ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (10: 11-25: 18) 4 - حوادث في الطريق إلى موآب (20: 1-25: 18) د - تابع سقطة إسرائيل في موآب (22: 1-25: 18)
مقدمــة فشل بالاق في أن يجعل بلعام العرَّاف يلعن شعب إسرائيل؛ ولم يكن ذلك بسبب تقوى بلعام وحرصه ألاَّ يُغضب الله، ولكنه كان بسبب خوفه لئلا إذا خالف أوامر الله له بألاَّ ينطق بغير ما يضعه الله على لسانه، أن يصيبه أذى من الله. وهذه هي دائماً شيمة الإنسان الذي ليس في قلبه تقوى الله ومحبته، فإنه يمتنع عن اقتراف الإثم ليس حرصاً على إرضاء الله، ولكن تفادياً للأذية والضرر والعقاب إذا ما هو خالف وصايا الله. وتحضرني ترنيمة جميلة كنَّا نردِّدها أيام شبابنا، تقول:
إني أحـب الرب لا لأربح النعيم
ولا لكي أنجو من العذاب في الجحيم
لكــن أحبـه لأن لي حبـه يحلــو
ذاك الذي مـــن فضلـه أحبني قـبـــل
أما بلعام فلم تكن طاعته لله نابعةً من حبه له ولا حرصه على عدم إغضابه، بل هوذا بعد أن فرغ بلعام من رؤاه التي نطق بها، قام وانطلق ورجع إلى مكانه، وكذلك بالاق الملك مضى أيضاً في طريقه، ولكن يظهر فيما بعد من سياق السِّفْر أن بلعام تلكَّأ ولم يرجع إلى بلاده، فقد ذكر لنا الوحي أنه قُتِل في أرض موآب مع خمسة ملوك مديان (عد 31: 8). من هذا يتضح أن بلعام لم يشأ أن يترك أرض موآب قبل أن يلقي معثرة أمام شعب إسرائيل، لكي ينال رضا بالاق ويحظى بالمكافأة التي كان طامعاً في أن يحصل عليها منه؛ لأنه كان يعلم أن سقوط إسرائيل في الخطية وابتعادهم عن الله الذي يحميهم، فيه إنكسار لهم وتحقيق لِمَا كان يصبو إليه بالاق. وهذا ما يرويه الأصحاح الخامس والعشرون من سفر العدد. سقوط بني إسرائيل في الزنا وعبادة الأوثان: + «وأقام إسرائيل في شِطِّيم، وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب. فدَعَوْن الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن. وتعلَّق إسرائيل ببعل فغور، فحَمِيَ غضب الرب على إسرائيل.» (عد 25: 1-3) تقع شطيم في سهول موآب شرقي الأردن في مقابل أريحا التي تقع على الضفة الغربية للأردن. وهكذا استحسن بنو إسرائيل أن يُقيموا بعض الزمان في سهول موآب، بالقرب من أهل موآب الذين لا يعرفون إله إسرائيل، بل يعبدون بعل فغور. ورغم أن الموآبيين هم من نسل لوط ابن أخي إبراهيم، إلاَّ أنهم تركوا عبادة الإله الحي - إله جدِّهم لوط - وضلُّوا عابدين الأوثان. وإذ اختلط رجال إسرائيل بالموآبيين انهاروا أمام جمال بناتِ موآب ووقعوا في الزنا معهن، واستمالت بنات موآب قلوبهم ليأكلوا مما ذبح للأوثان ويسجدوا لآلهتهن، لأن الخطية والشهوة أعمت عيونهم وأفقدتهم السيطرة على إرادتهم، وجعلت منهم عبيداً منساقين لشهوة أجسادهم، غير مدركين للهوَّة العظيمة التي سقطوا فيها، إذ تعلَّقوا ببعل فغور ونسوا إلههم الذي أخرجهم من أرض مصر. وهكذا نجح بلعام في أن يُلقي معثرة أمام بني إسرائيل، وبذلك استطاع أن يكسب رضا بالاق الملك ويحظى بما كان يصبو إليه من العطايا والمكافآت. وفي هذا يقول العلاَّمة أوريجانوس: [يتضح هنا ما سبق أن أشرنا إليه كثيراً: أن بلعام الذي كانت تعوقه القدرة الإلهية من لعن إسرائيل، إذ كان في نفس الوقت يريد أن يُرضي بالاق، قال له، حسب ما هو مكتوب: «هَلُمَّ أُنبئك (أي أُعطيك نصيحة)...»