دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

 

بحث كتابي آبائي(*):

 
الاتحاد الزيجي بالمسيح
في سفر نشيد الأنشاد
 

عهد الزيجة بين الرب وشعبه:
صوَّر أنبياء العهد القديم العهد بين يهوه وشعب إسرائيل في برية الخروج، سيناء، بعهد زيجة. ولكن هذا الاتحاد كان فقط رمزاً لاتحاد أكثر كمالاً سيتم في آخر الزمان في ”الخروج الجديد“: «هأنذا أتملَّقها وأذهب بها إلى البرية وأُلاطفها (أو ”أتكلَّم لقلبها“)» (هو 2: 14). ويعتبر بعض الشُّرَّاح أن سفر نشيد الأنشاد نبوَّة لهذه الزيجة العتيدة، فهو قصيدة مُلحَّنة للعُرس الأُخروي للحَمَل. ويصف سفر الرؤيا هذه الزيجة هكذا: «رأيتُ المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلةً من السماء من عند الله مُهيَّأة كعروس مزيَّنة لرجلها» (رؤ 21: 2). والعهد الجديد يُظهر لنا هذه الزيجة الأُخروية بأنها تحققت بتجسُّد الكلمة الذي وضع فيه عقد اتحاد غير قابل للانحلال مع الطبيعة البشرية: «مَن له العروس فهو العريس» (يو 3: 29). وهذه الزيجة ستتحقق أخيراً عندما يعود العريس في آخر الزمان حيث تُشكِّل نفوس الأبرار موكب العُرس الذي يخرج للقائه.
والزيجة بين المسيح والكنيسة تتواصل بين تدشينها واكتمالها في المجيء الثاني، ويتم ذلك في حياة الكنيسة السرائرية. وهذه الوجهة الزيجية تصحُّ في كل من سرَّي المعمودية والإفخارستيا. والقديس ذهبي الفم يُسمِّي الدخول في المسيحية: ”الزيجة الروحية“، ولدينا شواهد عديدة على ذلك تتعلَّق بكِلاَ السرَّين. فبخصوص المعمودية نجد ذلك أولاً عند العلاَّمة ترتليان:
[عندما تُقبل النفس إلى الإيمان وتُعاد خلقتها من الماء والروح القدس في ولادتها الثانية يستقبلها الروح القدس. والجسد يرافق النفس في هذا العُرس مع روح الله. يا للزيجة المباركة إن كان لا يشوبها زنا.]
وقد وُجدت نفس الفكرة عند العلاَّمة أوريجانوس: ”المسيح يُسمَّى عريساً للنفس، فهو الذي تقترن به النفس عندما تُقبل إلى الإيمان“. ويقول العلاَّمة ديديموس: ”إن ذاك الذي خلق نفوسنا يتخذها في جرن المعمودية عروساً له“. والإفخارستيا أيضاً تُصوَّر كاتحاد زيجي بين المسيح والنفس كما يقول القديس كيرلس الأورشليمي: ”أعطى المسيح أبناء خدر العُرس الاستمتاع بجسده ودمه“. ويقول العلاَّمة ثيئودوريت: ”إننا بأكل خبز العريس وشُرب دمه نتمم اتحاداً زيجياً.“
يوجد، إذن، أساس مُعيَّن لتفسير سفر النشيد على أساس أنه نبوَّة عن الزيجة الأُخروية، وباعتباره رمزاً للانضمام إلى المسيحية، ووليمة عُرس المسيح والنفس. ويمكن إضافة سبب آخر من الطقس الليتورجي: ففي القرن الرابع كان يُمارَس سر المعمودية أثناء ليلة الفصح (عيد القيامة). ونحن نعلم أنه في الليتورجية اليهودية كان يُقرَأ سفر النشيد أثناء مناسبة الفصح، كما نعلم أن الليتورجية المسيحية القديمة كانت متأثـِّرة بقوة بالليتورجية اليهودية. إذن، فمن المحتمل جداً أن الليتورجية المسيحية هنا أيضاً اتخذت نظام قراءات ليتورجية المجمع اليهودي، ثم أظهرت في المعمودية والإفخارستيا تحقيق النص الذي يُقرَأ أثناء هذا الموسم الليتورجي.
