحرَّة كأمر لا يعتدّ به؛ لا يعود يُصلِّي بعد من أجلها، غير منتبه إلى الحقيقة بأن هذه الصغائر يمكن أن تكون بدايةً وسبباً للكبائر، وهكذا الأمر بالنسبة للخير والشر معاً!

+ ولكن الشهوة، إذ تكون قد اكتسبت قوة ووجدت لها مكاناً داخل الإنسان بمعونة إرادته الخاصة، تبدأ بمهاجمته عنوة ضداً لإرادته. ثم وبعد أن يتحقَّق من ورطته، يُصلِّي إلى الله، وهو يتصارع مع العدو الذي كان يُدافع عنه سابقاً في جهالة. والذي كان يُحاجج عنه مع الآخرين. إلاَّ أنه لا ينال معونة، حتى ولو سمع الله صلاته، لأن المعونة تأتي، ليس بحسب تفكير الإنسان، بل بحسب تدبير الله لمنفعتنا. لأن الله، وهو عالمٌ بعدم ثباتنا وبطياشتنا، كثيراً ما يُقدِّم لنا عونه بالأحزان والآلام، وإلاَّ فإننا بخلوِّنا من الآلام نعود فنمارِس ذات التعدِّيات بنشاط.

+ لذلك، فنحن نؤكِّد على وجوب احتمالنا كل ما يُصيبنا، وكذلك حِفظنا لأنفسنا كما يجب في حال التوبة الدائمة.