، ولكننا لم نَرَ هنا، ولا فيما بعد على مدى سفر العدد، ما يُفيد كتابةً عمَّا فعل، إلاَّ أنه يظهر تكميل ذلك في سفر رؤيا يوحنا حيث جاء فيه ما يأتي عن قوم: «متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يُعلِّم بالاق أن يُلقي معثرة أمام بني إسرائيل: أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان، ويزنوا.» (رؤ 2: 14) وهذا يشير إلى أن بلعام استخدم المكر، وأنه أعطى مشورة للملك تتضمن هذا المعنى: هؤلاء القوم ينالون انتصاراتهم ليس من قوتهم الخاصة، ولكن من إرضائهم لله ومن حفظهم للعفة. فإذا أردت أن تهزمهم، فابدأ بجرح عفتهم، وهكذا يأتي الانتصار وحده بلا عناء. وفي مواجهة هذا العدو، فإن قوة الأسلحة الحربية لا يمكن أن تقف ضدها، ولكن مقاومة إغراء المرأة؛ وليس عنف المحاربين، وإنما تحاشي فتنة النساء.](1) كما يقول أيضاً القديس كليمندس الإسكندري: [ألم تستخدم نساء المديانيين جمالهن ليلْهوا العبرانيين عن الحرب، ويقودوهم بعيداً عن ضبط النفس بواسطة الفسق إلى عبادة الأصنام؟ فإنهن أولاً صرْن سيدات عليهم واستغللن جمالهن في غوايتهم وإبعادهم عن السلوك الموقر إلى الجري وراء الملذات مع العاهرات. وهكذا أفقدوهم عقلهم للدرجة التي أعطوا فيها ذواتهم للذبح للأوثان والنساء الأجنبيات. وإذ انهزموا للنساء والملذات في ذات الوقت، تنكَّروا لله وللناموس. وبذلك صار غالبية الشعب خاضعين لأعدائهم بواسطة خدعة النساء، إلى أن جعلهم الخوف واعين إلى الخطر الذي داهمهم.](2) ونتج عن هذه السقطة الشنيعة التي تردَّى فيها أغلب شعب إسرائيل أنهم تعلَّقوا بعبادة بعل فغور، الذي هو إله الموآبيين، إذ أن كلمة ”بعل“ تعني ”رب“، و”فغور“ نسبة إلى جبل فغور الذي في أرض موآب. ولم يكن لائقاً ولا منتظراً إطلاقاً من شعب ذاق مراحم الله ورأى معجزاته وآياته التي عملها معهم على مدى أربعين سنة، وها هم الآن على مشارف أرض الموعد، أن يتركوا عبادة الله الحي ويتعلَّقوا بعبادة صنم صُنع من حجارة صمَّاء. لقد انطمست عيون قلوبهم وعميت بالشهوة التي سقطوا فيها، ففقدوا كل حسٍّ وفهم، فحَمِيَ غضب الله عليهم جداً، وقال الرب لموسى: + «خُذْ جميع رؤوس الشعب وعلِّقهم للرب مقابل الشمس، فيرتدَّ حُمُوُّ غضب الرب عن إسرائيل. فقال موسى لقضاة إسرائيل: اقتلوا كل واحدٍ قومه المتعلِّقين ببعل فغور.» (عد 25: 4و5) ومما يؤسف له أن الذين انساقوا وراء النجاسة وعبادة الأصنام هم رؤساء الجماعة، الذين عيَّنهم موسى رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خمسين، الذين كان يُفترض فيهم أن يكونوا قدوة صالحة لبقية الشعب، ولكنهم صاروا سبب عثرة عظيمة. لذا كان أمر الرب لموسى أن يأخذ القضاة جميع هؤلاء الرؤساء الذين سقطوا وصاروا أسوأ قدوة للشعب، ويقتلوهم ويعلِّقوهم على خشبة أمام جميع الشعب في رابعة النهار، لكي تراهم كل عين ويلمسوا مدى بشاعة الخطية وعاقبتها المُرَّة. لقد كانت هذه هي عقوبة الخطية في العهد القديم، لأن أجرة