التفسير السرائري لسفر النشيد:
هنا يجب أن نميِّز بين ناحيتين: الأولى: يُعتبر سفر النشيد ككل عند الآباء أنه رمز للسرائر الكنسية باعتبارها اتحاد زيجي بين المسيح والكنيسة. وهذا يظهر كتطوُّر منطقي للمعنى الحرفي للنص. ولكن الآباء حاولوا أيضاً أن يربطوا آيات مختلفة من سفر النشيد بنواحي مختلفة من ليتورجية الدخول للمسيحية. وهنا نجد عناصر ذات قيمة متفاوتة: بعضها له أساس كتابي كمَثَل الدعوة إلى الوليمة (نش 5: 1). والبعض الآخر على الأقل مؤسَّس على تقليد قديم شائع مثل خلع الثوب (نش 5: 3). والثانية: أننا نجد مجرد مجازيات مؤسَّسة على متشابهات سطحية.
والقديس كيرلس الأورشليمي يبدأ تعليمه للموعوظين بقوله:
[لقد انطلقت بالفعل رائحة طِيب البركة إليكم أيها الموعوظون. إنكم بالفعل تجمعون زهوراً روحية لتنسجوا أكاليل سماوية. إن طيب الروح القدس الحلو قد انسكب بالفعل. إنكم في مدخل القصر الملكي، ولعل الملك يقودكم إليه. حقاً إنه من الآن فصاعداً قد ظهرت الزهور على الشجر، والآن لابد أن تنضج الثمرة.]
فالإشارات إلى سفر النشيد واضحة هنا: ”الزهور ظهرت“ كما في نش 2: 12، و”الطِّيب قد انسكب“ كما في نش 1: 3، و”الملك يقودكم إلى مسكنه“ كما في نش 1: 4: «أدخلني الملك إلى حجاله». فالموعوظون هم على عتبة جنة الفردوس الملكية حيث تتم الزيجة، وقد انطلقت بالفعل أنفاس هواء الفردوس إليهم.
والقديس أمبروسيوس يُعبِّر بدقة أكثر مطبِّقاً آية أخرى من النشيد على حالة الموعوظين بقوله: ”اجذبنا فنجري وراء رائحة أطيابك (نش 1: 3و4)“. إن طيب الفردوس هذا، رائحة الروح القدس الحلوة هذه، إنما هي نعمة الله المسبقة التي بها يجذب النفوس إلى فردوسه. ويُكمل القديس أمبروسيوس: ”انظر ما تعنيه هذه الكلمات: إنك لا تستطيع أن تتبع المسيح إن لم يجتذبك المسيح بنفسه“. كما أنه شرح هذا النص في مقالته الأخرى عن الأسرار قائلاً: ”اجذبنا لكيما نستنشق رائحة القيامة.“
ويجب أن نلاحظ أن في قول القديس كيرلس قد ارتبط فصل الربيع برائحة طيب الفردوس. ففي بدايات تعاليم الموعوظين نجد تشبيه زهور الربيع التي ستُجمع ثمارها في المعمودية. وينبغي ألاَّ ننسى أن المعمودية كانت تُمارَس في فصل الربيع كما يشير القديس كيرلس (Procatechesis XXXIII, 837 B). فالربيع الذي خلق فيه الله العالم، إنما هو تذكار سنوي لبدء الخليقة. وكون قيامة المسيح تمت في فصل الربيع فهي تشير إلى أنها خليقة جديدة. والمعمودية بدورها هي أيضاً خليقة جديدة. وهكذا فإن النص الليتورجي ليس هو فقط الذي يربط المعمودية بفصل الربيع، بل إن الربيع نفسه يحوي مغزىً رمزياً للمعمودية.