الخطية هي موت، وإذ كانت الخطية خطية رؤساءٍ من الجماعة، وإذ قد تمادوا فيها إلى حدِّ التعلُّق بعبادة الأصنام، لذلك صارت خطيتهم مُضاعفة، إذ سقطوا في الزنا الجسدي والزنا الروحي بتعلُّقهم بإله غير الرب الإله. لذلك استحقوا اللعنة بأن يُحكم عليهم أن يُعلَّقوا على خشبة. ولكن الله الذي أحب العالم محبة أبدية، فقد دبَّر لنا خلاصاً عظيماً من الخطية والموت الذي هو أُجرة الخطية، ومن اللعنة التي جاءت على العالم بسبب الخطية، إذ أرسل الله ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. وهكذا جاء المسيح: + «وافتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنةً لأجلنا. لأنه مكتوب: ملعون كل مَن عُلِّق على خشبة» (غل 3: 13)، + «لأنه جعل الذي لم يعرف خطيةً، خطيةً لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه» (2كو 5: 21)، + «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر. الذي بجلدته شُفيتم.» (1بط 2: 24) تبجُّح رجل إسرائيلي، وغيرة فينحاس الكاهن لمجد الرب: + «وإذا رجل من بني إسرائيل جاء وقدَّم إلى إخوته المديانية، أمام عيني موسى وأعين كل جماعة بني إسرائيل، وهم يأكلون لدى باب خيمة الاجتماع.» (عد 25: 6) هال الأتقياءُ من الشعب غضبَ الرب على شعبه، إذ عاينوا بأنفسهم تنفيذ حُكْم الموت والتعليق على خشبة لكثيرين من رؤساء الجماعة، فالتجأوا إلى خيمة الاجتماع باكين ونادمين ومتوسلين صفح الرب وعفوه. ولكنهم فوجئوا أثناء هذا المشهد المهيب ما أرعبهم وهالهم أكثر، أن يتبجَّح رجل إسرائيلي ويُقْدِم على فعلةٍ نكراء يتجاهل بها مشاعر الجماعة من أولئك الأتقياء الذين اجتمعوا لدى باب خيمة الاجتماع، ليبكوا على تعدِّيات الرؤساء الذين حُكِمَ عليهم بالقتل والصَّلْب. فقد جاء هذا الرجل، الذي تجرَّد من كلِّ حياءٍ وفَقَدَ كل إحساس بمخافة الله من قلبه، وقدَّم إلى إخوته من رجال سبطه وعشيرته، امرأة مديانية غريبة الجنس لكي يزنوا معها! فتسمَّر الجميع في أماكنهم من هول ما رأوا، إلاَّ واحد أخذته الغيرة على مجد الرب: + «فلما رأى ذلك فينحاس بن ألعازار بن هارون الكاهن، قام من وسط الجماعة، وأخذ رُمحاً بيده، ودخل وراء الرجل الإسرائيلي إلى القبة، وطعن كليهما: الرجل الإسرائيلي، والمرأة في بطنها. فامتنع الوبأ عن بني إسرائيل. وكان الذين ماتوا بالوبـإ أربعة وعشرين ألفاً.» (عد 25: 7-9) لقد حرَّك هذا المنظر فينحاس الكاهن بغيرة إلهية، فقام من بين الجماعة وطعن كليهما: الرجل الإسرائيلي، والمرأة المديانية في بطنها. لم يكن الموقف يحتمل سكوتاً أو أَنصاف الحلول. فلقد استشرى الشرُّ ووصل التبجُّح إلى نهايته، فكان يلزم البتر حالاً، والقطع في الأمر قبل أن ينتشر المرض في كل جسم الجماعة، خاصةً وأن الرب قد سمح للوبأ أن يبيد أربعة وعشرين ألفاً من الشعب. وبمجرد أن أقدم فينحاس على الانتقام لمجد الرب من المتعدِّين، حتى امتنع الوبأ عن بني إسرائيل، لأن غيرة فينحاس قد ردَّتْ سخط الرب عن بني إسرائيل: + «فكلَّم الرب موسى قائلاً: فينحاس بن ألعازار بن هارون الكاهن قد ردَّ سخطي عن بني إسرائيل، بكونه غار غيرتي في وسطهم، حتى لم أفْنِ بني إسرائيل بغيرتي. لذلك قُلْ: هأنذا أُعطيه ميثاقي، ميثاق السلام. فيكون له ولنسله من بعده، ميثاق كهنوت أبدي، لأجل أنه غار لله وكفَّر عن بني إسرائيل. وكان اسم الرجل الإسرائيلي المقتول الذي قُتِل مع المديانية، زِمْري بن سَالو، رئيس بيت أبٍ من الشمعونيين؛ واسم المرأة المديانية المقتولة كُزْبي بنت صُور، هو رئيس قبائل بيت أبٍ في مديان.» (عد 25: 10-15) ويُعلِّق العلاَّمة أوريجانوس على ذلك قائلاً: [فكانت كلمة الله لموسى قائلاً: «فينحاس بن ألعازار بن هارون الكاهن قد ردَّ سخطي». فقد استطاع ذاك أن يكون قدوة صالحة لشعب العهد الأول. ولكن أنتم الذين افتُديتم بالمسيح، والذين وُهِب لكم ”سيف الروح“ بدلاً من السيف المادي الذي نُزع من أيديكم، وأمسكتم بسيف الروح. فإذا رأيتَ فكراً إسرائيلياً قد تدنَّس مع المديانيات العاهرات، أعني أنه إذا تحرَّك في قلبك مع انفعالات شيطانية، فلا تدَّخر وسعاً، ولا تتردَّد؛ بل اقطعه في الحال واقتله. فبـِطَعْن الأعضاء، أي الوصول إلى أعماقها واختراق المواضع الخفية لطبيعة النفس، نقتلع بيت الداء حيث الخطية رابضة، حتى لا تعود تحبل، ولا تلد، ولا يرجع نسل الخطايا الملعون ويُفسد خيمة الإسرائيليين. فإذا فعلتَ ذلك فإنك ترد في الحال سخط الرب، لأنك بذلك تستحضر يوم الدينونة، الذي قيل عنه في الكتاب إنه «يوم سخط وغضب» (انظر رو 2: 5و8). وبعد أن تستأصل من نفسك جذور الخطية، التي يُقصد بها هنا أعضاء المديانية، فإنك تصبح بكل تأكيد قد أدركت يوم الدينونة. فلنقُمْ، إذن، ونصلِّي لكي نحمل في جعبتنا دائماً ”سيف الروح“ الذي بواسطته يمكننا اقتلاع أصول الخطايا وتفرُّعاتها دفعة واحدة. فليجعلنا الله مستحقين لفينحاس الحقيقي الذي هو يسوع المسيح نفسه، ربنا الذي له المجد والقوة إلى دهر الدهور. آمـين.](3) لقد شهد الرب لفينحاس أنه قد غار غيرة الرب، وامتدح غيرته لأجل مجده حتى أن الرب ردَّ سخطه عن بني إسرائيل بسبب غيرة فينحاس. فقد ذكر الكتاب مكرِّراً ومُذكِّراً شعب إسرائيل مرات عديدة أنه إله غيور، قائلاً: + «فإنك لا تسجد لإله آخر، لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو.» (خر 34: 14) + «لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور.» (تث 4: 24) + «لأن الرب إلهكم إله غيور في وسطكم، لئلا يحمى غضب الرب إلهكم عليكم، فيبيدكم عن وجه الأرض.» (تث 6: 15) وكافأ الرب فينحاس بأن أعطاه ميثاقه، ميثاق السلام، وميثاق الكهنوت الأبدي، ذلك لأنه بغيرته صنع سلاماً بين الله وشعب إسرائيل، إذ كفَّر عن خطيتهم بقتله للرجل المستبيح والمرأة المديانية. لأن التكفير عن الخطايا معناه تغطية الخطية وسترها عن عيني الرب. إلاَّ أن هذا التكفير الذي صنعه فينحاس لم يكن سوى عملٍ مؤقتٍ محدود. أما فينحاس الحقيقي الذي هو يسوع المسيح ربنا فهو الذي قيل عنه: «غيرة بيتك أكلتني» (مز 69: 9، يو 2: 17)، وهو الذي بكهنوته الأبدي قدَّم ذاته «كفَّارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً.» (1يو 2: 2) (يتبع) (1) Hom. XX,1:2,3. (2) Stromateis, Book 2,83:4. (3) Hom. XX,5:1. |