ورغم أن المرشح للمعمودية يستنشق رائحة أطياب الفردوس، إلاَّ أنه لا يزال حتى الآن خارجاً. فتقديمه إلى خدر الزيجة حينئذ يُعتبر كرمز للدخول إلى المعمودية التي تفتتح الزيجة السرائرية للنفس بالمسيح. وكتاب: ”التعاليم للموعوظين“ يذكر أن ذلك قد أُشير إليه مُسبقاً بالآية: «أدخلني الملك إلى حجاله» (نش 1: 4). وهكذا يقول القديس كيرلس الأورشليمي: ”حتى الآن أنتم واقفون خارج الباب. فلعله يحدث أنكم تستطيعون أن تقولوا: «أدخلني الملك إلى حجاله»“. والقديس أمبروسيوس يُطبِّق ذلك على الدخول إلى علِّية وليمة الإفخارستيا. ولكنه في مكان آخر يفسِّر خدر العريس بأنه يعني المكان الذي يتم فيه سر المعمودية.
خلع الثوب العتيق وارتداء الجديد:
أول طقس يُجرَى عند الدخول إلى المعمودية هو خلع الملابس. ويرتبط هذا الطقس بآية سفر النشيد التي تُقتَبَس مراراً في التعاليم السرائرية للموعوظين: «قد خلعتُ ثوبي فكيف ألبسه» (نش 5: 3). والقديس كيرلس الأورشليمي يستشهد بها بقوله: ”اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله، وقولوا آية سفر النشيد: «قد خلعتُ ثوبي...»“. وفي مكان آخر يقول: ”هكذا أنتم، عندما تكونون قد تطهَّرتم، ففي المستقبل راقبوا تصرفاتكم لتكون مثل الكتان النقي، ولكي يبقى رداؤكم غير دنس لكي يمكنكم أن تقولوا دائماً: «قد خلعتُ ثوبي...»“. وفي مرة ثالثة يقول: ”بمجرد أن دخلتم خلعتم ثيابكم الذي هو صورة لخلع الإنسان العتيق مع أعماله. فلعل النفس من الآن فصاعداً لا تلبس الثوب الذي خلعته مرةً أخرى، بل تقول ما ينسبه سفر النشيد لعروس المسيح: «قد خلعتُ ثوبي...»“.
والقديس غريغوريوس النيسي طوَّر هذه الفكرة في شرحه لسفر النشيد المليء بأصداء سرائرية قائلاً: ”«خلعتُ ثوبي...»، بهذا الكلام تَعِدُ العروس بألاَّ تلبس الثوب الذي خلعته مرة أخرى، بل أن تكتفي بثوب واحد حسب الوصية التي أُعطيت للتلاميذ. هذا الثوب هو الذي لبسته عندما صارت مجدَّدة بالمعمودية“. وفي هذه الآية من سفر النشيد ترى الكنيسة الشرقية رمزاً للمعمودية.
طقس المعمودية في سفر النشيد:
يحتوي هذا السفر على إشارات عديدة إلى الماء الذي يُفسَّر بمعنى خاص بسرِّ المعمودية. فالآية: «عيناه كالحمام على مجاري المياه، مغسولتان باللبن» (5: 12)، ربطها القديس كيرلس الأورشليمي بمعمودية المسيح التي حلَّ فيها الروح القدس على مياه الأردن على هيئة حمامة، فيقول: ”بهذه الآية يُخبر السفر مُسبقاً، بطريقة رمزية، أن المسيح سيظهر بهذه الطريقة علانيةً أمام أعين البشر“. والقديس أمبروسيوس يتوقف عند الإشارة إلى اللبن الذي يعني البساطة، فيقول: ”الرب يُعمِّد في لبن، أي بإخلاص، والذين يتعمَّدون في لبن هم الذين يكون إيمانهم بلا غش“. ولكنه يشير إلى أن حمامة المعمودية لها علاقة بالآية: «يا حبيبتي... عيناك حمامتان.» (نش 4: 1) (يتبع)